الدولة الكردية بين الواقع والحلم
ليست هذه هي المرة الأولى التي يطالب فيها كرد العراق، بضرورة منحهم حق تقرير المصير وإعلان دولتهم، إلاّ أن الجديد هو فتح مباحثات مباشرة وصريحة مع الحكومة المركزية في بغداد، لوضع آلية لإجراء استفتاء شعبي يمهد للانفصال عن العراق وإعلان دولتهم. ويبدو أنهم لايقدمون على خطوة كهذه إلاّ بوجود ترتيبات مُستقبليّة، ولو من باب المحاولات الأميركية لإيجاد تقسيمات سياسية كبيرة في المنطقة، والكرد هم محور عمليات التقسيم في القرن الحادي والعشرين، ولذلك يجدون التأييد من أمريكا وأوروبا، فالصراعات في المنطقة ليست بين الكرد والعرب والأتراك، وإنّما بين مشاريع سياسية دولية ذات خلفية حضارية، حيث سيكون قيام الدولة الكردية في العراق وسوريا، عامل اختلال في الموازين السائدة في المنطقة، ما يُولد فرصة للتدخل الغربي الأميركي لعقود.
يرى بعض مؤيدي أردوغان في ظل عمى الألوان، أن الموقف التركي الرافض لفكرة الدولة الكردية ليس موجهاً ضد الكرد، وإنما من أجل مصالح شعوب المنطقة. ويروج هؤلاء أن أنقره تدرك أن الاندفاع الكردي لإقامة كيان سياسي لقوميتهم بعد أمنيات دامت أكثر من قرن عقب تقسيم الدولة العثمانية، لن يكون في مصلحتهم ولا في مصلحة شعوب المنطقة، فتقسيم 1916 لم ينقذ شعوب المنطقة، وإنما أبقاها قرنا كاملا في حالة ضعف. ويزعمون أن الانتقادات التركية لتقديم السلاح للكرد ليست كرهاً بهم، وإنما كراهية بان تتحول هذه الأسلحة لقتل الكرد لبعضهم بعضاً أولاً، وقتلهم للعرب وتشريدهم من مدنهم وقراهم، وقتلهم للأتراك في العراق وفي سوريا وتركيا أيضاً، فالرفض هو لجعل الكرد جنوداً مرتزقة للمشاريع الغربية الاستعمارية. وهذا
منطق استغبائي لايقبله عاقل ولا مجنون.
تاريخياً تعرض الكرد للظلم في كل الدول التي تقاسمت أرض وطنهم، ودفعت السياسات التي انتهجها حكم البعث إلى تعميق انتمائهم لقوميتهم بديلا لهويتهم العراقية، وبعد سقوط صدام حسين عام 2003 على يد القوات الأميركية وبمساعدة مؤكدة من قوات البيشمركه، تعزّز الحكم الذاتي في إقليم كردستان، الذي بدأ فعليا بعد اعتماد مجلس الأمن القرار 688 في 5 نيسان 1991 والذي شرعن «التدخل الإنساني» الذي نتج عنه إقامة منطقة حكم ذاتي في كردستان. وتاريخياً أيضاً اتسم تعامل القوى العظمى مع حقّ الكرد في إقامة دولة مستقلة بخيانات متتالية، فقد نصّت اتفاقية سيفر 1920 على إقامة دولة كردية، لكن اتفاقية لوزان للعام 1923 ألغت بنود تلك الاتفاقية، ووزعت أراضي كردستان بين تركيا وإيران والعراق وسوريا والاتحاد السوفييتي. وفي عام 1924 اعترفت بريطانيا بحقّ الكرد في تأسيس دولة مستقلة، دون أن تتخذ أية خطوة عملية في هذا السبيل.
مؤخرا اثار رفع الكرد علمهم على المباني الرسمية في كركوك ردود أفعال متباينة، أغفل بعضها اقتران الشخصية الكردية بمدينة كركوك منذ آلاف السنين، عبر موجات هجرة واستيطان عديدة ومتعاقبة. واحتوت الكثير من فصول تاريخهم القديم والوسيط والحديث، لكن المؤسف أنّ الكرد أنفسهم مستعدون للانخراط في اقتتال داخلي من أجل السيطرة على المدينة وثرواتها النفطية الهائلة، كما هم مستعدون للانخراط في صراع مسلح مع السلطة المركزية في بغداد، ومع القوى الإقليمية المناهضة لطموحاتهم مثل تركيا التي تتذرع بوجود أكثر من مليون تركماني تعود أصولهم إلى أصول تركية، بينما عينها على ثروات المحافظة التي لن تسمح للكيان الكردي العتيد بضم أراضيها الغنية لتحوله إلى قوّة اقتصادية عظمى على الصعيد الإقليمي.
بعد اتفاق الكرد مع الحكومة المركزية على إجراء الاستفتاء على حق تقرير المصير في كافة مناطق إقليم كردستان بما فيها المتنازع عليها، بدا واضحاً أن الكرد يسيرون قدما لترتيب أوضاعهم، مع ثقتهم بالنتائج بسبب سيطرتهم أمنياً وإدارياً على مناطق الاستفتاء، واعتبارهم أن الظروف الحالية هي فرصة تاريخية لا يجوز التفريط بها، وسط انشغال الحكومة الاتحادية بالحرب التي تخوضها ضد داعش، لكن ذلك لم يمنع سياسييهم من تكرار أن الاستفتاء على المناطق المتنازع عليها لا يعني الانفصال فوراً، فيما هم يؤكدون أن الاستفتاء محطة هامة في مسيرة الاستقلال.
يعتقد البعض أن الدعوة للاستفتاء بعد رفع العلم في كركوك، ليست غير هروب من المشاكل المعقدة في الإقليم، ومن صراعات الأحزاب والأجنحة على النفط والمال ومفاصل السلطة، ويرى البعض أن الحديث عن الانفصال قبل تمهيد الأرضية محلياً وإقليمياً ودولياً لذلك، هو مجرد لعبة لكسب الشارع، وأنه يتم تحشيد الرأي العام واللعب على مشاعر المواطنين باتجاه مسألة الاستفتاء والاستقلال دون أي تهيئة واقعية. وفي الأثناء يخشى مراقبون كرد من تشابه مصير الاستفتاء المرتقب، مع مصير استفتاء عام 2005 وصوت الكرد فيه بنسبة قاربت الـ100٪ على الاستقلال، دون أي نتائج عمليه.
معروف أن كرد العراق حققوا تقدماً أكثر من الموزعين بين الدول نحو تحويل حلم الاستقلال إلى واقع ملموس. فهم يديرون شؤونهم في إقليمهم بحكومة منتخبة في كردستان التي تتمتع بصلاحيات الدولة المستقلة، ولهم قواتهم المسلحة "البيشمركه" التي منعت داعش من الاستيلاء على محافظة كركوك النفطية، التي رفضوا كل المحاولات السابقة لإنهاء الصراع في كردستان ما لم يتم ضمها للإقليم، الذي لن يتحول الى دولة ناجحة دون نفطها ولذلك يجب ضمها أولا ثم إجراء الاستفتاء حول الانفصال والذي سيكون مضمونا على طريقة جنوب السودان. ويأمل الكرد طبعاً بتأييد ترامب لطموحاتهم ويستغلون انشغال الجيش العراقي في حرب تحرير الموصل وتركيا في سوريا ومحاربة تنظيم حزب العمال الكردستاني وتفاقم الأزمة الإنسانية في العراق وايواء الإقليم لملايين المهجرين والفارين من الحرب مما زاد من احترام المكون الكردي وخاصة من سنة العراق والمنطقة.