"Responsible Statecraft" .. لماذا لم ينتفض الروس لوقف الحرب في أوكرانيا؟

ishraq

الاشراق

الاشراق | متابعة.

مجلة "Responsible Statecraft" الأميركية تنشر مقالاً يناقش تطور الهوية الوطنية الروسية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وحتى الحرب الأوكرانية الحالية، ويركز على العلاقة بين السياسة، الحرب، الثقافة، والاقتصاد في تشكيل هذه الهوية.

المقال يوضح كيف شكلت الحرب، السياسة، الاقتصاد، والثقافة معاً هوية وطنية روسية أكثر تماسكاً، مقاومة للغرب، وفخورة بخصوصيتها التاريخية والثقافية، مع انعكاس مباشر على موقف المجتمع من الحرب الأوكرانية.

أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية:

بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، واجهت روسيا الجديدة معضلة معقدة تمثلت في بناء هوية وطنية قادرة على استيعاب التناقضات الجوهرية لماضيها، وفي الوقت نفسه تعزيز اندماجها مع الغرب مع الحفاظ على خصوصيتها.

وقد غيّرت الحرب الأوكرانية المواقف العامة تجاه هذه المسألة بشكل كبير، وأدت إلى توحيد غالبية الشعب الروسي حول مجموعة من الأفكار الوطنية. وساهم ذلك في الصمود الذي أبدته روسيا خلال الحرب، كما ساعد في إحباط آمال الغرب في أن تؤدي الضغوط الاقتصادية والخسائر الفادحة إلى تقويض الدعم للحرب وللرئيس فلاديمير بوتين. وبناءً على الأدلة المتوفرة حتى الآن، تبدو فرص تحقيق هذه الأهداف الغربية في المستقبل ضئيلة للغاية.

سعى أول رئيس لروسيا ما بعد الحقبة السوفياتية، بوريس يلتسين، إلى قطيعة جذرية مع الشيوعية، وأسس حكمه على نفي ماضي بلاده، وماضيه الشخصي، تاركاً روسيا بشعور عميق بالهوية السلبية. وعند توليه منصبه، طرح فلاديمير بوتين رؤية أكثر إيجابية تمحورت حول الاندماج مع الغرب، وإن كان ذلك وفق شروط روسية وبشرط الحفاظ على استقلال روسيا، إلا أنّ هذه الرؤية تعثرت أمام الخلافات الجوهرية بين روسيا والغرب.

ومنذ ذلك الحين، عانت الدولة في سبيل صياغة مفهوم متماسك للهوية يحدد خصوصية روسيا. ولم يبرز سوى الحرب العالمية الثانية كعامل توحيد محتمل، حيث أعرب غالبية الروس عن فخرهم بدور بلادهم فيها، واكتسبت الحرب مكانة شبه مقدسة في خطاب القيادة.

وبصرف النظر عن الفخر بـ"الحرب الوطنية العظمى"، كما تُعرف الحرب العالمية الثانية في روسيا، كان رد الفعل العام تجاه بناء الهوية فاتراً لفترة طويلة. وعندما اندلعت الحرب في أوكرانيا من دون أي إنذار مسبق للشعب الروسي، قوبلت في البداية بالذهول والارتباك والحيرة، مع تركيز معظمهم على سبل تجاوز الظروف الصعبة بدلاً من تقديم الدعم لبلادهم.

لكن الوضع تغيّر الآن؛ فقد أحدثت أربع سنوات من الحرب تحولاً جذرياً في روسيا.

وبفضل الدعاية الحكومية، نما لدى العديد من الروس العاديين شعور بالفخر بصمود روسيا في وجه العداء الغربي. وقد غذّت هذه المشاعر التعبيرات الغربية التي تحمل ازدراءً للشعب الروسي وثقافته، وهي إهانات تستشهد بها وسائل الإعلام الروسية الخاضعة لسيطرة الدولة بشكل مستمر. ويكافح الرأي العام الروسي لفهم وجهة نظر الطرف الآخر والاعتراف بأن المخاوف الغربية قد تكون مبررة جزئياً. على سبيل المثال، تُفسّر محاولات الكرملين للتدخل في الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 2016 المواقف السلبية تجاه روسيا في واشنطن أفضل من التحيزات الثقافية المسبقة.

