الاستعداد الإسرائيلي ما قبل رحيل إدارة ترامب.
التقرير الصادر عن معهد "الأمن القومي الإسرائيلي" والذي جاء تحت عنوان "استعدوا لحدوث ذلك غداً" لم يغفل العديد من المعطيات والحقائق التي يجري تداولها على نطاقٍ واسعٍ في مؤسسات الكيان الإسرائيلي بجميع مستوياتها الرسمية وغير الرسمية ولدى شرائح واسعة من الجمهور بعد أن ترسّخت في أعقاب هزيمة الاحتلال على الأراضي اللبنانية في العام 2000.
ما بعد العام 2000
الانتصار التاريخي الاستراتيجي الذي حقّقته المقاومة اللبنانية بقيادة حزب الله واندحار جيش الاحتلال بالصورة المهينة التي هرب فيها تحت ضربات المقاومة قد كسرت بلا منازع مقولة "الجيش الذي لا يُقهر" وأصابت بالعمق جميع النظريات السياسية والعسكرية والدعائية التي بُنيت على هذه الافتراضية والتي كانت تعطي الأفضلية شبه المطلقة لجيش الاحتلال في كل معايير التفوق والتميز والصفوة. وفي حالة "التقديس" التي كان يحظى بها في أوساط العامة في كيان الاحتلال وما كان يحمله ذلك من تأثير مباشرٍ وغيره على المحيط.
انتصار العام 2000 قلَب هذه الحالة التي كانوا يسعون إلى ترسيخها في الوعي وفي معادلة موازين القوى وفتحت أبعاد وقواعد جديدة مهّدت الطريق بعدها لسلسلةٍ من الخسائر مُنيَ بها جيش الاحتلال في الحدود الشمالية وفي الجولات الفاشلة من الاستهداف العسكري لقطاع غزة ومحاولات استعادة زمام الموقف وفرض الشروط والوقائع والسيطرة على مجريات الأحداث على الأرض.
مجموع المعارك التي شنها جيش الاحتلال بعد العام 2000 ضد المقاومة اللبنانية والفلسطينية وإن اختلفت في تفاصيلها وصورها، إلا أنها في المحصلة راكمت المزيد من المتغيرات في طبيعة هذه المعارك وأفشلت الأهداف والمخططات التي وُضعت لها المعارك والمواجهات.
والمؤكد في التقرير المذكور أن صنّاع القرار الرسمي لجيش الاحتلال على قناعةٍ تامة بعدم قدرتهم على الانفراد في تحديد البداية والنهاية لأيٍّ من جولات المعارك، وأنّ قوة البطش التي يمتلكها سلاح الجو الإسرائيلي غير كافيةٍ للحصول على أفضل النتائج اللازمة لتبرير العدوان، وأنّ الخسائر المحتملة ستكون أضعاف ما كانت عليه في المرّات السابقة وكذلك الثمن الباهض الذي قد يترتّب دفعه من داخل الكيان جراء أية مغامرات عسكرية في الحدود الشمالية على وجه الخصوص التي شهدت بداية الهزيمة المباشرة والفعلية وسقوط مخطط السيطرة العسكرية لجيش الاحتلال وعملائه على أجزاءٍ من الأراضي اللبنانية وصولاً إلى مياه الليطاني، وحيث بدأ من هناك العد العكسي لخرافة القوة التي لاتُقهر.
تصاعد أزمات حكومة الاحتلال وجيشه
التقرير يشير إلى الأزمة السياسية في حكومة الكيان وأثرها على تراجع التنسيق والأفضلية في التعاون مع مؤسسة الجيش لتحديد الأولويات والتعامل معها. ولعلّ فشل الاتفاق على الموازنة العامة والخاصة بالجيش والقرار الذي اتخذه "الكنيست" بالقراءة التمهيدية للذهاب إلى انتخاباتٍ جديدة والتخبط في مواجهة وباء كورونا والصراع المتفاقم في أوساط الكتل الحزبية قد استدعت تحذير القيّمين على التقرير من الانعكاسات التي يمكن للجيش تحمّلها إذا ما استمرّت وتيرة التطورات على النحو الجاري حالياً والتي لايمكن بنظرهم، اعتماد حالة الهدوء القائم لاستبعاد وقوع المواجهة.
ولهذا، جاءت المطالبة الملحّة بالمزيد من التعبئة الداخلية والتمرين والمناورات التدريبية للجنود النظاميين والاحتياط لمواصلة تأهيل الحالة المعنوية للجيش وتعزيزها مهما ترتّب على ذلك من إصاباتٍ جراء تفشي الوباء.
هذه المطالبة تعكس مدى القلق والتوتر من جهة ومدى تأثير وقوة الطرف الآخر المتمثّل بالمقاومة من جهة ثانية. إنّ الحسابات السياسية التي تحاول استثمارها حكومة الاحتلال بعد عمليات التطبيع مع العديد من الحكومات الرسمية العربية لم تغيّر من واقع توازن الردع الذي تحقّق في الميدان ولن يكون الذهاب إلى المواجهة هوالعلاج المفيد لعديدٍ من الأزمات التي تواجه حكومة الاحتلال وجيشها. إنّ قرار المعركة وإن كانت في نطاق التكتيك وتصدير الأزمات ستحتّم عواقب وخيمة، وقد تكون ارتداداتها أكبر مما يمكن إقناع الجمهور الإسرائيلي به وبالثمن المطلوب تقديمه.
حدود المعركة المتوقعة
لاحظ التقرير وجود حساباتٍ جديدةً ومتغيّراتٍ قد تحدث في مجرى المعركة المفترضة، وأهمّها تنامي قوة فصائل المقاومة في العراق وسوريا وفلسطين وتطوّر قدراتها العسكرية التسليحية وخبراتها العملية وجهوزيتها للعمل المشترك في مواجهة التحالف الغربي الإسرائيلي الرجعي العربي، ولترسيخ الانتصار الذي تحقّق ضد المشروع الإرهابي التكفيري، والذي استهدف هذه البلدان بغية تمزيقها وتقسيمها وإلحاقها بمخطط الهيمنة والنفوذ الأميركي الإسرائيلي.
المعركة كما يقول التقرير قد تمتدّ لمشاركة فصائل المقاومة في العراق وسوريا بالإضافة إلى انهيار حالة الهدوء الخادعة القائمة على حدود غزة وتفعيل المجموعات المقاومة في الضفه الغربية، ولهذه التقديرات ما يبررها على الأرض ولها مفاعيلها الحيوية في معادلة الصراع والمواجهة التي فرضتها الدول المشاركة في محور المقاومة الإقليمي.
ما قبل رحيل إدارة ترامب
حكومة نتنياهو التي تواجه العديد من الأزمات الداخلية، والتي تدرك حجم الثمن الباهظ الذي سيترتب على الخيار العسكري، تعمل بأقصى جهودها لاستثمار التحالف مع إدارة ترامب لتعجيل قطار التطبيع والوصول إلى جميع المحطات المحددة في الأجندة المشتركه للثنائي ترامب ونتنياهو، وتشكيل التحالفات الإقليمية للاستقواء بها أمام الإدارة الجديدة للبيت الأبيض، واستخدامها في الوظائف السياسية والخيارات التي ستترتب على العودة الأميركية إلى الاتفاق النووي مع إيران.
وإذا كانت العمليات الأمنية والاغتيال وتصعيد الحرب الاستخباراتية والالكترونية تندرج في بنك الأهداف المستعجلة، فإنها في الوقت نفسه لن ترتقي إلى مستوى الحرب المباشرة التي يفتقد جيش الاحتلال الإسرائيلي القدرة على خوضها في الوقت الراهن نظراً لحالته الداخلية أوّلاً ولضعف جبهته الداخلية ثانياً، ولغيرها من العوامل الخارجية.
التقرير الذي يعكس حالة الرعب والقلق والتوتر والتراجع التي يعيشها جيش الاحتلال وتضارب الأولويات والتنسيق بين مؤسسات الكيان ويحاول رفع الرصيد المعنوي والاستعداد لمواجهة التحديات والمفاجآت الناجمه عن توازن قوة الردع، يؤشر بين السطور إلى إمكانية حدوث تغيير إضافي ومؤثر في معادلة الحرب الأمنيه والاستخبارية والإلكترونية على كل مستوياتها، والانتقال من وضعية تلقّي الضربات والتقيّد في اختيار نوعية الردود عليها وتحديداً في أعمال الاغتيال المتكررة، إلى المبادرة لفرض حقائق على نفس المستوى ولقطع اليد الإسرائيلية التي تتوغل في هذا النمط من العمليات التي تحدث من وراء المشهد المباشر والتي يجري التحضير لتصعيدها عبر غرف العمليات المشتركة والتي يتم ترسيمها بين الكيان الإسرائيلي وبعض حكومات التطبيع العربية.
الضعفاء الذين يصطادهم نتنياهو للتطبيع وتسويق الأوهام والاستعراض والاستثمار، لا وزن مؤثر لهم على المدى البعيد في اختلال حالة القوى القائمة على الأرض. ولعلّ القادم سيحمل المزيد من الفشل والخسائر لهؤلاء المراهنين على الكيان الإسرائيلي بعدما حصدوا الفشل في الرهان على الجماعات الإرهابية التكفيرية، التي سقطت في العراق وسوريا ولبنان واليمن، وسيكون السقوط الحتمي مصير القوى الظلامية والرجعية والاستعمار التي تستهدف إرادة الشعب وحقوقها المشروعة في ممارسة سيادتها وتقرير مصيرها.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الاشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً