المحور والتحالف
محور المقاومة في فلسطين والوطن العربي عموماً وفي آسيا وأفريقيا، يواجه الغرب الذي دفع بكل قواه وسياسيّيه وإعلامه لدعم الإبادة الوحشية للاحتلال الإسرائيلي بحق الفلسطينيين. لكن قطار محور المقاومة انطلق من محطة غزة ولن تستطيع تحالفات الغرب إيقافه بعد اليوم.
أقرأ كتاباً صدر حديثاً باللغة الإنكليزية بعنوان: "حبّ وإخلاص وخداع" عن دار بيرغهان في أوكسفورد ونيويورك. ومع أن محور الكتاب يدور حول علاقات شخصية غير عادية إلا أنه غني بمعلوماته التاريخية والمجتمعية والأنثروبولوجية والسياسية. ذلك لأن الشخصيات الرئيسية كانت من أوائل من أسّس علم الأنثروبولوجيا في جامعة لندن، وقامت ببعثات بحثية وأنثروبولوجية في الصين وماليزيا والهند وبورما قبيل وخلال الحرب العالمية الثانية، أي أن البعثات تشكّلت من أهمّ المختصين وأقدرهم على البحث؛ فدرست هذه المجتمعات عرقياً ودينياً وتاريخياً، ونفذت إلى الفروقات العشائرية والجندرية، وتوصّلت إلى نتائج أفضل السبل للتعامل مع تلك المجموعات البشرية. وحين نشبت الحرب العالمية الثانية كانت الأوراق البحثية والنتائج التي تمّ التوصل إليها أغلى وأهم ما حفظوه من الغرق والضياع والفقدان في رحلات صعبة استغرقت أشهراً. منذ ذلك الوقت كان التبادل بين الولايات المتحدة وبريطانيا في العلم والمعلومة والبحث والاستنتاج كالتبادل بين جامعات وأبناء البلد الواحد.
وتعزّز هذا الإرث بشكل كبير بعد الحرب العالمية الثانية، وضمّ بعد تشكّل الاتحاد الأوروبي أوروبا الغربية كلّها، وأصبح هذا الإرث المعرفي والاستشراقي والذي ينظر إلى كل المجتمعات الأخرى نظرة دونية إرثاً غربياً بامتياز، وأصبحت مجتمعات الشرق والجنوب مادة للبحث من أجل إحكام السيطرة عليها ونهب مواردها وإبقائها في حال من التخلّف يسمح باستغلالها بسهولة ويسر. وحين احتلّ اليابانيون بورما عاد بعض هؤلاء الباحثين إلى بورما والهند وماليزيا، وكانت مهمّتهم المعلنة تجنيد جواسيس من هذه المجتمعات لصالح المملكة المتحدة ولمقاومة اليابانيين، وضمان استمرار القبضة البريطانية الغربية عليها.
بعد قرن تقريباً من ذلك التاريخ هذا هو الغرب الذي نواجهه اليوم في فلسطين والوطن العربي عموماً وفي آسيا وأفريقيا، وهذه هي أدواته: دراسة وبحث وفهم مجتمعاتنا وتركيباتها الإثنية والعرقية والدينية، وإيجاد أسهل المنافذ لاختراقها وتجنيد جواسيس فيها من ضعاف النفوس لخدمة استمرار الهيمنة الغربية وقمع الشعوب ونهب ثرواتها وفتح أسواقها، ومنع البلدان من تحقيق نمو وازدهار تصاعدي لا توقفه أو تشلّه الحروب، والتي تهدف أساساً لمنع هذه المجتمعات من التطوّر والإمساك بناصية شؤونها وإنجاز الاستقلال الحقيقي في قراراتها ومساراتها السياسية والاقتصادية والمجتمعية.
إضافة إلى الحروب المفتعلة ضد العرب وشعوب آسيا وأفريقيا، فإن الغرب قد اعتمد وبشكل جوهري على دبّ الفرقة بين أبناء البلد الواحد والدين الواحد والطائفة الواحدة والمجتمع الواحد على أسس واهية اخترعها هو لهم، لم يفكّروا من قبل بها، من فروقات دينية إلى طائفية وعرقية ومذهبية، وإذا لم توجد يخترعونها ويجنّدون لنشرها من أهل البلاد والدين والطائفة والقبيلة. ولذلك فإن العدو الأساسي لخطط الغرب هو العيش المشترك الحقيقي والتعاون والتعاضد بين أبناء المجتمع والمجتمعات التي تمتلك عناصر مشتركة وتتقاسم الأهداف التي تسعى لتحقيقها، ولذلك ترى أنهم قسّموا العرب إلى 22 دولة وقسّموا أفريقيا بحسب حدود الاستعمار، ولذلك تراهم يثيرون النعرات الانفصالية في يوغوسلافيا وإيران وفي كلّ مكان.
في هذا السياق المعرفي من المناسب أن نشير إلى ما نشرته مجلة "فورين أفيرز" في 17 كانون الثاني/يناير 2024 بعنوان: "كيف تمكّنت الحرب في غزة من إحياء محور المقاومة". وبغض النظر عن المواربة في المصطلحات والتي توحي للقارئ بأن أعمال 7 أكتوبر كانت شاهداً على القتل والخطف، بينما تأتي كلّ جرائم حرب الإبادة الصهيونية للمدنيين من أطفال ونساء في غزة وفلسطين عموماً بصيغة المبني للمجهول، وأنّ كوارث الدمار وقصف المستشفيات والمدارس والمنازل والجامعات ودور العبادة حلّت من دون معرفة من قام بقتل النساء والأطفال ومن دون أن يتمّ ذكر النساء والأطفال والمشافي والمدارس.
ولكن وبغض النظر عن كل هذا الانتهاك الغربي المقصود للغة والمصطلح وتضحيته بالحقائق، فقد ركّز المقال على خطورة فكرة التضامن بين إيران وسوريا والمقاومة في فلسطين وحزب الله واليمن، وأن التنسيق بين هؤلاء الأطراف أمر خطير جداً على الغرب وصنيعته "إسرائيل"، وينذر "إسرائيل" والغرب بواقع جديد عليهم مواجهته. ويتعرّض المقال بدهشة واستغراب لإتقان المقاومة لوسائل التواصل الاجتماعي، وحرصها على تفنيد أعمالها ضمن الشرعية الدولية، الأمر الذي يلقى آذاناً صاغية في المجتمعات الأخرى وحتى الغربية منها.
واعتبر المقال أن هذا يشكّل تحدّياً للغرب، ويثير غضب المجتمعات المؤيّدة، ويعزّز من تأثير محور المقاومة. ولذلك دعا إلى وقف الحرب على غزة والتوصّل إلى تسوية نهائية قبل أن يفقد الغرب تأثيره ومكانته في الشرق الأوسط. ويعترف المقال أن الولايات المتحدة لا تستطيع تفكيك هذا المحور بسهولة، ولا إلحاق الهزيمة بالأفكار التي بُني عليها، ولذلك يدعو إلى تسوية سريعة للقضية الفلسطينية وإلا فسوف يصبح المحور واقعاً إقليمياً وعلى الولايات المتحدة التعامل معه لسنوات مقبلة.
ما غاب عن المقال هو أن التحالف الغربي الذي هو شريك في حرب الإبادة على فلسطين منذ مجازر العصابات الصهيونية في دير ياسين، وكلّ ما شهده العالم من قتل وإبادة وتطهير عرقي واحتقار للقانون الدولي قد غيّر الواقع مرة وإلى الأبد، وأنّ أحداً لن يستطيع أن يعيد عقارب الساعة إلى الوراء أبداً. لقد انكشف الغرب عارياً سياسياً وإعلامياً وأخلاقياً أمام من حاول إبهارهم لقرون "بحريته" و"ديمقراطيته"، انكشف أنه لا يقيم للأخلاق ولا للحياة البشرية البريئة ولا للطفولة وزناً، وأنه يدوس على كلّ الأعراف والقوانين، بما فيها قوانين الحرب والأسْر، لدعم قاعدته الاستعمارية في الوطن العربي، وليصمت صمت القبور عن أبشع ما يمكن أن يرتكبه بشر بحق إخوانهم في الإنسانية.
لقد انكشف التحالف الغربي على حقيقته الاستعمارية الوحشية فهو داعم لإرهاب كيان عنصري صهيوني لا تختلف جرائمه أبداً عن جرائم "داعش" في سوريا والعراق، ولذلك فإنّ وعي الشعوب لا يمكن تجميده ولا يمكن العودة به إلى ما قبل غزة، ولا يمكن إيقاف ارتدادات ما جرى في فلسطين على المنطقة والعالم، والتي سوف تستمر عقوداً أو تأتي بنتائج لم يكن الغرب يحسب لها حساباً. لقد أعلنت الحرب على فلسطين سقوط الغرب المدوّي في ضمائر كل شعوب الأرض وسيحصد الغرب نتائج هذا لعقود مقبلة. وأتّفق تماماً مع ما قاله الباحث شولتو بيرنز في مقاله في جريدة الناشيونال في 17/1/2024 بعنوان: "القضية التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد إسرائيل قد كشفت تصدّعات ما بعد الكولونيالية في العالم أجمع"، حيث قال: "نحن نشهد تغيّرات بركانية.
يبدو أن قادة الدول الاستعمارية السابقة غير مدركين حجم الإرادة الطيبة التي يعبثون بها، أو الدرجة التي تتسبّب بها أعمالهم بمواقف ضدهم في أنحاء العالم كافة". كان لافتاً أن تساهم ناميبيا في الاحتجاج على حضور ألمانيا جلسة المحكمة إلى جانب الوفد الصهيوني، وأن يعلن الرئيس الناميبي هيغ غينغوب أنه لا يحقّ لألمانيا التي ارتكبت أول إبادة في القرن العشرين 1904-1908، حيث قتلت عشرات الآلاف من الناميبيين، أن تجلس في هذا المكان.
لقد دفع الغرب بكل قواه وسياسيّيه وإعلامه لدعم جرائم الإبادة الوحشية التي يرتكبها الكيان الصهيوني منذ اليوم الأول لحرب الإبادة هذه، أملاً منه في استعراض قوته واستعادة مكانته العالمية، ولكنّ السحر انقلب على الساحر وسيسجّل التاريخ العدوان على فلسطين والإبادة المشينة للشعب الفلسطيني كبداية لنهاية الغرب الاستعماري، وكلّ كذبه ونفاقه وعنصريّته ونهبه التي مارسها ضد شعوب الأرض، والقطار انطلق من محطة غزة ولن تستطيع تحالفاتهم إيقافه بعد اليوم.