في الحاجة إلى "دوزنة" الخطاب الفلسطيني.. نقاط عشر للمناقشة
الاشراق | متابعة.
كيف يدير الفلسطينيون معركتهم في الضفة الغربية على وجه الخصوص؟ أي فرص وأي تحديات؟ ما أسلحتهم وأدواتهم؟ أي استراتيجية بديلة يمكن اشتقاقها؟ وهل هناك فرصة للتوحد حولها؟
كان المشروع الصهيوني، ولا يزال، يستهدف الفلسطينيين، كل الفلسطينيين، في الوطن المحتل والمحاصر، وفي الشتات. تلك حقيقة يعرفها كل فلسطيني، ولديه من تجربته الشخصية المعيشة ما يكفي من الشواهد على صحتها، لكن ذلك لم يمنع تبدل أولويات الاستهداف الإسرائيلي تبعاً لتبدل الظروف والمعطيات وتعاقب الحقب والمراحل التاريخية.
1 - القدس والضفة في صدارة الاستهداف
اليوم، تتمثل أولويات "إسرائيل" بالقدس والضفة الغربية. قبل ذلك، أعطيت الأولوية لكسر شوكة قطاع غزة وإلحاق الهزيمة بأجياله المتعاقبة. وبعد النكبة، كانت "أسرلة فلسطينيي -48" وتهويد بلداتهم ومدنهم وقراهم أولوية لا تعلوها أولوية أخرى. وبعد انطلاق الثورة والحركة الوطنية المعاصرة، حظيت مطاردة "الفدائيين" وتصفيتهم بصدارة الأولويات الإسرائيلية.
لكلّ مرحلة أولوياتها الملحة، لكن الثابت أنه بعد "النكسة"، احتلّت الضفة الغربية، بوصفها "يهودا والسامرة"، أولوية عابرة للحقب والمراحل. اليوم، كما في الأمس، تتمثل أولويات "إسرائيل" بتصفية مقاومة الضفة وإخماد "غضبها" توطئة للمضي في ابتلاعها وضمها وتهويدها وأسرلتها، بدءاً من القدس. لا صوت إسرائيلياً يعلو على هذا الصوت.
كيف يدير الفلسطينيون معركتهم في الضفة الغربية على وجه الخصوص؟ أي فرص وأي تحديات؟ ما أسلحتهم وأدواتهم؟ أي استراتيجية بديلة يمكن اشتقاقها؟ وهل هناك فرصة للتوحد حولها؟ وما أدوار مختلف مكونات الشعب في إنقاذ القدس والضفة؟
أسئلة لا نجد إجابة "وطنية جامعة" عنها، ولا نرى حواراً وطنياً ذا طبيعة استراتيجية يدور حولها، متخطياً حدود البحث في "تقاسم السلطة والنفوذ" و"المعادلة الصفرية" التي تحكم العلاقة بين جناحي الانقسام.
2 - الانقسام ومعادلة "ما لا يدرك كله لا يترك جله"
لم يبقَ وسيط مؤهل للقيام بدور تجسيري بين طرفي الانقسام إلا وقد حاول مرة أو أكثر تجربة حظوظه، ولكن المحاولات كلها فشلت فشلاً ذريعاً، ولم تفلح في وقف التدهور والتراشق وتعميق "الفالق الزلزالي" بين الطرفين.
الانقسام العمودي الذي ضرب الساحة الفلسطينية يشارف على إتمام عقده الثاني، فيما الأفق ملبّد بانقسامات فرعية متناسلة عن الانقسام الأصلي، بعضها ظاهر، وبعضها الآخر كامن.
فتح تحولت إلى "فتوح"، والفجوة بين بعض اتجاهاتها وتياراتها تفوق الفجوة التي تباعدها عن حماس. بعض أركانها متورط في "التنسيق الأمني" من دون رادع أو وازع، فيما بعض مناضليها يسابق المقاومين على خطوط التماس والشهادة.
لا شفاء يُرتجى لما كان يعُدّ عموداً فقرياً للحركة الوطنية الفلسطينية، أقله في المدى المنظور، وإلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً. ولولا أن الاحتلال جاثم على صدور الفلسطينيين من سكان "أ - ب - ج" على حد سواء لتحولت الضفة إلى مسرحٍ لحروب "الإخوة الأعداء" داخل فتح، وبين فتح وخصومها من فصائل أخرى، وبين جيل جديد لا يرى بديلاً من المقاومة وجيل استمرأ رغد العيش وعاش 30 عاماً بانتظار "آخر الشهر".
لا أفق لمصالحة وطنية تبدد الانقسام، ولا مكان لرزمة شاملة تضع الجميع على سكة "رابح – رابح". مثل هذا السيناريو بحاجة إلى انقلاب في المشهد. ثورة داخل الثورة في فتح أو انتفاضة فلسطينية تكنس السلطة وتكنس الانقسام في طريقها لكنس الاحتلال. وفي ظني أنَّ الأوان آن لتجربة العمل بقاعدة: "ما لا يدرك كله، لا يترك جُلّه"، فهل من مبادر؟
نعني بهذه المعادلة، من ضمن ما نعنيه، ترك ما في غزة لحماس، وترك "بقايا الضفة" وما تبقى من هوامش حركة فيها لفتح وسلطتها، والبحث في إنشاء "بينة فوقية" أو بناء "روف" مشترك أو "جسر علوي" لإدارة الانقسام وضبط إيقاعاته والحيلولة دون انفلاته، يبدأ بصياغة "ميثاق شرف" لضبط فلتان الخطاب واللسان، ولا ينتهي بالبحث عمّا يمكن فعله معاً لتبديد أبشع الهواجس والمخاوف أو يسعى لتدشين إجراءات بناء الثقة، إن كان ثمة متسع للثقة المتبادلة بين الأطراف.
3- خطر الانقسامات المتناسلة
ليس مستبعداً أبداً أن يتفشى "فيروس" الانقسامات المتناسلة بما يتخطى فتح والضفة الغربية والمنظمة. ثمة نقاش فلسطيني حقيقي، غالباً في الغرف المغلقة، وقليل منه يخرج للعلن، بأن حماس والجهاد في غزة تعيدان إنتاج سيرة العلاقة بين فتح وحماس قبل أكثر من 20 عاماً. يومها، كانت فتح هي السلطة، وحماس هي المقاومة. وفي كل عملية تشنها الأخيرة ضد "إسرائيل"، كانت السلطة تتلقى أشد انتقام، إلى جانب حماس بالطبع.
اليوم، تبدو حماس في موقع "سلطة الأمر الواقع"، وتأخذ حركة الجهاد الدور المبادر في المقاومة. وقد خاضت منفردة 3 حروب وقعت على كاهلها أعباؤها الأكبر. غرفة العمليات المشتركة إطار مناسب ومدخل مهم لتنظيم التنافس وتنسيق المواقف واحتواء الاختلاف وتفادي الانقسام، لكن ثمة ضرورة قصوى للتنبيه إلى أننا ربما نكون بحاجة إلى ما أكثر من غرفة مشتركة لقطع الطريق على سيناريو الانقسام المتناسل، إن لم يكن في المدى المنظور، ففي المديين المتوسط والبعيد، ومن الحكمة درء الخطر قبل وقوعه، بدلاً من الاكتفاء باحتواء عواقبه وتداعياته.
4- منظمة التحرير "الخاتم" والشرعية
قد تكون منظمة التحرير الفلسطينية هي هذا البناء الفوقي (الجسر الرابط) بين كيانين فلسطينيين قائمين، يجادل البعض. لا بأس، مع أن وظيفة المنظمة بوصفها وطناً معنوياً للفلسطينيين إلى أن يتحرر وطنهم أكبر من ذلك بكثير.
أهمية المنظمة تتعاظم على وقع التأكل المطرد لمكانة السلطة وموقعها ودورها، لكن مشكلة هذا الطرح أنه لن يجد أذناً صاغية لدى القيادة النافذة في المنظمة التي نجحت في تحويلها إلى مجرد "خاتم" تُمهر به الأوراق، بعدما صارت كياناً منبتّاً لا صفة تمثيلية واقعية حقيقية له، ولا يؤتى على ذكره إلا عند الحاجة لإبرام صفقة أو إضفاء تعديل على الوثائق المؤسسة للحركة الوطنية الفلسطينية، وربما تتجدد أهمية "شرعيتها" كبديل لشرعية الانتخابات حين تحين لحظة "ما بعد عباس".
لا تستطيع السلطة (فتح) سحب بساط غزة من تحت أقدام حماس، ولا تستطيع أيضاً أن تمنع تقدم حماس في الضفة الغربية. هذا فعل خارج عن سيطرة السلطة والاحتلال سواء بسواء، لكن السلطة تستطيع أن تغلق أبواب المنظمة ونوافذها في وجه الفصائل والشخصيات غير المرغوبة. لذلك، تبدو مهمة بعث منظمة التحرير وإحيائها عصية على الإنجاز، رغم جوهريتها والحاجة الملحّة إليها.
فتح لم تفعل شيئاً لبعث المنظمة وتجديد حيويتها، برغم اللغو الكثير الذي يحيط بهذه المسألة، وهي تفضل إلقاء اللائمة على حماس التي تأبى الانضمام إلى المنظمة (بشروط فتح بالطبع)، وتصور انتخابات المجلس الوطني الفلسطيني كما لو كانت "مهمة مستحيلة".
قيادة فتح أدارت ظهرها للنداءات التي طالبتها ببعث المنظمة وتنشيطها، بحماس أو من دونها، واكتفت خلال السنوات الفائتة بتجريم وشيطنة كل اجتماع شعبي يعقد في الخارج لفلسطيني الوطن والشتات، وإطلاق التنبيهات الفارغة من كل مضمون بأننا بإزاء مشاريع منظمة بديلة أو موازية، مع أنه لم يعد هناك من يستذكر المنظمة الأم إلا في المناسبات الحزينة في الغالب الأعم.
هنا، وفي هذه المناسبة، تشتد الحاجة إلى الدعوة إلى تكثيف مثل هذه المؤتمرات وتوسيع قاعدتها التمثيلية، إن لم يكن بهدف تحفيز القيادة على فك أسر المنظمة والإفراج عنها، فبهدف الاستعداد للحظة التي تنتقل فيها من أيدي القيادة الشائخة والمرتجفة إلى أيدٍ فلسطينية أكثر قدرة وجرأة في الاستجابة لمقتضيات مرحلة استراتيجية جديدة.
5- السلطة من ذخر إلى عبء
كأن الفلسطينيين ضاقوا ذرعاً بالسلطة، فغالبيتهم تراها عبئاً عليهم، لا ذخراً لهم، وثمة حيرة فلسطينية في ما يتعين فعله بها تتخطى جيوش العاملين ورواتبهم الشهرية، والندوات وورشات العمل حول "سيناريوهات انهيار السلطة" و"ماذا بعد انهيارها" تتوالى، فالسلطة التي نشأت في البدء كنواة دولة تحولت إلى امتداد موضوعي لسلطة الاحتلال، وإلى أداة من أدوات إدامته وتأبيده، ووسيلة لخفض أثمانه على المحتلين.
وفي ضوء انسداد أفق "حل الدولتين"، وتأكّل فرص تحول السلطة إلى دولة، باتت الأسئلة تتراكم حول ما نفعله بسلطة لا سلطة لها، تجثم بتنسيقها الأمني ومنظومة مصالحها على صدور الفلسطينيين، وخصوصاً الأجيال الشابة، وتحول دون غياب القديم بقدمه، وانبثاق الجديد على مسرح الكفاح الوطني الفلسطيني؟
على الفلسطينيين، اليوم وليس غداً، العمل لاستعادة وظائف المنظمة التي تسطو عليها السلطة، فما حاجتنا إلى وزير خارجية بوجود رئيس دائرة سياسية أو قائم بأعمالها نسميه وزيراً للخارجية؟ وما حاجة الفلسطينيين إلى كلّ هذا الكم من الألوية والجنرالات الذي يكاد يناهز ما تضمّه أكبر جيوش المنطقة، فيما هم عاجزون عن منع دورية إسرائيلية من المرابطة قبالة المقاطعة (القصر الجمهوري) في رام الله؟ وما حاجتنا إلى كثير من المواقع والمناصب التي لا تعكس واقع الحال، بل تؤشر على ذواتنا المتضخمة؟
إن إعادة النظر في وظائف السلطة، تدريجياً، وحصرها في الجوانب الخدمية والبلدية بات أمراً لا يحتمل التأجيل، والانتقال بالمهام والصلاحيات التمثيلية و"السيادية" للشعب الفلسطيني من السلطة إلى المنظمة يجب أن يتم على نحو منهجي، وإن بصورة متدرجة.
6- أين المقاومة الشعبية؟
غالبية الفلسطينية باتت مؤمنة اليوم بأهمية العودة إلى الكفاح المسلح. تلك حقيقة الموقف الشعبي كما تظهرها استطلاعات الرأي العام الفلسطينية المتكررة، بل إن ظاهرة "المقاومة الفردانية" والمظاهر والتشكيلات الجديدة في المدن والمخيمات باتت شاهداً على انتقال الفكرة إلى ممارسة. هذا التوجه يجب تدعيمه، فمن دون رفع كلفة الاحتلال، لا أمل ولا رجاء بزواله يوماً.
إن المقاومة بالسلاح ليست بديلاً من سلاح المقاومة بكل أشكالها، ولا يجب على نفرٍ أو فصيلٍ من الفلسطينيين أن يقوم بدورهم نيابة عنهم. إن شق طرق متوازية ومتزامنة لكل أشكال المقاومة والكفاح هو الخيار الاستراتيجي الوحيد المفضي إلى رفع كلفة الاحتلال. ولا يتعين على أحد الاستخفاف بأي وسيلة كفاحية مهما بدا شكلها أو اختلفت ساحتها.
نتساءل بكثير من الاستنكار: ما دامت المقاومة الشعبية السلمية قاسماً مشتركاً عظيماً بين مواقف مختلف الفصائل والقوى، وحداً أدنى مطلوباً لا يناهضه فريق، لماذا لا نرى مقاومة شعبية سلمية؟ لماذا لا يخرج الناس بمئات الألوف للصلاة يوم الجمعة أو رفع الأعلام وتنظيم مسيراتها في المدن المحتلة وصوب القدس؟ لماذا لا يجري تنسيق أيام وطنية (وليس يوماً واحداً) لرفع العلم الفلسطيني في الداخل والشتات؟ لماذا لا يجري التعرض جماهيرياً، وعلى نطاق واسع، للمستوطنات والحواجز والجدران؟ ولماذا يجلس الفلسطينيون عند كل جريمة إسرائيلية بانتظار انهمار الصواريخ من غزة، ويتفرجون عليها كأنها البديل من قيامهم بأدوارهم؟
ثمة مساحة غير محدودة للالتقاء حول أساليب كفاحية ذات كلفة أقل على الفلسطينيين وأعلى على الإسرائيليين، لماذا لا يجري التفاهم بشأنها والاتفاق عليها والشروع في تنفيذها؟ لماذا لا نتوجه إلى القدس بالملايين، ليس كشهداء، كما دعا ياسر عرفات ذات مرة، بل كمتظاهرين ومحتجين ومصلين؟
7 - دور "الصواريخ" وموقع غزة
ثمة حاجة ماسة إلى مراجعة موقع غزة وصواريخ المقاومة ومسيّراتها في معادلة الفعل الفلسطيني المقاوم، فالصواريخ التي نجحت في كسر صورة "إسرائيل" الردعية، ومرّغت أنف قبتها الحديدية في الوحل، ليست سلاح كل مواجهة، وليست بديلاً من أشكال المقاومة الأخرى في كل الساحات.
أما قطاع غزة، فهو ليس جزءاً من فلسطين أرضاً وشعباً فحسب، بل إنه أيضاً الجزء الأكثر حيوية وكفاحية وتضحية منها، لكن لا يتعين على غزة أن تتحمل دائماً العبء الأكبر في المواجهة، وليس مطلوباً منها أن تكون حاضرة بصواريخها في كل مواجهة، فالصواريخ هي آخر أسلحة الفلسطينيين، وليست أولها.
والمطلوب من غزة أن تواصل الجهد والاستعداد لتعزيز معادلتها الردعية مع احتلال فاشي دموي لا يرحم، لتكون على جاهزيتها عندما تشتد الحاجة إليها.
هنا، نفتح قوسين لنستعيد جدلاً قديماً: حتى وإن كان الجلاء الإسرائيلي من غزة قد تم من جانب واحد، إلا أن مقاومتها جعلت إعادة احتلالها كابوساً مكلفاً للاحتلال الإسرائيلي. لقد تحررت غزة بعد الجلاء الإسرائيلي عنها بسنوات، وبعدما صارت كلفة إعادة احتلالها أعلى بكثير من كلفة الانسحاب منها.
8 - "وحدة الساحات".. ضبط المفهوم
في خطاب "وحدة الساحات"، يجب الغوص عميقاً في تحليل هذا المفهوم وتوضيح مراميه كهدف استراتيجي للشعب الفلسطيني يعكس وحدته ووحدة قضيته وكفاحه. وقد تم قطع شوط مهم على طريق ترجمة هذا الهدف، لكن حذار من فهم "ميكانيكي" للمفهوم يفترض أن كل مواجهة في الضفة أو عملية اغتيال تملي انطلاق الصواريخ من غزة وتردد صداها في داخل الخط الأخضر والقدس والضفة، وليس كل عملية اجتياح للأقصى والمقدسات يمكن تقديمها بوصفها مثالاً على النجاح (أو الفشل) في ترجمة هذا الشعار/الهدف.
وحدة الساحات تتخطى الوحدة الوطنية كما هي مستقرة في الوعي الفلسطيني بوصفها تعبيراً عن التقاء الفصائل وانسجامها. وحدة الساحة أقرب إلى مفهوم وحدة الشعب الفاعلة والمنظمة. لا أحد ينكر وحدة الشعب، ولكن وحدته الفاعلة والمتفاعلة لطالما كانت موضع تساؤل، ولطالما وجِّهت الانتقادات إلى القيادة الفلسطينية لإعطائها الأولوية لمكان وجودها وإهمالها الساحات والمناطق الأخرى.
لقد رأينا في مسيرة الأعلام الإسرائيلية، وفي اقتحامات بن غفير وحكومة نتنياهو للمسجد الأقصى، فوق الأرض وتحتها، من أخرج لسانه شامتاً: أين وحدة الساحات والربط بينها، مع أنه لم يحرك ساكناً حتى على دوار المنارة في رام الله؟ وقد رأينا فلسطينيين من غير ذوي الحسابات الفلسطينية، وقد أصابهم الإحباط لأن الصواريخ لم تستهدف المسيرة، ولم تمنع اقتحامات المستوطنين وحكومتهم للمسجد.
جوابنا على هذا وذاك أن وحدة الساحات لا تُقارب على هذا النحو، وأنها ثمرة لجهد نضالي استراتيجي متراكم، وأنها لا بد من تراعي اختلاف الظروف والشروط المحيطة بكفاح الفلسطينيين على اختلاف أماكن وجودهم، وأنها ليست تعبيراً "ميكانيكياً" يمكن أن يتجسد تلقائياً عند كل مواجهة.
9 - رطانة الخطابة و"سقف التوقعات"
حديث الساحات ووحدتها يقودنا إلى حديث الخطابات ورطانتها وسقوفها. ومن يتتبع قادة الفصائل في زمن المعارك بالذات يظن أن هذه هي الجولة الأخيرة في حرب التحرير، قبل أن يعاود هؤلاء لاستعارة بعض الواقعية وبعض العقلانية إلى لغتهم عند تبرير أو تفسير وقف إطلاق النار أو العودة إلى الهدوء والتهدئة.
رفع سقف التوقعات والرهانات من شأنه أن يعمق الخيبات وينشر الإحباط، فحرب الفلسطينيين في سبيل حريتهم ونيل حقوقهم لن تحسم بالضربة القاضية، بل بالنقاط، وفي كل جولة يسجلون نقطة أو يخسرونها، والرهان معقود دائماً على التدرج والتراكم.
المطلوب من قادة الفصائل والأذرع، قبل أن يهددوا باستمرار قصف الصواريخ حتى "استسلام العدو"، وقبل إطلاق العنان للغة الردود "المزلزلة" وما شابه، وقبل التبشير بانقلاب المعادلات وقواعد الاشتباك، أن يتذكروا جيداً أنَّ غبار المعارك سينقشع، وأن الناس ستجري حسابات الربح والخسارة، وأن هذه الخطابات سيبددها الأثير، مخلفة وراءها أعمق مشاعر الخيبة وانعدام الثقة.
عليهم التفريق بين خطاب "تعبوي" يستهدف رفع معنويات الناس وحثّهم على الثبات والصمود والتضحية، وخطاب ديماغوجي يعرفون ونعرف أنه كلام في الهواء. مثل هذا السلوك يجب التوقف عنه، فهو يقضم من أرصدتهم بدلاً من أن يضيف إليها.
10 - العالم المتغير من حولنا
أخيراً وليس آخراً، على الإخوة في الحركة الوطنية الفلسطينية بجناحيها إدراك حقيقة أن فلسطين، شعباً وقضيةً وحقوقاً، ليست سوى "تفصيل" في عالم المتغيرات المتسارعة التي تجري من حولها، إقليمياً ودولياً، ولا عزاء لمن فاته قطار التحولات والاستدارات، من دون أن يلتحق بإحدى عرباته، ومن دون أن يجد لنفسه مكاناً تحت شمسها، فالغرق في تفاصيل المشهد الفلسطيني ويومياته في بعديه الداخلي والصراع مع الاحتلال لا يجب أن يحجب رؤية الصورة الأكبر.
أحياناً، تحجب شجرة واحدة عن الناظر من قرب رؤية الغابة بأكملها، وذلك أخطر ما يمكن أن تقع فيه الحركة الوطنية الفلسطينية. وثمة مؤشرات دالة على أنها ما زالت خارج هذا الحراك الإقليمي الدولي النشط أو على هوامشه، فهل هناك خطط واستراتيجيات بديلة؟
لا تتبنى الاشراق بالضرورة الاراء والتوصيفات المذكورة