حزب الله وتأكّل جديد للنظام الغربي
الانكسار الغربي الجديد سيدفع الولايات المتحدة للتعاطي مع المنطقة وفقاً لقواعد جديدة بعد فشل ولادة "شرق أوسط جديد 2" على يد حزب الله ومعه كل قوى المقاومة.
مع دخول وقف إطلاق النار في جنوب لبنان حيّز التنفيذ تبدأ ملامح جديدة على مستوى منطقة غرب آسيا لم تتوضّح معالمها بعد، فالحرب البريّة الأطول التي خاضها الكيان في تاريخه مع حزب الله تضع أوزارها من جديد، معلنةً عن إفشال جديد لولادة "شرق أوسط جديد"، لينطلق من جديد ظهور الاستقطابات السلبية المتناقضة بين الذين يراهنون على انتصار "إسرائيل" مواجهة للنظام الغربي، وبين من يصنعون انتصاراً جديداً في سياق تحوّلات دولية لقوى تعمل على تغيير بنية النظام الدولي وإنهاء حالة الاستفراد الأميركي بمصير العالم.
حرب النظام الغربي
لا بدّ من التأكيد بدايةً بأنّ الحرب الوجودية الأطول التي تخوضها "إسرائيل" هي بالأساس حرب النظام الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة، فالقرار أميركي منذ اندلاع الحرب في السابع من أكتوبر 2023، وتمثّلَ بشكل واضح منذ بدء الحرب البرية في غزة التي لم تنتهِ بعد، مع قدوم الأساطيل البحرية لتأمين تغطية عسكرية مانعة لاندلاع حرب إقليمية، مع توفير الغطاء السياسي الدولي الذي يحمي "الجيش" الإسرائيلي من الملاحقة القانونية لإيقاف حرب الإبادة التي يخوضها في غزة ولبنان، وهذا النظام نفسه هو من فرض إيقاف إطلاق النار من جديد، بالرغم من وجود قرار سابق صادر عن مجلس الأمن الدولي في هذا الشأن في شهر حزيران/يونيو الماضي ولم تعترض عليه الولايات المتحدة.
وهذه الحرب على الرغم من جذورها ودوافعها الخاصة المرتبطة بظهور القضية الفلسطينية الجامعة والتي تتكثّف فيها كل قضايا الصراع الدولي بتفاصيله المتعددة، إلا أنها من حيث الفعل والتداعيات ذات بعد إقليمي ودولي متجاوزة للنتائج اللبنانية الخاصة، وهذا ما دفع لتشكّل توافق عالمي لإفشال النظام الغربي فيها، إدراكاً من كل القوى المؤازرة لحزب الله وحركتي حماس والجهاد بأن هذه الحرب هي حرب الولايات المتحدة ومعها كامل النظام الغربي، ولا تنفصل عن الحرب في أوكرانيا ولا عن احتمالية اندلاع الحرب في تايوان، فكان المشهد واضحاً على مستوى الإقليم، فوقفت سوريا وإيران بقوة خلف حزب الله، ولم تكن روسيا والصين بعيدتين عن المؤازرة، ومعهما أكبر كتلة دولية متوافقة لهزيمة الولايات المتحدة سياسياً بالاستناد إلى إنجازات قوى المقاومة.
هزيمة النظام الغربي؟
انطلاقاً مما سبق يمكننا أن نتعاطى مع الحرب في غزة ولبنان ضمن سياقاتها المحلية والإقليمية والدولية انطلاقاً من النتائج المترتبة على موافقة الكابينيت الإسرائيلي على قرار وقف إطلاق النار في جنوب لبنان والذي سيتبعه قرار مماثل في غزة للحصول على صورة انتصار وهمية بفصل وحدة الساحات،على الرغم من أن الانتصار مرتبط بالأهداف التي وضعتها أطراف الحرب، فالكيان وضع أهدافاً كبيرة عجز عن تحقيقها باستئصال حزب الله بشكل كامل قبل بدء الحرب البرية في جنوب لبنان ثم بدأ بالتنازل التدريجي مع كلّ فشل ميداني إلى أن وصل للقبول بالقرار 1701 كما هو، وبالمقابل وضعت المقاومة أهدافاً صغيرة حقّقتها بإعجاز ابتداءً من معركة إسناد غزة ثم معركة "إيلام العدو" ثم إفشال أهداف الحرب البرية بشكل أسطوري.
وبمجرد العودة إلى تطبيق القرار 1701 بقرار أميركي غربي وليس إسرائيلي، فإنّ المزيد من التأكّل في بنية النظام الغربي قد حصل، والذي لم يبدأ بهذا التاريخ على مستوى منطقة غرب آسيا، فمسيرة التأكّل بدأت منذ التحرير في جنوب لبنان عام 2000، ولم تتوقّف في كل الحروب الأميركية في العراق وأفغانستان، وفي سوريا جزئياً، والأمر لا ينفك عن الحرب في أوكرانيا، التي تنكفئ بها رهانات الغرب بأثمان أقتصادية وسياسية باهظة داخلياً وخارجياً، وقد يكون التأكّل الأخير في لبنان وغزة هو الأخطر على النظام الغربي، لأهمية الجغرافيا السياسية لمنطقة غرب آسيا التي ستأخذ مساراً مختلفاً بعد هذه الحرب، بعد السقوط ما قبل الأخير لقوة الردع الغربية التي تعبّر عن نفسها بواجهتها الإسرائيلية، الذي سينعكس على مسار تشكيل نظام إقليمي تحت هيمنة وإدارة "إسرائيل" بعنوان التطبيع، ويدفع بمزيد من هامش حرية الخيارات لدولها بالانزياح أكثر بعيداً عن النظام الغربي نحو علاقات أوسع مع القوى الآسيوية الناهضة.
هذا الانكسار الغربي الجديد لا يمكن أن يتوقّف ضمن حدوده الحالية، وسيدفع الولايات المتحدة للتعاطي مع المنطقة وفقاً لقواعد جديدة بعد فشل ولادة "شرق أوسط جديد 2" على يد حزب الله ومعه كل قوى المقاومة، ومصلحتها الآن تقتضي الذهاب نحو تهدئة كاملة أقرب إلى هدنة طويلة لا يمكن أن تحصل إلا بالاعتراف بدور القوى المؤثّرة فيها، والتوافق معها جزئياً، وتعيد فيها ترتيب أوراقها من جديد مع مجيء فريق أميركي جديد بعد قرابة 50 يوماً، شعاره أميركا أولاً .
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الإشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً