انسحاب أميركيّ كاملٌ من العراق.. لماذا سيتحقّق حتماً؟
أصبح واضحاً أن محور المقاومة، رداً على اغتيال الأميركيين وحلفائهم قائد "قوة القدس" الحاج قاسم سليماني ورفيقه الحاج أبو مهدي المهندس، قرَّر فرض عقابٍ على الأميركيين، يتمثل، بحدّه الأدنى، بالانسحاب الكامل من العراق، بمعزل عن محاولاتهم التحايل على الموضوع بخلق مناورة سحب الوحدات القتالية والإبقاء على وحدات استشارية فقط، وبمعزل أيضاً عن إمكانية توسيع هذا العقاب وتطويره ليكون عملاً أمنياً مشابهاً بالشكل والمضمون والموقع لعملية الاغتيال.
ويبدو أنَّ المحور يملك كلّ الثقة بأنَّ هذا الانسحاب حاصل حتماً، وبشكل كامل وشامل، من دون أيّ مناورات أو التفافات. هذا العقاب الذي وضعه محور المقاومة للأميركيين ينطلق من مبدأ أساسي هو أن انسحابهم يجب أن يكون، ووفاءً لدماء الشهداء القادة، تحقيقاً لهدف إنهاء الاحتلال الذي لطالما عمل عليه المحور بقيادة الشهداء، إضافةً طبعاً إلى كونه هدفاً دائماً وثابتاً ضد أيّ وجود أجنبي داعم وحامٍ لاحتلال الصهاينة أراضي عربية، بمعزل عن شهادة القادة والمقاومين.
مبدئياً، هذا هو هدف أطراف محور المقاومة، ولكن كيف ينظر الطّرف الآخر (الأميركي) إلى الموضوع، في الوقت الذي عليه الانسحاب من العراق بشكل تام، كدفعة أولى من الحساب عن جريمته؟ هل يلتزم بالانسحاب أو يستطيع، انطلاقاً من إمكانياته المعروفة، عسكرياً ودبلوماسياً ومالياً، الإفلات من هذا الانسحاب (العقاب)؟
في الواقع، هذا الأمر دونه الكثير من الصعوبات والمعوّقات والتعقيدات (انسحاب الأميركيين عنوةً من العراق)، إذ نتكلَّم عن دولة عظمى قادرة قامت بفعل المستحيل لاحتلال العراق وتثبيت نفوذها ووجودها العسكري والسياسي والدبلوماسي في منطقة قد تكون الأكثر أهمية في الشرق الأوسط، وربما في العالم، نظراً إلى ما يحمله العراق وموقعه من مميزات استراتيجية وإمكانيات مؤثرة في كوكبة من ملفات العالم الأكثر حساسية، كملف فلسطين والصراع العربي – الإسلامي ضد الاحتلال الصهيوني، وملف إيران وقدراتها التقليدية وغير التقليدية، وملفّ نفوذ محور المقاومة المناهض لقوى الاستكبار العالمي، والعصيّ بشكل خاص على "إسرائيل" وعلى الأميركيين.
وحيث إنَّ واشنطن، ممثّلة بأغلب إداراتها المتعاقبة، من جمهوريين أو ديمقراطيين لا فرق، لم تتوانَ عن اختلاق أكذوبة امتلاك العراق أسلحة دمار شامل، وسعيها الجبار لتأمين حشد دولي لتغطية هذه الأكذوبة وغزو العراق، وصولاً إلى قيامها (واشنطن بإداراتها المتعاقبة) لاحقاً، وبعد استنفاد حيل تبرير احتلالها بعد العام 2010، بخلق "داعش" ومواكبة حركة هذا التنظيم الإرهابي القوي مواكبةً حثيثةً ضمن مناورة مركبة، لإبقائه حياً ومؤثراً، وفي الوقت نفسه إظهار الحاجة إلى وحداتها في مواجهته، فمن الطّبيعيّ أنها سوف تعارض هذا الانسحاب، ولن تستسلم بسهولة أمام مطلب محور المقاومة.
صحيح أنَّ موقف محور المقاومة، في السّعي وراء هذا الانسحاب، يحمل أبعاداً وجدانية ومعنوية وفاءً للشهداء، وقد يبدو، في نظر الكثيرين، ذا طابع إيماني عقائدي أكثر من كونه عملياً واقعياً، ولكن كلّ المؤشرات في متابعة هذا الملفّ لديه تدلّ على وجود ثقة مؤكدة بأنّ الأميركيين سوف يرضخون وينسحبون عنوةً أو هروباً، فما هي معطيات قادة هذا المحور حول ذلك؟
في متابعة وتحليل لمعطيات هذه الثقة المؤكّدة لمحور المقاومة حول حتمية الانسحاب الأميركي من العراق، يمكن تحديد النقاط التالية التي تعدّ صالحة لتكون أشبه بدروس على الأميركيين أخذها بعين الاعتبار، وهي:
أولاً: درس الثبات الإيراني وثبات محور المقاومة في كلّ الأمكنة التي حضنت المواجهات أو الاشتباكات بين هذا المحور والأميركيين أو حلفائهم الصهاينة أو عملائهم أو أدواتهم من مرتهنين في الإقليم أو صنيعتهم من إرهابيين.
هذا الثبات في أصعب المواجهات لم يكن وليد صدفة أو وليد لحظة عابرة، بل هو وليد مسار طويل من التخطيط والتعب والسهر والتضحيات الغالية. هذا الدرس الَّذي فهمه الأميركيون جيداً بعد أن خبروه مباشرة، لا يمكنهم أن يتغاضوا عنه.
صحيح أنَّهم يحاولون تجاوزه من خلال التظاهر بأنَّ وجودهم مرتبط باتفاق مع الحكومة العراقيّة، ولكنَّهم عملياً يفهمون جيّداً قدرات المقاومة العراقيّة وإمكانياتها والتزامها الثابت كطرف أساسي من أطراف محور المقاومة، والذي أخذ على عاتقه تنفيذ هذا الهدف المقدس (انسحابهم)، وخصوصاً عندما يكون أمر انسحابهم مطلباً أقرب إلى الفتوى المفروض العمل لتنفيذها، إضافةً إلى كونه حاجة وطنية وقومية مقدّسة.
ثانياً: درس تراجع الأميركيين أمام إيران في موضوع الاتفاق النووي، وقدرة طهران، رغم الضغوط الضخمة، على فرض رؤيتها وإثبات موقفها بعد كلّ المحاولات الأميركية وغير الأميركية. وها هي اليوم على بعد خطوات قليلة من تظهير ثباتها، من خلال عودة الأميركيين إلى الاتفاق بالشروط الإيرانية، كما تضمّنها أساساً الاتفاق كوثيقة رسميّة يرعاها القانون الدّولي.
ثالثاً: درس ثبات إيران في موضوع فرض وحماية حقّها القومي والوطني غير المنقوص في امتلاكها كلّ ما تراه مناسباً لحماية سيادتها وحماية حلفائها في محور المقاومة، لناحية القدرات الصاروخية البالستية أو المسيرات اللافتة بمميزاتها التقنية والعسكرية، والتي أصبحت تشكل هاجساً جدياً لأغلب أعدائها.
ومن الطبيعي أن يستوعب الأميركيون ويستنتجوا أنّها ستصل، وبكلِّ سلاسة وسهولة، إلى أيِّ طرف - من أطراف محور المقاومة - جاهز لمتابعة وملاحقة انسحابهم من العراق، وبتحصيل حاصل من سوريا لاحقاً، وكل ذلك سيكون في إطار الحق القانوني والطبيعي لمقاومة كل محتل.
رابعاً: إنّ درس انسحاب الأميركيين المذلّ من أفغانستان لا يمكنهم تجاوزه بسهولة. وفي حين أنَّ هناك الكثير من المعطيات المشابهة لما كان عليه وضع التواجد الأميركي هناك مع تواجدهم اليوم في العراق، لناحية البيئة غير الموالية بشكل عام أو فشلهم وعجزهم عن مسك الميدان الأفغاني، رغم ضخامة ما كانوا ينشرونه من قوى ووحدات وأسلحة في أفغانستان، تبقى هناك الكثير من المعطيات في الميدان العراقي، والتي تجعل فعالية مقاومتهم أقرب إلى النجاح أكثر من أفغانستان، والسبب يعود إلى ارتباط إيران المباشر بهذه القضية باعتبارها معنية رئيسة في تنفيذ الهدف المقدس لفرض انسحابهم، وفاء لدم الشهيد الحاج قاسم سليماني.
من هنا، قد يكون الأميركيون، ومن خلال تهدئتهم "إسرائيل" التي ظهرت مسعورة على خلفية ما رشح لها من معطيات في مسار المفاوضات حول الاتفاق النووي في فيينا، برهنوا عن استيعاب جيّد وتقدير صحيح لحقيقة ما تملكه إيران من إمكانيات بمواجهة أيّ اعتداء إسرائيلي يرتبط بمنشآتها النووية أو بمنشآتها الاستراتيجية الأخرى، الصاروخية أو غيرها، وما يمكن أن ينتج من هذا الاعتداء من تدحرج غير محسوب ترى واشنطن أنَّه لن يكون لمصلحة "إسرائيل" حتماً.
وفي الوقت الذي يعتقد البعض أنَّ التشدد الإسرائيلي وما يقابله من تهدئة أميركية لا يخرج عن إطار تبادل الأدوار بين الطرفين، لإعطاء واشنطن ورقة ضغط لاستعمالها في مفاوضاتها الصّعبة غير المباشرة مع طهران، يبقى هذا الموقف الإيراني الثابت في إطار المفاوضات النووية، وكما يراه الأميركيون وغيرهم، ترجمةً لقدرات غير سهلة، ستكون طهران قادرة حتماً على الاستفادة من جزء معيّن منها لخدمة مناورتها ومناورة المقاومة العراقية، بهدف فرض انسحابهم من العراق.
لا تتبنى الاشراق بالضرورة الاراء و التوصيفات المذكورة.