غزة: حين تصير البيوت قنابل متفجّرة
بينما لا يجد الناس ما يأكلونه في قطاع غزة، يعيشون في بقايا البيوت المدمّرة وداخل الخيام التي لا تحمي النساء من صهد الشمس، وبينما لا يجد الأطفال فرصة للعب، في الوقت الذي يحاولون فيه البحث عن الماء أو بعض الحطب بين الركام، يحاول الاحتلال استنزاف حيواتهم، واستمرار قتلهم كأنهم مجرّد وحوش كما جاء في خطاب نتنياهو السابق، إذ يعشش في عقل الصهيوني أنّ الفلسطينيين في غزة هم أحفاد العماليق وأنهم يجب أن يموتوا حتى يأتي المخلّص "المسياخ" ليبني مجد دولتهم العظيمة.
الشوارع في غزة تعيش حالة من الرعب والخوف غير المسبوق، تيه ليس مثله شيء، الناس سكارى، لا تهتدي إلى سبيل، خصوصاً بعد استهداف مراكز الإيواء والمدارس والأبراج لدفع الناس للنزوح نحو جنوب قطاع غزة، لدرجة أن صار الناس ينامون في الشوارع، يحملون معهم بعض المتاع والأشياء الضرورية التي استطاعوا حملها قبل أن يتمّ استهداف تلك العمائر والمباني، الأطفال في أحضان أمهاتهم، والنساء مغبّرات الوجوه، ربما يحلمن بجلسة هادئة أو حمام دافئ أو ربما مكان يذهبن فيه لقضاء حاجتهنّ، لكنهنّ بكلّ حسرة يجلسن على الأرصفة التي ما زالت تحتفظ ببعض شكلها القديم عند أطراف مخيم الشاطئ.
بينما يتواصل الرجال عبر الهواتف المحمولة مع أشخاص غرباء، يصرخون أو ربما يتوسّلون من أجل استعجال سيارات شحن متهالكة كي تنقل "عفش" تلك العوائل نحو الجنوب، حيث المنطقة الإنسانية التي يدّعي الاحتلال أنه يوفّر فيها الخدمات الحياتية، علماً أنّ ماكنة الإعلام الإسرائيلية تكذب كالعادة، فالأماكن ضيّقة، ولا يتوفّر فيها أيّ مقوّمات حياة، لا يوجد حمامات أو آبار أو حتى تكيات طعام، لا يتوفّر خيام في ظلّ صهد الشمس الحارقة، إنما فراغ ودمار هائل، يتنازع الناس في الحصول على عشرة أمتار هنا، أو خمسة هناك.
وللقارئ أن يتخيّل: كيف يمكن في لحظة مجنونة أن يأتي أحدهم ليلقي بأبنائك إلى الجحيم، ثم يحرق بيتك ويأمرك بالخروج إلى مكان غير آدمي وإلا فإنك ستتعرّض لأبشع أنواع الإبادة؟ هذا بالضبط ما يجري الآن في مدينة غزة تحديداً، بينما ينام العالم، رغم أنّ الفلسطيني يحاول التعلّق بأيّ قشّة، في انتظار ما سيتفتّق عن اجتماع مجلس التعاون الخليجي أو القمة العربية الطارئة أو جلسات القطريين مع وزير الخارجية الأميركي، المهم ألّا يفقدوا الأمل، رغم أنهم باتوا يهرولون نحو وسط قطاع غزة وجنوبه في ظلّ قصف غير مسبوق، يتمّ بكلّ أنواع الأسلحة التي تدفع بها الولايات المتحدة والدول الغربية إلى "إسرائيل".
كأنّ هناك فائضاً من الأسلحة ويجب التخلّص منه بتدمير الأبراج السكنية والبيوت والشوارع والبنى التحتية، لدرجة أنّ الشوارع أغلقت بسبب الركام أو التحذير من استهداف مكان ما، حيث تمّ استهداف مئات الأهداف خلال عدة أيام فقط في مدينة غزة بصواريخ الطائرات الحربية وكذلك المدفعية، إضافة إلى صواريخ الدرونز والبوارج التي تحاول إكمال المشهد إلى جانب الكواد كابتر التي باتت تتفنّن في قنص المارة بحي الشيخ رضوان والتفاح والزيتون وغيرها من المناطق المحاصرة، المهم أن يموت أحفاد العماليق بأيّ وسيلة كانت.
وللقارئ أن يتخيّل مجدّداً: كيف يقوم مالك شقة أو منزل بفكّ جميع أثاث البيت من خزانات وأبواب كي يأخذها معه إلى مكان نزوحه كي يستخدمها حطباً للنار، لأنّ غزة بلا غاز للطهي منذ أكثر من عامين، حتى أصغر "برغي" يقوم بنقله إلى اللامكان، لأنّ كلّ شيء مرتفع الثمن نتيجة عدم توفّره، إذ تصير الأحلام والجدران التي تمّ طلاؤها بناء على رغبة الزوجة مثلاً مجرّد إرث بائد، يتركه النازح خلف ظهره ليقتات شيئاً من حياة، ويغادر في منتصف الليل، أو مع الفجر نحو شارع الرشيد إلى مناطق لا يعرف عنها شيئاً هرباً من الموت.
يفرّ بأطفاله وكبار السن وربما المصابين والعجائز نحو الخيام التي لا ترحم إنسانية الإنسانية، بينما تغرّد سيمفونية النسف والتدمير والهدم التي لا تتوقّف. إذ أصبحت مدينة غزة، وتحديداً حدودها الشرقية والشمالية خالية، أطلال تثير الرهبة في النفس، ومع كلّ هذا تنطلق قنابل الإنارة ويتمّ إلقاء المناشير من الطائرات المسيّرة كي تزيد في وجع العوائل الهاربة من الموت، لدرجة أنها لم تعد تجد الوقت لتبكي رفاقها الغائبين من الشهداء ممن قضوا في الحرب، حيث عشرات الشهداء ومئات الإصابات كلّ يوم.
غزة تعيش القيامة بكلّ عذاباتها، كأنّها في مشهد البعث والنشور، تنتظر المخلِّص كي يأتي لعله ينهي هذا العبث، لكن لا أحد يسمع، حتى الجيوش التي بات سلاحها يصدأ في المخازن والصحاري، كأنهم أصيبوا بالعمى أو الطرش، والموتى يبعثون من غزة إلى السماء، حيث لا يوجد حصار أو موت جديد.
لا تتبنى الاشراق بالضرورة الأراء والتوصيفات المذكورة.