لماذا يتآمرون على فلسطين؟
إذا عدنا بذاكرتنا إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى، ولاحقاً الثانية، فإننا سنتذكر عشرات، إن لم نقل مئات، بل وآلاف الكتب والمقالات والأخبار التي تحدّثنا عن تآمر الأنظمة العربية والإسلامية ضد الشعب الفلسطيني.
يتذكر الجميع أن أنظمة المنطقة، وفي مقدمتها السعودية والأردن، عندما كانت جميعاً مستعمرات بريطانية، تآمرت على فلسطين ومجمل القضايا العربية، بداية باتفاقيات سايكس بيكو ووعد بلفور، مروراً بالتواصل السري والعلني بين لندن وباريس مع الأنظمة المذكورة، ولم تتراجع أبداً عن نهجها المتواطئ مع الدول الإمبريالية، وفي مقدمتها أميركا، التي تحولت إلى لاعب أساسي في المنطقة بعد الحرب العالمية الثانية، إذ التقى الرئيس روزفلت في 14 شباط/فبراير 1945 الملك السعودي عبد العزيز آل سعود، وبعده بيوم الملك المصري فاروق، وذلك على متن المدمرة الأميركية كوينسي.
وأعلن الملكان خلال هذا اللقاء ولاءهما المطلق لواشنطن التي نجحت بعد ذلك بثلاثين شهراً في تمرير قرار التقسيم في الأمم المتحدة التي أعطت نصف فلسطين لليهود الذين جاؤوها من الخارج وأقاموا الكيان العبري فيها.
وتتالت السنوات والأحداث بعد ذلك بسرعة، واختلط الحابل بالنابل في جميع تطورات القضية الفلسطينية التي تآمرت عليها الأنظمة العربية، ليس داخل جدران الجامعة العربية فحسب، بل حتى في مجمل الحروب اللاحقة مع الكيان الصهيوني، ليس في 1948 و1956 و1967 و1973 فحسب، بل في جميع حروب لبنان وكل الحروب الثنائية والجماعية في المنطقة أيضاً، بما في ذلك حرب صدام حسين على إيران وتمرّد الإخوان في سوريا أواخر السبعينيات وتمزيق وحدة السودان والتوترات التقليدية بين الدول العربية، وآخر ذلك هو ما عشناه معاً في سنوات الربيع العربي الدموي.
وقد تآمرت خلاله الأنظمة المعروفة على دول المنطقة، وفي مقدمتها سوريا، بذريعة "نظامها العلوي المدعوم من إيران الشيعية وفصائل المقاومة الشيعية في المنطقة"، من دون أن يخطر على بال هذه الأنظمة وأبواقها المسعورة أن كل الذين يتقاتلون في ليبيا هم من السنة، وهو حال الدول العربية وتركيا التي تدعمهم، مع التذكير أيضاً أنه لا يوجد في ليبيا أي علوي أو شيعي أو كردي أو أيزيدي أو مسيحي، في الوقت الذي يعرف الجميع أن المستفيد الأكبر من كل ذلك هو الكيان الصهيوني الذي لولا دمار سوريا لما تجرأ على عدوانه، ليس على هذا البلد فحسب، بل أيضاً باقي دول المنطقة، والآن غزة والضفة الغربية.
على سبيل المثال، لو كان الذين قتلوا في سوريا والعراق واليمن وليبيا ولبنان والدول العربية الأخرى في سنوات الربيع الدموي في جبهات القتال مع "إسرائيل"، لما كان هذا الكيان موجوداً الآن على الخارطة الجغرافية أساساً، من دون أن ننسى أن نذكر كل من يتحدث بلغته الطائفية ضد سوريا وإيران واليمن والعراق بأن الشاه رضا بهلوي كان شيعياً وحليفاً لحكام الخليج، وخصوصاً السعودية التي تآمرت على اليمن عام 1962، عندما أطاح الجيش الملك الإمام البدر، وهو شيعي.
وقد هرب إلى السعودية التي قدمت له، ومعها أميركا وبريطانيا وفرنسا و"إسرائيل" وباكستان (السنية)، كل أنواع الدعم العسكري ضد اليمن الجديد الذي كان مدعوماً من مصر بقيادة عبد الناصر، في الوقت الذي كانت تركيا السنية بحزب الشعب الجمهوري العلماني، ومن (بعد انتخابات 1950) بعده الديمقراطي المتدين، على خطّ التحالف مع الكيان الصهيوني الذي اعترفت به أنقرة بعد 9 أشهر من قيامه ليساعدها ذلك على الانضمام إلى الحلف الأطلسي، ولاحقاً حلف بغداد، ومعها إيران والملك العراقي الهاشمي، من دون أن تتردد تركيا آنذاك في استضافة بن غوريون على أراضيها صيف 1958 للتآمر على سوريا بعد وحدتها مع مصر التي قادت آنذاك حركات التحرر الوطني في المنطقة وأفريقيا أيضاً.
وشهدت علاقات أنقرة بعد ذلك التاريخ العديد من حالات المد والجزر مع "تل أبيب" بانعكاسات ذلك على علاقاتها مع دول الإقليم، وكان آخر ذلك دورها في الربيع العربي بالتنسيق مع أنظمة المنطقة، ومن ثم خلافاتها ومصالحاتها معها، وبالتالي مجمل تناقضاتها في سياستها تجاه القضية الفلسطينية، وبشكل خاص قبل وبعد طوفان الأقصى.
وقد شهدنا هذه التناقضات وما زلنا نشاهدها معاً في مواقف وسياسات معظم الأنظمة العربية، ومعها الإسلامية، التي لم تتدخل لوضع حد سريع وعملي لمجازر الكيان الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني في غزة والضفة الغربية، فقد اجتمعت منظمة التعاون الإسلامي على مستوى القمة والوزراء أكثر من مرة، ولكن دون أن تتفق على الحد الأدنى من العمل المشترك لدعم الشعب الفلسطيني، وهذا هو حال الأنظمة العربية التي لم تعد تخجل حتى من شعوبها، والتي استمرت في مسرحيتها في أروقة الجامعة العربية أو خارجها، وهي تضغط على حماس لإجبارها على تقديم المزيد من التنازلات المطلوبة من المجرم نتنياهو حتى يقبل بوقف إطلاق النار في غزة، وأي عار هذا على هذه الأنظمة وأبواقها الخبيثة المتواطئة التي حمَّلت في البداية حماس مسؤولية الحرب الحالية، كما تسعى لإقناع شعوبها بأنه "لولا إيران وسوريا وحزب الله واليمن والعراق لكان سهلاً عليها أن تقنع تل أبيب بوقف الحرب"!
يأتي ذلك في الوقت الذي يعرف الجميع أن معظم هذه الأنظمة، وبدرجات متفاوتة، تتمنى لحماس أن تهزم في حربها في غزة، كما تمنت ذلك لحزب الله في حرب تموز/يوليو 2006، والآن في الجبهة الشمالية؛ مصدر الرعب الحقيقي بالنسبة إلى الكيان الصهيوني، وإلا لماذا يستمر التحالف السعودي -الإماراتي في حربه ضد اليمن؟ ولماذا تستمر السلطة الفلسطينية المدعومة من الأنظمة العربية المتواطئة في تعاونها الأمني مع الكيان الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني؟
وأخيراً، لماذا تستمر مصر وقطر اللتان كانتا حتى العام الماضي في جبهتين معاديتين في أدائهما المسرحي خلال مباحثات الدوحة والقاهرة، من دون أن تباليا بآلام ومآسي الشعب الفلسطيني العظيم الذي كان وما زال ضحية مؤامرات العديد من الأنظمة العربية والإسلامية؟ وإلا لماذا لم تفكر هذه الأنظمة إن كانت صادقة في الحد الأدنى من شعورها الوطني والقومي والديني تجاه الشعب الفلسطيني في إلقاء خطوات عملية على طريق التنسيق والتعاون المشترك ضد المجرم نتنياهو؟
ويتطلب ذلك منها أن تستعجل في المصالحة العملية مع دمشق، وترسل رسائل عملية وعلنية إلى الشعب والدولة اللبنانية (بدلاً من دعوة مواطنيها إلى مغادرة لبنان) في تحديها البطولي للعدوان الصهيوني الهمجي، من دون أن نتجاهل التناقضات التقليدية لهذه الأنظمة مع إيران وفي العراق، وهو ما يستغله الكيان الصهيوني الذي يقول لشعبه والعالم إن الأنظمة العربية والإسلامية متواطئة معه، وإنها لن تستطيع أن تفعل أي شيء ضد "إسرائيل"، ليس لأنها متواطئة وعميلة فحسب، بل لأنها أيضاً جبانة وتخاف من واشنطن سيدة الجميع ممن لا مبادئ لهم ولا أخلاق أو كرامة وإباء.
