سوريا كرافعة ضغط على لبنان.. من "خطوط الأمان" الإسرائيلية إلى "الوطن الأزرق" التركي

ishraq

الاشراق

الاشراق | متابعة.

لبنان اليوم ليس على تماسٍ مع خطرٍ واحد فحسب، بل هو محاطٌ أيضاً بمنظومة ضغط تُدار على شكل طبقات: طبقة إسرائيلية تُنتج وقائع على الأرض وتمنحها أسماء مُسكّنة مثل "خطوط أمان"، وطبقة أميركية تُبدّل العبارات وتُثبّت الاتجاه، وطبقة إقليمية تتزاحم فوق البحر والبرّ - وفي القلب منها تركيا - فيما تُستعاد سوريا تدريجيًا بوصفها الساحة التي تُسند هذا الضغط وتضاعفه.

المفارقة أن كثيرًا من النقاش في بيروت ما زال يتعامل مع سوريا كـ"ملفّ جار"، فيما تُعاملها القوى الكبرى كـ"مفتاح" لفتح الأقفال اللبنانية: الحدود، والجيش، والاقتصاد، ومعادلات الردع.

تصريحات رئيس أركان "جيش" الاحتلال، إيال زامير، عن إنشاء "خطوط أمان" في لبنان وسوريا وغزة ليست مجرد جملة عسكرية. إنها تعريفٌ جديد للاحتلال بصيغة أكثر تسويقًا: احتلالٌ بلا إعلان، وتوغّلٌ بلا معارك كبرى، وتمركزٌ يُقدَّم كدفاع، فيما هو في جوهره نقل الحدود إلى حيث تريد إسرائيل، لا حيث يعترف القانون.

ما تقوله "إسرائيل" فعليًا هو التالي: وقف النار لا يعني وقف النار؛ بل يعني إدارة النار. الاتفاقات تُستخدم كغطاءٍ لفرض "روتين عدواني" منتظم: غارات، عمليات، رسائل بالنار، ثم مطالبة الطرف الآخر بالانضباط. 

هكذا تُصنع "الوقائع" التي تُصبح لاحقًا بديهيات تفاوضية: نقطة السيطرة تتحول إلى "ضرورة أمنية"، والتلة المحتلة إلى "حزام دفاعي"، والخرق اليومي إلى "ردّ على خرق".

هذا المنطق نفسه يُطبق جنوبًا في لبنان وشمالًا في سوريا. هنا لا تكون سوريا ساحة موازية للبنان، بل مكمّلة له في هندسة إسرائيلية واحدة: تفكيك محيط المقاومة إلى جيوب أمنية، وتثبيت خطوط فصل جديدة بحجة منع "تعاظم القوة".

سيدني وتدمر… صناعة الذريعة وتوسيع المسرح
في لحظات التحوّل، لا تحتاج "إسرائيل" إلى حدثٍ كبير داخل المنطقة كي تتحرك؛ يكفيها حدثٌ "قابل للتأويل" في الخارج. هجوم سيدني، كما تَظهر دلالاته، مثال على محاولة توسيع مفهوم "الخطر" من نزاع سياسي إلى قضية هوية كونية: معاداة سامية، تطرف عالمي، حاجة لاصطفاف دولي… ثم ربطٌ سريع بإيران لإعادة تعبئة دفتر الاتهامات تمهيدًا لأي خطوة عسكرية أو ضغط سياسي واسع.

جاءت حادثة تدمر كواقعة ميدانية داخل سوريا، تُفتح منها بوابة أكبر: سوريا تُقدَّم لواشنطن كساحة مواجهة مشتركة، تُستثمر لتغيير الحسابات الأميركية، ولإعادة ترتيب البنى الأمنية والعسكرية السورية تحت عنوان "التنقية" و"تغيير العقيدة". المشكلة ليست في العناوين، بل في الوظيفة: إعادة تشكيل مؤسسة عسكرية في دولة مأزومة، مع إدماج مكوّنات متنافرة، وسط بيئة قابلة للاختراق والفتن، تجعل سوريا منصة قابلة للاهتزاز… وأي اهتزاز فيها يرتد مباشرة على لبنان.

"إسرائيل" تعرف ذلك جيدًا: كلما اهتزت سوريا، تراجعت قدرة لبنان على التقاط أنفاسه؛ وكلما انشغل العالم بـ"استقرار دمشق"، سهل تمرير "تعديلات أمنية" في بيروت.

الشرع كواقع تستثمره واشنطن… وتستهدفه "إسرائيل"
هنا يجب أن يكون الكلام دقيقًا: الحديث عن السلطة السورية الجديدة ليس موقفًا تأييديًا أو تبريريًا. هو قراءة لواقع تتعامل معه واشنطن بوصفه ورقة في مرحلة انتقالية، فيما تعمل إسرائيل على تقويضه أو ابتزازه أو منعه من إنتاج استقرار حقيقي.

لذلك، فإن أي "اتفاق أمني" سوري-إسرائيلي يجري تداوله أو يتعثر، ليس شأنًا سوريًا داخليًا. إنه جزء من معادلة ضغط إقليمية:

إذا نجح المسار الأمني في سوريا وفق شروط معينة، فسيُعاد تصدير الشروط إلى لبنان.

وإذا فشل، فستُفتح جبهة الجنوب اللبناني باعتبارها المسرح الأسهل لفرض الوقائع.

في الحالتين، لبنان متلقٍ للنتائج، لا صانع لها - إلا إذا امتلك سياسة واضحة تُدرك أن الخطر لا يُقاس فقط بالحدود، بل بالمسارات التي تُدار خلف الحدود.

الساحل السوري… الاقتصاد كجبهة جديدة للصراع
قد يبدو حديث مرافئ طرطوس واللاذقية وعقود موانئ دبي وشيفرون كأنه موضوع اقتصادي منفصل، لكنه في الحقيقة يُنذر بتحول أكبر: الساحل السوري يُعاد طرحه كمنصة عبور واستثمار، أي كمساحة سيادية-اقتصادية يمكن أن تُعيد ترتيب خريطة النفوذ في شرق المتوسط.

هنا يصبح لبنان في موقع حساس:

هناك طرح يرى أن لبنان يمكن أن يكون "شريكًا لا وسيطًا" عبر التمويل والخبرة والخدمات اللوجستية، لكن القيمة الفعلية لهذا الطرح لا تظهر في الورق، بل في التوازنات: من يضمن أن يتحول لبنان إلى شريك، لا إلى تابع؟ ومن يضمن ألا يُستخدم هذا المسار لإدخال لبنان في شبكة التزامات سياسية تُقدَّم في شكل فرص اقتصادية؟

الأخطر أن إسرائيل لا تتعامل مع الاقتصاد كباب رخاء؛ تتعامل معه كباب ضبط: ممرات التجارة، كابلات الطاقة، خطوط الغاز… كلها يمكن أن تتحول إلى أدوات ضغط إذا لم تُدَر بمنطق سيادي.

لماذا يهم اعتراض تركيا؟
اعتراض تركيا على ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وقبرص ليس تفصيلاً قانونيًا. هو انعكاس لصراع أكبر في شرق المتوسط، حيث ترى أنقرة أن أي هندسة بحرية تُبنى خارج حسابات "الوطن الأزرق" تضعف نفوذها وتكرّس محورًا مضادًا.

وجود تركيا في المقال ليس لأن لديها نفوذًا مباشرًا داخل لبنان كالنفوذ الأميركي أو الإسرائيلي، بل لأن شرق المتوسط أصبح ساحة واحدة: ما يُرسم في البحر ينعكس على البر، وما يُقرَّر قرب قبرص قد يرتد على شمال لبنان، وعلى العلاقة البحرية-البرية مع سوريا، وعلى مستقبل خطوط الطاقة.

وهنا تحديدًا يصبح الملف السوري أكثر حضورًا: الحدود البحرية مع سوريا، والحدود البرية المتداخلة، وشبعا… كلها ملفات سيادية معلّقة، وأي إعادة ترتيب إقليمي في المتوسط ستضغط باتجاه "تسويات" قد لا تراعي مصلحة لبنان.

بيروت الرسمية… خطر بلا إدارة
المشكلة ليست فقط أن لبنان تحت ضغط، بل في أن مؤسسات الدولة تتعامل مع الخطر كما لو أنه موجة عابرة: تنتظر "ضمانات" لا تأتي، وتراهن على لجان لا تُلزم إسرائيل، وتُعيد تدوير اللغة بدل إنتاج قرار. لا تحتاج المقالة إلى اتهامات مباشرة، لكن من حق القارئ أن يفهم أن غياب إدارة الخطر هو جزء من الخطر.

حين لا يكون هناك تعريف رسمي صارم لما يجري — هل هو خرق؟ احتلال؟ عدوان؟ — يصبح السرد الإسرائيلي أسهل: "نرد على خروقات"، "نمنع تعاظم القوة"، "نحمي سكاننا". ومع الوقت، يتحول الاحتلال إلى أمر واقع، والضغط إلى مسار، والتسويف إلى سياسة.

ما الذي يجمع كل هذه الخيوط؟
المشهد، في جوهره، ليس "تطورات متفرقة". إنه مشروع إعادة ضبط إقليمي:

"إسرائيل" تصنع خطوط سيطرة وتسميها أمنًا.

واشنطن تُبدّل أسلوب الضغط لكنها لا تغيّر الهدف.

سوريا تُدار كجبهة اختبار: إن استقرت بشروط، تُصدّر الشروط إلى لبنان؛ وإن اهتزت، يُستثمر الاهتزاز للضغط على لبنان.

تركيا تعترض في البحر لأنها ترى أن المتوسط يُعاد تقسيمه، ولبنان قد يُساق إلى محاور لا تخدمه.

لذلك، أثر سوريا على لبنان اليوم لا يُقاس فقط بالحدود واللاجئين والأمن. يُقاس بكون سوريا تحولت إلى رافعة ضغط: تُستخدم لتثبيت الوقائع الإسرائيلية، ولتوسيع جغرافيا "الذرائع"، ولإعادة تعريف ما يُسمح للبنان أن يكونه في المنطقة.

وإذا لم يتعامل لبنان مع هذه الحقيقة بعقلٍ سيادي واستراتيجي، فسيبقى يتلقى الموجات بدل أن يبني السدود:

سيدني تُستثمر ذريعة، تدمر تُستثمر تحوّلًا، الساحل يُستثمر نفوذًا، والجنوب يُستثمر اختبارًا… وفي كل مرة يُقال للبنان إن الوقت ينفد، فيما الذي ينفد فعلًا هو هامش القرار.

الكاتب .. بتول وهبي

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الاشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً

Copyright © 2017 Al Eshraq TV all rights reserved Created by AVESTA GROUP