أَسْحارٌ رَمَضانِيَّةٌ
{وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَىٰ ۚ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ}.
إِذا كُنت تتصوَّر بأَنَّك قادرٌ على إِقناعِ كلِّ النَّاس بكلِّ أَفكارك في كلِّ وقتٍ فأَنت على خطأ حتماً.
إِنَّ المُتلقِّين على أَشكال أَقلَّهم عدداً هم الذين على استعدادٍ لقَبول الرَّأي الآخر! أَمّا الأَغلبيَّة فإِنَّهم على شِكلَين؛ [قافل] لا يقتنع بأَيِّ رأيٍ آخر حتى إِذا ثبُتَ لَهُ أَنَّهُ رأيٌ صحيحٌ وسليمٌ! وهم الذين يلجُّونَ في الجدالِ من أَجلِ الجدالِ! أَو أَنَّهُ يتَّبع من يظنُّ بهِ أَنَّهُ الحقُّ المُطلق ولذلك يرفض أَن يُناقش فيما يقولهُ ويفعلهُ! وهم الذين يتَّبعُونَ اتِّباعَ الأَعمى.
ولقد قسَّمهُم أَميرُ الْمُؤْمِنِينَ (ع) إِلى ثلاثة أَقسام في كلامهِ لكُميل بن زياد بقولهِ {النَّاسُ ثَلَاثَةٌ فَعَالِمٌ رَبَّانِيٌّ وَمُتَعَلِّمٌ عَلَى سَبِيلِ نَجَاةٍ وَهَمَجٌ رَعَاعٌ أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ يَمِيلُونَ مَعَ كُلِّ رِيحٍ لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ الْعِلْمِ وَلَمْ يَلْجَئُوا إِلَى رُكْنٍ وَثِيقٍ}.
تعالُوا نقرأ هَذِهِ الآية المُباركة التي تحكي قصَّة هؤُلاء [القافلين]! يَقُولُ تعالى على لِسانهِم {وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ}.
إِنَّهم لا يتلقُّون الكلام من الآخر على أَنَّهُ فكرة أَو رأي! وإِنَّما يتلقَّونهُ كمؤامرةٍ مثلاً كإِسلُوبٍ لسحرهِم وبالتَّالي للتَّأثير عليهم من حيث لا يُريدُون! ولذلكَ يتجنَّبونهُ ويتحصَّنونَ ضدَّهُ بشتَّى الطُّرُقِ! والحال هُوَ ليس كَذَلِكَ أَبداً!.
مُقابل هذا النَّوع من النَّاسِ هناك نوعٌ آخر يُشعِرُك باستعدادهِ لقَبول الرَّأي الآخر بمجرَّد أَن يحسَّ بأَنَّهُ الحق أَو جزءٌ من الحقِّ! وهؤلاء هم الذين تتوقَّع منهم التَّفاعل مع الرَّأي لدرجةِ القَبول وذلك بعقولٍ مُنفتحةٍ على الآخر وقلوبٍ تفقهُ ما تسمع وتعرُف كيف تُجادل وتستوعب القضايا بشَكلٍ سليمٍ بِلا تعصُّب.
يَقُولُ عنهم ربُّ العزَّة {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَىٰ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ ۖ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ}.
ولقد ضربَ الله مثلَين لنوعَين مُتناقضَين من النَّاس تعرف حقيقة توجُّهاتهم من خلالِ طريقةِ تعاملهِم مع الحدث! النَّوع الأَوَّل هو الذي قال عَنْهُ ربُّ العِزَّة {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ} أَمّا النَّوع الثَّاني فقد قال عَنْهُ الله تعالى {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ ۚ رَضُوا بِأَن يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}.
فالنَّوع الأَوَّل يزعل على نفسهِ إِذا لم يجد ما يستعدَّ بهِ للفعلِ! وهو دليلُ الصِّدق! أَمّا الثَّاني فيتحجَّج ليتهرَّب من الإِستعدادِ للفعلِ على الرَّغمِ من أَنَّهُ يمتلك العِدَّة والعَدد والظُّروف والأَدوات التي تؤَهِّلهُ لذلكَ! وهو دليلُ الكذبِ والنِّفاقِ.
ولقد حدَّد القرآن الكريم جذر النُّقطة الأَساسيَّة التي تحدِّد نوعيَّة النَّاس بهذا الصَّدد، أَلا وهوَ طريقة تعامل الإِنسان مع وظيفة الأَدوات التي وهبها لَهُ ربُّ العِزَّة لتُساعدهُ وتُمكِّنهُ من التَّعامل مع الفكرةِ بطريقةٍ صحيحةٍ، يقول تعالى {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}.
فالذين يستوعبُون الرَّأي ويصغُون إِليه ويناقشُونهُ هم الذين يوظِّفُون أَدوات السَّمع والإِصغاء والتفكُّر بشَكلٍ صحيحٍ، كما في قولهِ تعالى {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} أَمّا الذين لا يستوِعبُون شيئاً أَو لا يريدُون أَن يستوعبُوا شيئاً فالعكس من ذلك تماماً، يَقُولُ تعالى {وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَىٰ لَا يَسْمَعُوا ۖ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ}.
وما أَجملهُ من وصفٍ {يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} و {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ ۚ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ} و {وَمِنْهُم مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ ۚ أَفَأَنتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ} كيف؟! لأَنَّهم مشغولُون بتحضيرِ الردِّ حتى قَبْلَ أَن يستوعبُوا شيئاً ممَّا تقولُ.
إِنَّ من أَخطر الأَشياء التي يجب أَن نحذرَها هو التَّشكيك بما نتيقَّن من صحَّتهِ لمُجرَّد عدم إِستيعاب الآخرين لَهُ سواءً أَكانَ علماً نافعاً أَو عملاً صالحاً أَو رأياً سديداً أَو مشروعاً سليماً! ولذلك قَالَ أَميرُ الْمُؤْمِنِينَ (ع) {رُبَّ عَالِمٍ قَدْ قَتَلَهُ جَهْلُهُ وَعِلْمُهُ مَعَهُ لَا يَنْفَعُهُ} فمثلهُ مصداقُ قولهِ (ع) {هَلَكَ امْرُؤٌ لَمْ يَعْرِفْ قَدْرَهُ} فـ {الْعَالِمُ مَنْ عَرَفَ قَدْرَهُ وَكَفَى بِالْمَرْءِ جَهْلًا أَلَّا يَعْرِفَ قَدْرَهُ}.
تعالُوا نقرأ العلاقة بين الشكِّ واليقين في قولِهِ (ع) {لَا تَجْعَلُوا عِلْمَكُمْ جَهْلًا وَيَقِينَكُمْ شَكّاً إِذَا عَلِمْتُمْ فَاعْمَلُوا وَإِذَا تَيَقَّنْتُمْ فَأَقْدِمُوا} فالشكُّ مع اليقينِ يضيِّع العلم وتالياً العمل الذي ينبَني عَلَيْهِ.