وتأتي مواقف الأنظمة المذكورة لتؤكد صحة مقولات المجرم نتنياهو الذي سيتمادى في عدوانه ضد الشعب الفلسطيني ما دام يعتقد أن الأنظمة معه بشكل مباشر أو غير مباشر، وبحماسة بالغة، ضد حماس، لأنه بات في خط المواجهة الأول مع حزب الله وأنصار الله وحلفائهم في سوريا والعراق واليمن وإيران وباقي شعوب المنطقة والعالم، وإلا لماذا لم يتخذ وزراء خارجية الجامعة العربية الذين اجتمعوا في القاهرة، ولو لمرة واحدة، موقفاً عملياً لمنع العدوان الصهيوني، بل دخلوا في نقاشات ثانوية تافهة حول مشاركة وزير الخارجية التركي هاكان فيدان في الاجتماع، من دون أن يخطر على بال أحد أنها ليست هي المرة الأولى التي يشارك فيها وزير تركي في اجتماعات الجامعة العربية، فقد تحدث أحمد داوود أوغلو لأول مرة هناك في 9 أيار/سبتمبر 2009 وبمبادرة سورية عندما كانت علاقات أنقرة جيدة مع سوريا.
وكانت المشاركة الثانية لداوود أوغلو في الاجتماع الوزاري في 12 نوفمبر/تشرين الثاني 2011، عندما قررت الجامعة العربية تعليق عضوية سوريا بتحريض من وزيري خارجية قطر والسعودية، ومعهما داوود أوغلو.
ونسي داوود أوغلو أنّ سوريا أدت دوراً مهماً وأساسياً في انتخاب مرشح تركيا أكمل الدين إحسان أوغلو أميناً عاماً لمنظمة المؤتمر الإسلامي في 15 حزيران/يونيو 2004، إذ كانت السعودية ومصر ضد إحسان أوغلو.
وكانت سوريا البلد المبادر إلى دعوة رئيس الوزراء إردوغان إلى اجتماع القمة العربية في الخرطوم نهاية مارس/آذار 2006، وبعدها بعام في قمة الرياض، وأخيراً قمة سرت في مارس/آذار 2010، أي قبل عام مما يسمى بالربيع العربي الذي أطاح العقيد القذافي بمساهمة تركية مباشرة أو غير مباشرة جنباً إلى جنب مع الدول الإمبريالية والاستعمارية التي خدمت دائماً المشروع الصهيوني فقط، وما زالت كذلك رغم مقولاتها ومواقفها التكتيكية المتناقضة التي يعرف الجميع أنها لن تنتهي إلا بنهاية تواطؤ الأنظمة العربية والإسلامية (تحالف أذربيجان الاستراتيجي مع تل أبيب مثال آخر على ذلك) وتآمرها على الشعب الفلسطيني.
لذلك، العديد من المبررات والأسباب، وأهمها الخلايا الجينية الوراثية، وباستئصالها سيكون سهلاً علينا جميعاً أن نعمل معاً من النيل إلى الفرات، ومن المحيط إلى الخليج، كي نتخلص من الورم الخبيث الذي باتت أيامه معدودة بعد كل انتكاسات الكيان العبري الصهيوني أمام إرادة الشعب الفلسطيني الأسطورية ومن معه من شرفاء الأمة والعالم.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الإشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً