اليمين الخشن… واليسار الباحث عن خشونته!

ishraq

الاشراق

الاشراق | متابعة.

اندفاعة أوروبا، بل كوكب الأرض برمّته، وبشكل محموم، نحو اليمين، اليمين غير «الوسطيّ» غير التقليديّ ولا الليبراليّ، أي نحو «اليمين الخشن» ليست من النوع الذي يمكن تحصيلُ نظرٍ ما، أو تفعيلُ عملٍ ما، على قاعدة إنكارها، أو المكابرة على مداها، أو استعجال تراجعها.

 من ينتظر هذه المفاصلة الانتخابيّة أو تلك، في هذا البلد الأوروبيّ أو ذاك، لـ«التفاؤل» مجدّداً بمسار التاريخ، وزفّ البشرى بأنّ هذا التاريخ عادَ «يتقدّم» على طريق القيم «المساواتيّة» الكونيّة، يضيّع وقته ويعبث بأعصابه، ويكابر على الخيبة ليجعلها تتضاعف.


فموجة «الزحل يميناً» ليست من النوع العارض. ليست «شّدة وتزول» في سنوات قليلة. إنّها السمة التاريخيّة للمرحلة. في الوقت عينه، هي سمة لا يمكنها أن تبتلع كل حركة الواقع. هي سمة تنتج – كما كل ظاهرة أخرى ضمن هذا الواقع ـ حدودها، ونقائضها.
أما المتضرّر مباشرة من صعود «اليمين الخشن» فهو اليمين «غير المتطرّف» النهج الموازن بين عناصر محافظة وأخرى ليبراليّة. التقليد الأيديولوجيّ والسياسيّ الذي كان يوحي بالغطرسة وبالوقار معاً.
فهذا دونالد ترامب مثلاً. تراه يستفيد من «السهو» الطافح لدى غريمه في مقابل صخبه الذي لا يكلّ. لكن، قبل ذلك، الذي فعله ترامب بتقاليد «الحزب الجمهوريّ»؟ سخر منها، عاث فيها فساداً. أخضع الجمهوريين لجنوحه ومزاجيّته. لو لم يرضوا به مرشّحاً للحزب، بعمومه، لخاض الانتخابات ضدّهم وضدّ الديمقراطيين معاً، وشقّ اليمين حتى لو كانت حصيلة ذلك إمساك الديمقراطيين بالسلطة. وسابقاً، أيّام كان ترامب في البيت الأبيض، راهنَ الديمقراطيّون مطوّلاً على تصدّع جبهة «الحزب الجمهوريّة» المدافعة عن ترامب. شيئاً من هذا لم يحدث.
وفي فرنسا؟ الخاسر الواضح الوحيد في التحوّلات السياسية ـ الانتخابية هو «يمين الوسط». قسم منه هجره إلى اليمين المتطرّف، والقسم الآخر وجد نفسه ضمن برلمان يستفحل فيه الاستقطاب الثلاثي بين شعبويات، واحدة يمينية متطرفة والثانية «شعبوية الوسط الماكرونيّ، «ما بعد اليمين واليسار» والثالثة شعبوية يساريّة. أما الديغوليّة، بل حتّى الشيراكيّة، فما الذي بقي منها في برلمان فرنسا؟
«اليمين الخشن» بصدد وراثة اليمين كلّه. حركة زحل أوروبا والعالم نحو اليمين أكثر فأكثر تستند إلى هذه المعادلة إلى حدّ كبير. لا يمكن في المقابل ترجيح منحى مشابه على الضفة المقابلة؟ لا يمكن القول بأنّ «اليسار الشعبويّ» بصدد وراثة اليسار كلّه.
تركيبة «الجبهة الشعبية الجديدة» التي اجتمعت تلاوين اليسار الفرنسيّ تحت لوائها تقول الكثير في هذا الصدد.
ثمّة في هذه الجبهة يسارات أربعة. اليسار الوريث لخط «الأممية الثانية» (الاشتراكيّة الإصلاحيّة). اليسار الوريث لخطّ «الأممية الثالثة» (الشيوعيّون). اليسار الشعبويّ يتقدّمه جان لوك ميلونشون. اليسار البيئي. لكن هذه اليسارات الأربعة يمكن أن ينظر لها من زاوية أخرى. يسار «قليل الحساسية» تجاه الإمبريالية، يقابله يسار «قليل الحساسية» تجاه التوتاليتارية. إنّما في جبهة واحدة. ليس للمرة الأولى. بل للمرة الثالثة.
لنعد إلى مطلع القرن الماضي. عام 1914 التحق كل حزب اشتراكيّ ـ ديمقراطيّ بحكومة بلاده في الحرب بين الإمبرياليّات. أمّن ذلك الأرضية بعد ذلك لـ«الانشقاق الشيوعيّ» عن الاشتراكيّة ـ الديمقراطيّة. إنّما بمفارقة المفارقات: رفض البلاشفة مقتل ملايين الناس في الخنادق والجبهات بين البلدان المتحاربة، إنّما لصالح الذهاب إلى الحرب الأهليّة، وأكبرها على الإطلاق تلك الروسيّة، ومن ثم، ومن بعد تفضيل الحرب الأهلية على تلك الإمبريالية ـ الإمبريالية، إيثار السلام التوتاليتاريّ على قاعدة نظرية «بناء الاشتراكيّة في بلد واحد». هذا قبل الحرب العالمية الثانية. أما بعدها، فقد امتد السلام التوتاليتاريّ ليشمل بلدان أوروبا الوسطى والشرقية الخاضعة للسطوة السوفياتية عليها.

اليسار «الأبرز» في كل بلد يختلف من حيث نسيجه نفسه عن اليسار الأبرز في البلد الآخر. هنا، «اليسار الشعبويّ» يبدو في حظ أوفر. وهناك، «اليسار الليبراليّ» يبدو هو الواجهة

رغم ذلك، قامت عام 1936 «الجبهة الشعبية» في بلد كفرنسا. حدث ذلك من بعد الإقلاع عن مرحلة تصادميّة طبعت العلاقة بين الشيوعيين والاشتراكيين ـ الديمقراطيين قبل ذلك بسنوات قليلة.
ففي مطلع العقد نفسه، استطاب الشيوعيّون رجم اليسار الآخر، «الإصلاحيّ» بأنّه «اشتراكيّ ـ امبرياليّ». والمشكلة أنّ الشيوعيين تعسّفوا في المماثلة بين الاشتراكيين ـ الديمقراطيين وبين الفاشيين، واستفاد النازيّون عملياً من هذا الغلوّ. ثم عدل الشيوعيون عن موقفهم هذا بعد حين، وصاروا من دعاة تشكيل الجبهات الشعبية الواسعة لمواجهة صعود الفاشية.
وعندما قامت «الجبهة الشعبية» في فرنسا عام 1936 جمعت أساساً بين حزب اشتراكيّ («الفرع الفرنسيّ للأممية العمالية» بقيادة ليون بلوم) قليل السلبية تجاه الاستعمار والإمبرياليّة (لاحقاً تماهى بلوم تماماً مع الصهيونية) وبين حزب شيوعي مفتون بالتوتاليتاريّة الستالينيّة.
تكرّر الأمر نفسه مطلع الثمانينيات مع وصول فرنسوا ميتران إلى الإليزيه. تحالف بين حزب اشتراكيّ يطوي صفحة الابتعاد الديغوليّ عن «حلف شمالي الأطلسيّ» وبين حزب شيوعيّ ظلّ تمايزه عن موسكو دون مستوى الاعتراض على غزو أفغانستان.
هذه ليست مجرّد «اختلافات حول السياسة الخارجيّة». أن يكون هناك يسار «ضدّ» للتوتاليتاريّة والاستبداد و«ضدّ» للإمبرياليّة والاستعمار في وقت واحد، فهذا، قد حان الوقت للإقرار بأنّه لم يتوفّر في القرن الماضي على النطاق الأوسع. وبالنسبة إلى قرننا أيضاً، لا يمكن اسقاط مناخ 1936 ومطلع الثمانينيات على السياق الحاليّ. إنمّا لا يزال هناك ضمن اليسار معضلة شبيهة. قسم من هذا اليسار «خفيف النقد» تجاه الاستعمار والإمبريالية، وقسم آخر «خفيف النقد» تجاه التوتاليتاريّة والاستبداد والسلطويّة في روسيا والصين والعالم الثالث. تعليق المسألتين جانباً (الإمبرياليّة ومآلاتها، والتوتاليتاريا وما بعدها) والترويج في الوقت نفسه بأنّ اليسار يمكنه أن يتوحّد على قاعدة «القضايا الاقتصاديّة ـ الاجتماعيّة» هو الوهم بعينه.
اليوم الذي يظهر فيه يسار قادر على تجذير الموقف من الإمبرياليّة والتوتاليتاريّة في وقت واحد لم يأت بعد. وهذه مشكلة كونيّة.
يتعامل عدد كبير من يساريي العالم الثالث باستخفاف مع أخبار اليسار الأوروبيّ، باعتبار أنّه بأعمه الغالب، «مدجّن إمبريالياً» ويتعامل كثير من يساريي العالم ما بعد الصناعيّ مع أخبار اليسار في بلدان العالم الثالث، على أنّهم، بأعمهم الغالب أيضاً، «مدجّنون استبدادياً».
والنتيجة أنّ اليسار «الأبرز» في كل بلد يختلف من حيث نسيجه نفسه عن اليسار الأبرز في البلد الآخر. هنا، «اليسار الشعبويّ» (الذي يرتفع فيه معدّل نقد الإمبريالية، إنما على حساب نقد التوتاليتاريّة والاستبداد) يبدو في حظ أوفر. وهناك، «اليسار الليبراليّ» (الذي يرتفع فيه نقد التوتاليتاريّة، وينعدم فيه نقد الإمبرياليّة) يبدو هو الواجهة.
الميلونشونية مثال على الحالة الأولى (سوى أنّها في «جبهة شعبية» انتخابية مع اليسار الليبراليّ، «الحزب الاشتراكي»).
و»حزب العمّال» البريطانيّ في حلّته الحالية، كما الحزب الاشتراكي ـ الديمقراطيّ الألمانيّ، نموذجان على الحالة الثانية. وطبعاً، «الحزب الديمقراطيّ» في الولايات المتحدة إن جرى التمادي في توسيع دائرة المقارنات.
الأمور أوضح عند اليمين: هناك «يمين خشن» يتوسّع على حساب اليمين الممأسس، الإستبلشمنتيّ، ويدور الجدل حوله. السؤال: هل كلما تمدّد أهل الخشونة هؤلاء على حساب اليمين التقليديّ ورثوا صفاته، وصاروا بالتدريج أقل شعبويّة وتوتراً وأكثر ليناً؟ أم أنّ المطروح هو العكس تماماً؟
هو سؤال مفتوح على المستقبل. لكنه يتحرّك حتى الآن ضمن محدّدين: أنّ المجتمعات ما بعد الصناعية تشيخ، وتواجه «ركوداً ديموغرافياً» بصدد أن يتعولم شيئاً فشيئاً في اتجاه عدد من المجتمعات «النامية». وأنّ معدّل الأجور الفعليّة للعدد الأكبر من ذوي الأجر في المجتمعات ما بعد الصناعية يواجه بدوره جموداً منذ ما يقارب النصف قرن.
اليمين الخشن يعبّر عن التوتّرات الناشئة عن هذين المحدّدين بشكل أكثر «حميمية» من كل يسار. إنّما بشكل، إذا ما انخفض الصخب قليلاً، لظهر أنّه ليس هناك أي طرح يقدّمه أهل «الخشونة» هؤلاء، لا لمواجهة المعضلة الديموغرافية (التي ستظهر بشكل أكثر خطورة عندما تنحي المهاجرين وأبناءهم عن هرم الأجيال والطبقات معاً في المجتمعات الأوروبية) ولا لمواجهة معضلة «مراوحة الأمور مكانها» على الأغلب، منذ عقود، بالنسبة للعدد الأكبر من الناس. وقد تكون هذه المراوحة أخطر على النفس البشرية من ازدياد الأمر سوءاً. أما اليسار، فهو منقسم انقسامين. أولاً لأنه لا يحسم إذا كان يناسبه أكثر «الخشونة» ضد الإمبريالية أولاً أو ضد التوتاليتارية والاستبداد (بما فيه الحركات الاستبدادية ـ الإحيائية وليس فقط الأنظمة). وثانياً، لأنه لا يحسم إن كانت تناسبه «الخشونة» من الأساس!

تقرير تابعته الاشراق للكاتب وسام سعادة

لا تتبنى الاشراق بالضرورة الاراء والتوصيفات المذكورة.

Copyright © 2017 Al Eshraq TV all rights reserved Created by AVESTA GROUP