واشنطن وفرص النفاذ إلى أفريقيا من بوابة تسوية الصراعات
في محاولة لترميم الإخفاق وتقييم السياسات للعودة إلى القارة الأفريقية، استدارت واشنطن واكتفت هذه المرة بالبحث عن النفوذ من بوابة تسوية الصراعات وحل النزاعات؛ وبأدوات وقوات أفريقية لا أميركية.
أخفقت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، طوال الفترة الماضية، جملة إخفاقات غير مسبوقة على مستوى السياسات الخارجية الأميركية لجهة القضايا الإقليمية والدولية، ابتداءً من الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، والانحياز الواضح والفاضح إلى كيان الاحتلال ودعمه ومشاركته في الجرائم التي نفذها على مدار عام كامل؛ وانتهاءً بمواجهة تمدّد النفوذ الصيني والروسي في القارة الأفريقية.
تراجع النفوذ الأميركي في أفريقيا مؤشراته عديدة، من أبرزها أنه منذ ولاية الرئيس الأسبق باراك أوباما لم يزر أي رئيس أميركي - ترامب وبايدن - القارة الأفريقية، مقارنة مثلاً بزيارات الرئيسين الروسي والصيني لأفريقيا؛ مؤشر آخر اضطرار واشنطن لتعيين ثالث مبعوث لها لأفريقيا خلال عام ونصف، بالإضافة إلى التوتر الحاصل بين واشنطن وكل من إثيوبيا وأريتيريا.
في محاولة لترميم الإخفاق وتقييم السياسات للعودة إلى القارة الأفريقية، استدارت واشنطن واكتفت هذه المرة بالبحث عن النفوذ من بوابة تسوية الصراعات وحل النزاعات؛ وبأدوات وقوات أفريقية لا أميركية؛ فالتقطت الحرب الدائرة في السودان منذ أكثر من 18 شهراً كبوابة دخول وعودة إلى القارة الأفريقية.
بعد أن أتت الحرب في السودان على الأخضر واليابس؛ كشف المبعوث الأميركي الخاص للسودان، توم بيرييلو، مطلع تشرين الأول/ أكتوبر الجاري، عن خطوات وترتيبات جديدة في المرحلة المقبلة تتعلق بوقف الحرب في السودان، تتمثل في إعداد "قوات تدخل" أفريقية لحماية المدنيين في السودان، بعد تعثر محادثات جنيف في التوصل إلى وقف إطلاق النار، بسبب رفض الجيش السوداني المشاركة فيها.
صحوة الضمير أو الاستدارة المتأخرة التي عبّر عنها المبعوث الأميركي للسودان، لم تخلُ من دلالات أهمها أن واشنطن لم تتلقف الملف السوادني بناءً على خلفية إنسانية كما تدّعي، لأن آخر ما تهتم به واشنطن في سياساتها الخارجية هو البعد الإنساني والسلم والأمن الدوليين، وتاريخها في الإجرام شاهد على ذلك. ويكفي التذكير هنا بأن واشنطن كانت سعت وراء تقسيم السودان.
المفارقة أن عودة واشنطن عبر السودان لم تخلُ من الهمز واللمز، وافتقدت إلى شروط الوساطة ومقتضيات الدبلوماسية، فالمبعوث الأميركي استعدى الجيش السوداني مبكراً في قوله: "إن الجيش السوداني أصبح أكثر عدائية وتطرفاً تجاه العودة إلى نظام ديمقراطي مدني، وبدا واضحاً أنه يعمل على العودة بالبلاد إلى فترة أخرى من الحكم الديكتاتوري". كما أوضح بيرييلو أن الجيش "يسعى عبر الدعم الذي يحصل عليه من الجماعات الإسلامية، التي تقاتل إلى جانبه، إلى إنهاء الحرب بتحقيق النصر كاملاً، وهذا ليس ممكناً".
يُذكر أنه في 19 أيلول/ سبتمبر 2024، عبّر كل من الجيش السوداني وقوات الدعم السريع عن انفتاحهما على إيجاد حلول سلمية للحرب المستمرة في البلاد منذ أكثر من 18 شهراً، وذلك رداً على دعوة الرئيس الأميركي جو بايدن للطرفين المتحاربين إلى الانخراط مجدداً في مسار المفاوضات.
لم تكتف واشنطن بالبوابة السودانية للعودة إلى القارة الأفريقية، فلم يمض يومان على ما كشفه المبعوث الأميركي الخاص للسودان، حتى قالت وزارة الخارجية الأميركية، في 4 تشرين الأول / أكتوبر الجاري، إن "الولايات المتحدة وقطر وتركيا والإمارات والمملكة المتحدة، ناقشت الحاجة إلى استكمال خطط مهمة الاتحاد الأفريقي الجديدة، وخيارات التمويل لتحقيق الاستقرار والدعم في الصومال".
بالمناسبة، لم تكن واشنطن بحاجة إلى التشاور مع 4 دول لدعم تمويل استقرار الصومال والاستعانة في ذلك بقوات الاتحاد الأفريقي؛ لأنه وببساطة، وقّعت واشنطن في 16 شباط/ فبراير الماضي، اتفاقاً لتعزيز قدرات القوات المسلحة الصومالية. ويقضي الاتفاق الذي تم توقيعه في مقديشو، بزيادة الدعم الأميركي المقدم للجيش الصومالي، ولا سيما لواء القوات الخاصة "دنب"، الذي دربته الولايات المتحدة.
