12/07/2024
ثقافة و فن 190 قراءة
أنت المنسيّ... أنت الغارق بهمّك وحدك
الاشراق | متابعة.
في ليلة التاسع والعشرين من يناير، استيقظنا في منتصف الليل، تحديداً الساعة الثانية عشرة، على صوت رصاص وقذائف وقنابل كزخّ المطر يقترب. في بداية الأمر، ظننا أنها اشتباكات بعيدة، فالجميع يعلم أن الدبابات انسحبت منذ شهر وزال الخطر نوعاً ما، لكننا كنا مخطئين، اقترب الصوت كثيراً، انتقلتُ من مكاني، وهو المكان الأقرب للشارع، باتجاه عائلتي التي لا تفصلني عنها سوى ستارة، ابتعدتُ عن النوافذ وتسللتُ مسافة أمتار فقط، وكانت هذه اللحظات الثلاث هي التي أنقذت حياتي، بدأت القذائف ورصاص المدفعيات تدخل من النافذة تباعاً وتخترق الألمنيوم والجدران، تطايرت الشظايا حولنا وسقط منها على الوسائد والكنب ونحن تحت تأثير الصدمة ولا ندري ماذا يحدث من حولنا، هل هي اشتباكات؟ أم توغّل؟ أم أن الدبابات تمهد الطريق لكي تتمركز؟ أم أن الجنود يركضون في الشارع وفي أيديهم رشاشات؟
لم أشعر في حياتي كلّها بطعم الخوف الحقيقي مثل هذه المرّة، لم أشعر باقتراب الموت سوى هذه الليلة، كنا منبطحين على الأرض لا نستطيع رفع رؤوسنا أو التلفظ بكلمة واحدة، اشتدّت الطلقات، صوت الانفجارات وقنابل الصوت كأنها داخل البيت، الكواد كابتر (طائرة موجهة للقتل) تهبط تدريجياً وتصوّر داخل البيوت، في هذه اللحظة شعرنا جميعاً أننا ميتون لا محالة، كلّ شيء انتهى.
ما الشيء الذي فعلته في حياتك لتستحق هذا التكفير؟ يا عالم. أنا مواطنة فلسطينية أو لاجئة، كما تشاؤون لا يهمّ، لكنني لم أقتل أحداً ولم أظلم أحداً، أنا لا أذكر حتى أنني كذبتُ يوماً أو سرقت، لماذا كلّ هذا الخوف، وكلّ هذا الرعب، وكلّ هذا الظلم، وكلّ هذا الرصاص؟
لم أستطع الاحتمال، انفجرتُ بالبكاء تماماً كما انفجرت شظايا النوافذ والجدران وأصيص الزرع الضخم والجرات الفخارية الملونة، التي كانت تزيّن المطبخ من كثافة الرصاص، شعرتُ أن رأسي ينفجر وأعصابي تشتعل، تمنيتُ لو أغمي عليّ من الخوف أو أذهب في غيبوبة ولو للحظات لكي أرتاح من هذه الجهنم المحيطة بنا، قرأتُ الشهادتين وأغمضت عينيّ ووضعت رأسي على الوسادة واستعددت للموت.
وجدتُ نفسي بين ذراعي ابنتي وهي تهمس بأذني ألا أخاف، وطلبت مني تكثيف الدعاء، صمتُّ قليلاً.. بدأتُ أتنفس، عدلت جلستي، بدأت ضربات القلب تنتظم، وبدأت الأصوات تبتعد، خمسة أزواج من العيون تحدّق في بعضها، وتسأل نفسها السؤال نفسه: هل ابتعدوا؟ هل هذا حلم؟ بل كابوس؟ ما الذي يحدث في الخارج؟ نظرتُ إلى ساعتي، وجدتها الثالثة فجراً، في البداية لم أصدق أننا صمدنا وسط هذه الجهنم ثلاث ساعات كاملة، إذا ما عشناه لم تكن جهنم فما هي جهنم إذاً؟!
فتح أخي الساكن قبالنا الباب، وهو يبحث عنا في الزوايا محدقاً في الظلام خشية أن نكون كلنا أو بعضنا في عداد الموتى، كان يبحث عن اللون الأحمر، لقد توقع أن يدخل ويجده في كلّ مكان، ولكن بعد بحلقته وذهوله بثانيتين، قلنا له بصوت واحد: "تقلقش إحنا عايشين". تنفّس أخي أخيراً، فهو طبيب وتقع على عاتقه سلامتنا منذ بداية الحرب، أخبرنا أنّ أسطولاً يتكون من ثلاثين دبابة مرّوا عبر شارعنا تحت تغطية جوية وبرية كاملة.
علمنا بعد خمس ساعات، وقبل أن ننام كالجثث من شدّة التعب والسهر والإرهاق والرعب أن هذا الأسطول اتجه ناحية مقرّ شركة الاتصالات الفلسطينية، وتمركز هناك استعداداً لبدء عملية عسكرية مكثفة.
ألقت طائرات الجيش الإسرائيلي على أثر هذا التصعيد المباغت مناشير، تطلب ممن بقي في منطقة (حيّ) النصر، ومن مناطق أخرى ضرورة الإخلاء والتوجه إلى مخيم دير البلح، استعداداً لحملة اعتقالات واسعة. بدأت أسرٌ بأكملها تنزح، وهي تحمل ما تستطيع حمله من مؤن وأغطية وملابس، حاولنا النزوح إلى بيت أقارب لنا ليس ببعيد حتى نتجنّب ويلات الشارع الرئيسي، ولكن صعوبة نقل الموارد الأساسية كالماء والغذاء والفرشات حالت دون تنفيذ هذا القرار.
توغلت الدبابات في تل الهوا ومعسكر الشاطئ ومنطقة أنصار والشيخ رضوان بعد انتهاء المهلة التي خصصت للنزوح، وظلّت الدبابات التي تمركزت في مفترق الاتصالات تطلق النار باتجاه المارين منعاً للحركة، كنا نسهر كلّ ليلة حتى ساعات الفجر خوفاً من المداهمة واعتقال الرجال كما رأينا في نشرات الأخبار، كل ليلة نتحسّس أغراضنا ونحصي حقائبنا ونثقل ملابسنا استعداداً لهذه اللحظة.
بعد عشرة أيام بلياليها الطويلة استمرّ خلالها إطلاق رصاص المدفعيات والقصف الجوي دون توقف، استيقظنا على صوت الناس في الشارع يقولون إن الدبابات انسحبت، وإن المكان الآن أصبح آمناً.
اعترفت لي ابنتي في تلك الليلة الموحشة، التي كنا فيها تحت القصف ورصاص المدفعيات، أنها لم تكن تدرس عندما كنت أتركها في البيت، وأذهب لقضاء بعض المشاوير الضرورية، بل كانت تقضي جلّ الوقت على هاتفها النقال تتصفح التيك توك، وتستمع إلى الموسيقى، وطلبت مني أن أسامحها، واعترفت لي أيضاً بأنها كانت تتقاعس في صلاتها، وأنها أفطرت يومين في آخر رمضان دون أن تخبرني، وعندما سألتها عن سبب اعترافها لي في هذا الوقت الصعب، أخبرتني أنها تريد أن تموت وهي شجاعة دون أن تكون قد أخفت عني شيئاً، تسلّحت بالشجاعة وأخبرتها أنني مدينة لها أنا أيضاً باعتراف، وهو أنني كنت أذهبُ إلى الجيم لألتقي الصديقات وأتناول معهم الوجبات، وندخن النرجيلة في استراحة الجيم، ولم أكن أمارس الرياضة كما كنت أخبرها، ولهذا السبب لم أتمكن يوماً من خسارة الوزن والحصول على الوزن المثالي كما كانت تنصحني، ولكن اليوم وبعد مرور ستة أشهر على الحرب، استخدمتُ ميزاناً وجدناه بالصدفة في بيت عمي الذي نزح أخيراً عند ابنه، واكتشفت أنني خسرت اثني عشر كيلوغراماً، ووصلت إلى الوزن المثالي، ولكن ليس بسبب الجيم الذي لم أكن أطيقه، بل بسبب الحصار وانعدام وصول المواد الغذائية وشحّ الحلويات، فما نأكله منذ بداية الحرب من بقوليات لا يغني ولا يسمن من جوع، بالإضافة إلى قيامي بجميع المهام المنزلية، مضافاً إليها العجن والخَبز والغسل اليدوي والتحطيب، إلى جانب المشي عدّة كيلومترات لجلب الأشياء الضرورية من السوق أو الصيدلية.
في التاسع عشر من فبراير/ شباط علمت باستشهاد زميلة لنا بعد تهجيرها إلى أهلها في خانيونس لتبتعد عن الخطر، لكن الموت هو الذي اقترب واختارهم جميعاً. لم أستوعب الأمر في البداية، فالعقل البشري بطبيعته لا يستطيع استيعاب الصدمات دفعة واحدة، فهو يحاول تجزئتها أو تضليلها، مصدراً ردود أفعال كالومضات بين الحين والآخر، ولكن عندما أصبحت زميلتي تزورني في أحلامي كلّ ليلة، أدركت وقتها أنني لن أراها بعد الآن.
وقعتُ فريسة لاكتئاب حادّ وكوابيس متكرّرة لمدة أيام، كنتُ حبيسة غرفتي أتصفح الصور والذكريات بالساعات، وأتساءل: مَن يا ترى عليه الدور؟ هذه الحرب اللعينة تحصد كلّ يوم زميلاً أو صديقاً أو بيتاً أو مؤسسة أو شارعاً أو مقهى من رصيدك وتقتلع بأنيابها الحادة ذكرياتك معهم من دون أن تنظر إلى الوراء أو يغمض لها جفن. قاطعتُ الإنترنت، ذلك المهرّج الخبيث الذي ينقل لنا أخبار استشهاد أحبابنا لتقع على رؤوسنا كالصاروخ، بينما ينقل لغيرنا أخبار الفنانين وتوقعات الأبراج وإعلانات مسلسلات رمضان، يا إلهي كيف يتسع هذا العالم لكل هذه التناقضات؟ فهل حقاً نحن أبناء كوكب واحد؟
في الثامن والعشرين من فبراير، كان يوم عيد في غزة، لقد دخل الطحين أخيراً، استيقظنا في الفجر على صوت الناس تنادي للتوجه إلى دوار النابلسي في شارع الرشيد للحصول على طحين مما تلقيه الشاحنات هناك، وذلك بعد أن كللت هذه المهمة بالفشل خمس مرات متتالية، حصل كل بيت على كيسي طحين أبيض كالقمر، سارعنا بتحضير عدة العجن، لم تسعنا الفرحة ونحن نعجن بالطحين الأبيض الناصع من دون خلطه بطحين الذرة أو الشعير الذي تآكلت معدتنا من هضمه ورداءة مذاقه على مدى شهرين.
جهزنا المناقيش وأعددنا الشاي وأكلنا من الخبز الجديد، وكأننا لم نأكل خبزاً من قبل، بدأت تهلّ الأخبار بأن المخابز ستفتح أبوابها بعد دخول الطحين، وهذا معناه أننا يجب أن نودع الحطب والنار والطابور، يااااااه هل نفرح أم ننتظر قليلاً تأكيد الخبر خوفاً من أن نفجع ثانية.
في الأول من مارس/ آذار، بدأت الطائرات بإنزال معونات غذائية على مناطق متفرقة في غزة، وذلك بسبب منع دخول شاحنات المساعدة إلى مناطق الشمال، أول مرة شاهدنا الطائرة وهي تسقط البراشوتات اتسعت عيوننا وتصلبت رقابنا ونحن نراقب المنظر، عندما أُذيع في الأخبار أن هناك بضاعة ستصل إلى مدينة غزة عبر الطائرات، لم يصدق أحد الخبر واعتقدنا أنها خزعبلات حروب وهذيان حكام، ولكن عندما حدث بالفعل شعرنا أننا داخل فيلم سينمائي، لكن أحياناً تكون الحقيقة أغرب من الخيال، والواقع أكثر عبثاً من الأفلام.
صنعنا فرن طينة استقبالاً لشهر رمضان الذي سيهلّ بعد أسبوع، فالطهي على الغاز هنا في غزة ضرب من الجنون، والحصول علـى جرة غاز ضرب من الخيال، جمعنا الحصى والرمل الناعم لنصنع قوالب الأسمنت، واستعنّا بجارنا الخباز لإتمام المهمة، بحثنا عن منطقة بعيدة عن الهواء والشمس، وبنينا الفرن فوقها، بعد يومين قصصنا شريط الافتتاح بعد أن جفّ الأسمنت وأصبح الفرن جاهزاً للاستعمال.
اليوم هو الحادي عشر من مارس، أي الأول من رمضان، هاتفتني أختي من الخارج وأخبرتني أن الحرب ستنتهي بعد شهرين، وسألتني كيف ندبر أمورنا وكيف نجلب المونة لرمضان، فقلت لها: خليها على الله.
في المساء، وبعد أن تناولنا الإفطار جميعاً، وهو طقس عائلي لا يتغير على مرّ السنين حتى بوجود حرب، شاهدنا إعلانات رمضان عبر التلفاز وبكينا كثيراً على حالنا، والعالم العربي يدير لنا ظهره بهذه السرعة، ويتفرغ للرقص والغناء والاحتفال والتهليل، فأنت منذ الآن ليس أنت، أنت الضحية أنت المنسيّ أنت الغارق بهمّك وحدك، وما من منجٍ لك سوى نفسك.
15 مارس/ آذار 2024.
-كاتبة من غزة