منذ فترة، يبدو أن النزعة الوطنية في تصاعد مستمر: فالتجنيد يتقدم بثبات، والرجال على استعداد للخدمة مقابل أجور مرتفعة للغاية، فيما لا تزال حركة "مساعدة الجيش" التي تقودها النساء والمتقاعدون نشطة. ويُعتبر معارضة هذا التيار أمراً غير مقبول اجتماعياً ومليئاً بالمخاطر.

وعلى الرغم من أنّ روسيا هي التي غزت أوكرانيا وما زالت تهاجم "الأمة الشقيقة" سابقاً، فإن الكثيرين في روسيا ينظرون إلى الحرب على أنها دفاعية وحتمية. وقد وحّد شعور بالتهديد الخارجي شريحة واسعة من الشعب، وانتشر العداء للغرب على نطاق واسع. واعتقد العديد من الروس أن الغرب لا يريد لروسيا خيراً، وأنه سيسعى، إذا أتيحت له الفرصة، إلى إلحاق الضرر بها ما لم تكن روسيا قوية بما يكفي لحماية نفسها.

ينبغي دعم الدولة، التي تقع على عاتقها مسؤولية الحماية، حتى وإن بدا ذلك متناقضاً، لا سيما عندما تقاعست عن ذلك، كما تجلّى في غزو كورسك. لقد ذكّرت روايات المدنيين الذين حوصروا سبعة أشهر تحت الاحتلال الأوكراني الكثير من الروس بواقع الحرب، بينما غرست الهجمات على الأراضي الروسية، التي أسفرت، وفقاً للأرقام الرسمية، عن مقتل 621 مدنياً، شعوراً بانعدام الأمن في روسيا الأوروبية. وشكّل وصول ترامب إلى السلطة تحولاً من العداء تجاه الولايات المتحدة، لكن الموقف السائد تجاه مبادراته السلمية هو التشكيك.

لا يقتصر هذا الشعور الجديد بالهوية الوطنية على الحرب فحسب، بل ينبع أيضاً من الحيوية الاقتصادية. فقد شهد الاقتصاد الروسي، الأكثر تعرضاً للعقوبات على مستوى العالم، نمواً مطرداً لثلاث سنوات متتالية. وعلى الرغم من التضخم، يسود شعور واسع بالتفاؤل حيال المستقبل. وقد حفّزت الحرب الابتكار، حيث يقود المصنّعون الحكوميون والخاصون التقدم التكنولوجي، على غرار ما حدث خلال الحرب العالمية الثانية عند ابتكار صواريخ كاتيوشا ودبابات تي-34. ومع أن بعض الاختراعات قد لا تكون ثورية، إلا أنها كثيرة وتحظى بتغطية إعلامية واسعة.

ويشكّل النموذج التنموي الروسي ركيزة أساسية أخرى للهوية الوطنية. فالتزامات الدولة الكبيرة، والاستثمار العام، والخدمات الأساسية بأسعار معقولة، والضرائب المنخفضة، كلها معايير طبيعية يتوقعها المواطنون الروس، وتشكل مكونات العقد الاجتماعي بينهم وبين الدولة. ويعتقدون أن نظراءهم في الغرب محرومون من هذه المزايا.

وتشهد البلاد أيضاً نهضة ثقافية ملحوظة. ففي البداية، صُدم الرأي العام الروسي من إلغاء الفعاليات الثقافية الروسية في الغرب عام 2022، معتبراً ذلك عقاباً جماعياً، لكن هذا الوضع أصبح هو السائد لاحقاً. ونتيجة لذلك، تحول الاهتمام نحو الموارد المحلية والجمهور الروسي، فقد افتُتحت العديد من المسارح والعروض المسرحية والحفلات الموسيقية والمعارض الفنية والمراكز الثقافية الجديدة في المدن الكبرى لتلبية الطلب المتزايد على هذه الفعاليات. وخلال جائحة كوفيد-19، اكتشف الروس بلادهم من خلال السفر، ما أدى إلى ازدهار السياحة الداخلية، بما في ذلك مناطق كانت صعبة الوصول إليها سابقاً مثل داغستان والشيشان.

مع بداية الحرب، فرّ نحو 170 شخصية ثقافية من روسيا احتجاجاً، من بينهم آلا بوغاتشيفا، المغنية الروسية الشهيرة البالغة من العمر 76 عاماً، وتشولبان خاماتوفا، الممثلة التي تألقت في فيلم "وداعاً لينين!" والمسلسل التلفزيوني الروسي "زليخة تفتح عينيها". ولعل هاتين الشخصيتين حظيتا بأوسع شهرة بين المهاجرين، كرمزين بارزين للثقافة الشعبية الروسية، فقد تنقلت بوغاتشيفا بين إسرائيل وقبرص ولاتفيا، وما زالت تحظى باهتمام الجيل الأكبر سناً من الروس بفضل شخصيتها الجذابة، لكنها فقدت بريقها كمؤدية. ومن المفارقات أن زوجها السابق، فيليب كيركوروف، الذي بقي في روسيا، أصبح الفنان الأول في البلاد. أما خاماتوفا، فتقدّم عروضها في مسرح بمدينة ريغا في لاتفيا، ويقتصر دورها السينمائي البارز على فيلم يتناول موضوع الهجرة. وحتى الآن، الشخصية الثقافية الوحيدة التي نجحت في تحقيق مسيرة مهنية ناجحة في الغرب هي المخرج كيريل سيربرينيكوف، فيما يقتصر جمهور الآخرين بشكل رئيسي على أوساط المهاجرين الروس.

في البداية، أثار نزوح الشخصيات المعروفة قلق المثقفين الروس، لكنه أتاح الفرصة لظهور وجوه جديدة، مثل "الشامان" (ياروسلاف درونوف)، نجم موسيقى البوب الوطنية، ويورا بوريسوف، بطل فيلم "أنورا" الحائز على جائزة الأوسكار، والذي تلقى عروضاً من كبار المخرجين العالميين. تدريجياً، بدأت محنة الشخصيات الروسية في الخارج، في مواجهة بيئة ثقافية غريبة ودون جمهور واسع أو تمويل مستقر، تثير السخرية في الداخل. ويُعتقد أن الروس الذين غادروا، إذا اعتقدوا أن موقفهم المناهض للحرب سيُكافأ بمسيرة مهنية جديدة في الغرب، كانوا مخطئين.

وقد ازداد التركيز على الثقافة الروسية، ليس فقط بسبب الحرب. بعدما نبذت روسيا أيديولوجيا "الصحوة" حين برزت على الساحة العالمية، قدمت نفسها على أنها أوروبا "الحقيقية" أو التقليدية في القرن العشرين. وقد لاقى هذا استحساناً حتى لدى العديد من الروس الليبراليين الذين كانوا يطمحون في الماضي للانضمام إلى الحضارة الغربية، لا إلى ما آلت إليه اليوم. وحتى بين الروس الذين عارضوا الحرب بشدة، ثمة شعور بالرضا لأن روسيا لم تعد مضطرة إلى الخضوع ثقافياً للغرب.

لذلك، فإن روسيا اليوم دولة مختلفة عن تلك التي دخلت الحرب، إذ تتمتع بتماسك اجتماعي أكبر وثقة أعمق في قدرتها على البقاء كأمة. وعلى المدى البعيد، قد يؤدي هذا إلى تغييرات جذرية في هوية روسيا، وعلى المدى القريب على الأقل، سيحافظ على رغبة الرأي العام في مواصلة الحرب.

Copyright © 2017 Al Eshraq TV all rights reserved Created by AVESTA GROUP