وقبل ذلك، اجتهدت واشنطن في استمالة الصومال عندما قررت إدارة الرئيس بايدن إرسال السفير لاري أندريه إلى مقديشو في 24 كانون الثاني/ يناير 2022، من أجل دعم استقرار الصومال، والحقيقة أن واشنطن هدفت إلى دعم ترشح حسن شيخ محمود.
أدوات الاستدارة الأميركية للقارة الأفريقية ومحدداتها، وتحديداً في هذا التوقيت دوافعها عديدة ليس من بينها تطلعات دول القارة وشعوبها؛ بقدر ما تستهدف مواجهة تمدد نفوذ كل من الصين وروسيا وإيران، ومن أجل ذلك، راجعت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن سياساتها تجاه القارة الأفريقية.
وفي أواخر تشرين الثاني/ نوفمبر 2021، أعلن البنتاغون تشكيل قوة مهمات جديدة قوامها قرابة 1000 جندي، للمشاركة في مهمات قتالية في منطقة القرن الأفريقي، وقد أوحى الاسم الذي أُطلق عليها، "قوة التنِّين الأحمر"، بعزم واشنطن على مواجهة النفوذ الصيني.
ويُعدّ التحوّل الأبرز في سياسات واشنطن تجاه منطقة القرن الأفريقي عموماً، والصومال على وجه الخصوص، في قرار الرئيس بايدن بإعادة نشر نحو 500 جندي أميركي في الصومال، استجابةً لتوصية من وزير دفاعه لويد أوستن بتأسيس وجود عسكري مستمر في هذا الصومال.
استدارة واشنطن للسودان كان أبرز أدواتها قرار واشنطن إرسال سفير إلى السودان، ففي 24آب/ أغسطس 2022، وصل السفير الأميركي جون جودفري إلى الخرطوم ليكون أول سفير للولايات المتحدة في السودان منذ ما يقارب 25 عاماً. ويعدّ ذلك أحد أهم مؤشرات التحوّل في سياسات إدارة بايدن تجاه السودان، والحقيقة أن الأمر لم يكن تحوّلاً أميركياً تجاه السودان بقدر ما استهدف كبح التقارب الحاصل بين السودان مع روسيا والصين، وثني السودان عن الموافقة على قبول إقامة قاعدة عسكرية روسية على أراضيها. ومحاصرة التمدد الصيني المتصاعد الذي باتت مواجهته أحد أهم محددات الاستدارة الأميركية للقارة الأفريقية، خصوصاً عقب المنتدى الصيني- الأفريقي في 6 أيلول/سبتمبر 2024، وتعهد الرئيس شي جين بينغ -الذي زار أفريقيا 5 مرات منذ توليه السلطة -بتقديم دعم مالي قدره 50 مليار دولار على مدى السنوات الثلاث المقبلة لتعزيز العلاقات الصينية- الأفريقية.
النفاذ إلى أفريقيا ومواجهة التمدّد الروسي- الصيني، بات المحدد المُسيطر على سياسات واشنطن؛ ودفعها إلى البحث عن أدوات غير تقليدية من أجل استمالة الدول الأفريقية، وآخر المناورات الأميركية حديث الرئيس بايدن والسفيرة الأميركية في الأمم المتحدة في 12 أيلول/ سبتمبر 2024، بضرورة دعم مقترح إنشاء مقعدين دائمين في مجلس الأمن للدول الأفريقية.
تنافس الثالوث الأميركي- الصيني- الروسي على موارد القارة الأفريقية ومقدراتها ليس وليد اللحظة؛ وهو تنافس ممتد ومستمر وتختلف أدواته ومحدداته من حين إلى آخر، ولكن الملاحظ أن واشنطن التي كانت تُملي سياساتها على الدول الأفريقية والعربية كشرطي للعالم، باتت اليوم تكتفي بالبحث عن نفاذ إلى القارة الأفريقية من بوابة التوسط لتسوية الصراعات والنزاعات وبأدوات وقوات أفريقية.
إن فرص نفاذ واشنطن إلى القارة الأفريقية محدودة، وذلك لعدة محددات، أهمها أن واشنطن تتطلع إلى القارة الأفريقية بناء على محددات خارجية تتمثل في مواجهة النفوذ الصيني والروسي، وليس بناء على قناعة ومحددات أميركية موضوعية. في المقابل، قطعت كل من روسيا والصين شوطاً كبيراً في علاقتها بالقارة الأفريقية، سياسياً واقتصادياً وعسكرياً.
وعلى واشنطن مواجهة تلك العلاقات وتحييدها وإيجاد بدائل أميركية للدول الأفريقية قبل التفكير في مواجهة روسيا والصين وحتى إيران.
بوابة التوسط لحل الصراعات والنزاعات لا تبدو متاحة لواشنطن، ذلك أننا أمام صراعات مستحكمة ومعقدة، سواء في السودان الذي لا يمكن تسوية الصراع فيه من دون التطلع إلى مصالح القوى الإقليمية أولاً، ولأن واشنطن تفتقد إلى المصداقية والموضوعية والحيادية في كل وساطاتها لتسوية الصراعات والحروب -تجلى ذلك بوضوح خلال الحرب الإسرائيلية المستمرة على قطاع غزة -ومن بينها الصراع الدائر في السودان، وعلى مدار أكثر من عام ونصف اكتفت واشنطن بالمشاهدة لما يحدث في السودان، ولم تتحرك إلا من أجل مواجهة النفوذ الروسي. والأمر في الصومال لا يختلف عن السودان بفارق أن الصومال يواجه أطماعاً خارجية، ولا تمتلك واشنطن أي رؤية ممكنة تجاه إيجاد تسوية للصومال والتحديات التي تواجهه داخلياً أو خارجياً.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الإشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً