لماذا لا يُستهدف "المدنيون" الإسرائيليون!
قام الكيان الإسرائيلي على ارتكاب المجازر بحقّ أصحاب الأرض في فلسطين، فكانت نكبة العام 1948 وما لحقها من محطات لا تقلّ إجراماً، والهدف إفراغ الأرض من ناسها وتجميع "الشتات اليهودي" في بلاد الشام حيث يزعمون بأنها أرضهم الموعودة. ومن هنا ينطلق التأسيس لأيديولوجيا الإبادة؛ استبدال "شعب" بشعب، واستبدال "ثقافة" بثقافة وحضارة، وكلّ ذلك قائم على مبدأ "التفويض الإلهي" بقتل الأغيار (الغوييم).
يوماً بعد يوم يتظهّر تغلغل الإجرام والقتل في أدبياتهم الدينية التلمودية؛ وبالعودة إلى هذه الأدبيات، فهناك هدفان من وجود شعوب أخرى غير اليهود، الأول هو إلحاق الهزائم بالإسرائيليين إذا لم يطيعوا ربهم "يهوه" ويطبّقوا وصاياه، أما الثاني فهو لتنهزم هذه الشعوب غير اليهودية أمامهم عند الالتزام بالنصوص؛ وهنا يحقّ لليهود التلذذ بهذا الانتصار، وغالباً ما يتحقّق انتصارهم عبر ثلاثة مستويات؛ إما القتل ، أو الطرد، أو الاستعباد.
لذلك ليس مستغرباً أن نرى إصرار "إسرائيل" في كلّ حرب وعدوان جديد على ارتكاب مجزرة تلو أخرى، غير عابئة بأرواح المدنيين. بحسب الأرقام تخطّت حصيلة شهداء قطاع غزة الـ41 ألفاً، وفي لبنان وصلت إلى أكثر من 2000 شهيد، هذا فضلاً عن الجرحى والمفقودين هناك وهنا.
ومع كلّ مجزرة ترتكبها "إسرائيل"، تتعالى النداءات لحركات المقاومة وسؤالها عن سبب تحييد "مدنيّي إسرائيل". لماذا لا يتمّ قتلهم كما نُقتل. ولماذا لا تُهدم منازلهم على رؤوسهم كما يفعلون بنا؟ لماذا لا نُهدّد مستشفياتهم كما يجبروننا على إخلاء مستشفياتنا؟
أخلاقياً
على طول مسار حركات المقاومة لم يكن هناك موقف موحّد من استهداف "مدنيّي إسرائيل" على اعتبار أنّ لكلّ حركة وتنظيم فكره وأيديولوجيته وتوجّهاته السياسية التي تحرّكه، رغم أن الجامع بين هذه التنظيمات المقاوِمة أنها غير محكومة بالاتفاقيات الدولية كاتفاقية جنيف (1949)، والتي تشدّد على حماية من هو غير عسكري في ميادين القتال.
وربما هنا تبرز "إسرائيل" ككيان لا يرقى الى أن يكون "دولة"، ليس فقط لأنها أقيمت على أرض الغير فلسطين، بل لأنها بقيت خارج نطاق احترام الاتفاقيات الدولية، فرأيناها تمارس العنف العشوائي بكلّ أشكاله ورأينا حلفاءها وعلى رأسهم الولايات المتحدة تعطي المسوّغات لذلك من خلال عناوين عريضة كـ"الأضرار الجانبية". كم تبدو مفارقة ملفتة للانتباه أن تعطي تنظيمات الاهتمام للمواثيق الدولية، والتي لا توقيع لها عليها، وفي المقابل تنتهكها "إسرائيل"، وهي التي تضع توقيعها عليها!
هذا الحال لا ينطبق على حزب الله، رغم معرفته بأن لا مدنيّين حقيقيّين في "إسرائيل"، فهم مستوطنون مسلحون (أكثر من 42 ألف امرأة إسرائيلية تقدّمت بطلب للحصول على تصريح اقتناء السلاح في 2023) وأغلبهم احتياطي في "الجيش" الإسرائيلي (465 ألف جندي احتياط). كما أن تعريف المدني في الحروب هو كل من لا قيمة له في الحرب لأي من طرفي النزاع وهذا لا ينطبق على "إسرائيل". ومع ذلك يتمسّك حزب الله بالضوابط الأخلاقية إذ إنه يقاتل ولا يقتل. وهذا ما يتظهّر على الحدود مع فلسطين المحتلة.
وإذا كانت الرؤيا الأخلاقية لحزب الله ملتزمة عضوياً في المبادئ الإنسانية، التي أنتجتها، ولو نظرياً، المنظومة الدولية؛ فإن كيان الاحتلال له رؤيا مغايرة تماماً. على سبيل المثال، يسرد الباحث إسرائيل شاحاك في كتابه "تاريخ اليهودية" حواراً بين جندي صهيوني وحاخام، ويسأل الأول "هل هنالك حالات ننفّذ فيها طهارة السلاح؟" (والمقصود تجنّب قتل الأطفال والنساء أو المدنيين بشكل عام)، فيجيب الحاخام "الأفضل من غير اليهود اقتله، وأفضل الأفاعي انزع فمها".
استراتيجيا
أما استراتيجياً، ورغم واقع الحال الذي يقول بأن "إسرائيل" اعتمدت "عقيدة الضاحية" في حروبها منذ العام 2006، أي تدمير كل ما يمكن تدميره، إلا أنها أثبتت فشلها استراتيجياً، إذ إن ثقلها يقتصر على المدنيين لا على استمرار وثبات حركات المقاومة.
بالنسبة لحزب الله من الواضح بأنه يدرك جيداً ما الذي يمكن أن يوجع الإسرائيلي. فإن استهداف التجمّعات العسكرية (قواعد جوية، مطارات، مخازن، إلخ..) اليوم يعني ملايين الدولارات من الخسائر ويعني أيضاً تعطيل هذه المنشآت التي تُستخدم عملياً في الغارات والإمداد، أما استهداف الجنود وقتلهم فيعني إحداث خسائر بشرية في أهم "مؤسسة" بالنسبة لكيان الاحتلال وهي "الجيش"، وهذا ما يعزّز بدوره وكنتيجة تقاعس الكثير من الإسرائيليين عن الالتحاق بالجبهات والسبب خشيتهم من مصير مشابه لمن سبقوهم إلى الميدان.
أما استهداف "المدنيّين الإسرائيليين" فقد لا يُعطي النتائج نفسها، لأن ذلك من شأنه أن يعزّز من تآزرهم، هذا فضلاً عن الأكاذيب التي قد تلصق بأي عملية تطال أي "مدني" ما قد يستدعي سخطاً دولياً تماماً كما حصل في "عملية طوفان الأقصى"، لناحية التركيز على الرهائن المدنيين غير آبهين بأن جوهر العملية لم يكن سوى استهداف القسّام لتجمّعات وقواعد عسكرية لا أكثر ولا أقل.
اليوم هناك تظاهرات لا تتوقّف في "إسرائيل" تطالب بإعادة الأسرى لدى المقاومة، حتى الساعة لا أحد من المسؤولين يستجيب لها، في حين أن الماضي القريب لا يزال ماثلاً أمامنا، حول قوة تأثير تحرّكات أهالي الجنود. كحركة "آباء ضد الصمت" والتي ظهرت في أيار/مايو من العام 1983 بعد نحو عام من الاجتياح الإسرائيلي للبنان حيث قتل ما لا يقل عن 500 جندي إسرائيلي، وبقيت على مطالباتها بالانسحاب من لبنان حتى 1985 إلى حين انسحاب "الجيش" الإسرائيلي.
والأمر ذاته تكرّر مع حركة "الأمهات الأربع" بعد سقوط مروحيات إسرائيلية في العام 1997 حيث قتل 73 إسرائيلياً والتي حلّت نفسها على أثر الانسحاب عام 2000. وهذا ينسحب على حركة "أسرى" التي تشكّلت عام 2004 احتجاجاً على مقتل الكثير من الجنود الإسرائيليين في قطاع غزة.
حتى الساعة لا يتصرّف حزب الله بمنطق الردّ الشامل الذي يطال التجمّعات المكتظة، أما في حال اتساع الحرب أكثر فأكثر وفي ظل إمعان الإسرائيلي في ارتكاب المزيد من المجازر، هنا بالتأكيد ستختفي الحدود الفاصلة بين ما هو مدني وما هو عسكري. ويصبح المنطق الحاكم قتل بقتل و"هذه بتلك".
لا تتبنى الإشراق بالضرورة الآراء والتوصيفات المذكورة