بكين تواجه تصعيد واشنطن.. من يحتفظ بـ"الجوكر"؟
رغم أنَّ العلاقة بين الصّين والولايات المتحدة أخذت شكلها الدبلوماسي في 1 كانون الثاني/يناير 1979، وتمَّ الاتفاق بين الطرفين على حلّ قضية "تايون"، العقبة الرئيسية التي كانت تقف حائلاً أمام التطبيع بين البلدين، فإنَّ ما كان يعتمل من "حرب خفية" ظهر إلى السّطح بعد أن طالت عقود العلاقة الدبلوماسية التي وصلت أخيراً إلى الاشتباك العلني.
لقد خرجت الحرب "الصامتة" بين واشنطن وبكين إلى ساحة التصعيد الأكثر سخونة، بعد أن طلبت واشنطن مغادرة الدبلوماسيين وإغلاق القنصلية الصينية في "هيوستن"، متّهمة بكين بـ"العبث" بالأمن القومي الأميركي بـ"إدارة" الحزب الشيوعي الصيني.
ويبدو أنَّ الحامل "الشعبوي" الذي تحاول إدارة ترامب أن تقدّمه في خطابها، من خلال التصويب على الحزب الشيوعي الصيني، هو مقدّمات خطيرة في سياق سياسة متصاعدة تستعيد الخطاب الإيديولوجي في الحرب الباردة للولايات المتحدة الأميركية مع الاتحاد السوفياتي السابق.
يرتبط هذا التصعيد بجولات الخارجية الأميركية على "الشركاء" الأوروبيين، لكسب تأييدهم السياسي في مواجهة الصين التي "بدأت تمارس دوراً يخلّ بالقيم والمبادئ الدولية"، كما صرَّح مؤخراً الرئيس الأميركي دونالد ترامب.
إذاً، تأتي هذه الخطوة التصعيديّة الخطيرة في العلاقات بين البلدين، بعد أن جرَّبت واشنطن طرقاً التفافية للضغوط الاقتصاديّة والسياسيّة التي حاولت من خلالها أن تكسب تأييد شركائها الأوروبيين لسياسة الرئيس الأميركيّ، الذي رفع نسبة التعريفات الجمركية من 25 % إلى 30 % على ما قيمته 250 ملياراً من المنتجات الصينية.
ولم تتوقّف خطوات واشنطن عند حدود واضحة في الاشتباك مع الصين، فواصلت إدارة الرئيس دونالد ترامب التضييق على بكين، وذهبت إلى إجراءات تصاعدية في فرض الرسوم على المنتجات الصينية، وهو ما قابلته خطوات صينية مماثلة.
ومع تشابك المصالح الاقتصادية بين حلفاء واشنطن والصين، تجد الإدارة الأميركية صعوبة في إقناعهم بالحد من التبادل التجاري مع بكين في مستوياته المتعددة، وخصوصاً أن هناك فروقات كبيرة في التعاطي مع الأخيرة. وتتوجس دول الاتحاد الأوروبي من التقلبات السياسية والاقتصادية التي تمارسها الإدارة الأميركية، التي لم تستثن حتى شركاءها من التهديد بفرض رسوم جمركية على التبادلات التجارية. وقد تكون ألمانيا الخاسر الأكبر من الحرب التجارية بين بكين وواشنطن، بحكم أنها سوق لمنتجات البلدين، ولا يقلّ الضرر على باريس المهددة أصلاً بفرض رسوم على بضائعها.
يدرك قادة دول الاتحاد الأوروبي أنَّ ارتدادات الحرب الاقتصادية بين واشنطن وبكين ستصيب دولهم بشظايا حارقة، وهو ما سينعكس بالتالي على مناخات التجارة العالمية، وربما على ركود الأسواق التي تعاني أصلاً من حالة خمول في ظل جائحة كورونا. ومن هذه البوابة، تدفع ألمانيا إلى التهدئة المرحلية بين أميركا والصين والبحث عن حلول، ولو كانت مؤقتة، للوصول إلى معالجات جذرية.
ورغم أنّ الدّول الرئيسية في الاتحاد الأوروبي تدفع إلى تهدئة الجبهات، فإنها من زاوية أخرى تتبنى خطوات واشنطن السياسية في دعم استقلالية عالية لـ"هونغ كونغ" عن الصين، وتدين "نفوذ" بكين في بحر الصين الجنوبي والشرقي، كما تعتبر أنَّ الإيغور يعانون من "اضطهاد صينيّ"، وتضغط في قضية "تايون" وملفات أخرى تتعلق بعلاقات الصين السياسية والتجارية مع روسيا الاتحادية وإيران وسوريا ودعمها في المحافل الدولية.
ولعلَّ سياسة الغموض التي تتبناها دول الاتحاد الأوروبي تجاه الصين شجَّعت الولايات المتحدة الأميركية على اعتبار الصين "عدواً" متمدداً في العالم، يجب وقفه ومحاصرته، مهما كلَّفت الأثمان. هذه التصوّرات لم تقترن بإدارة ترامب، إنما بمعظم الإدارات الأميركية السابقة. وإن كانت دول الاتحاد الأوروبي تقر بثقل هذه الملفات، التي يمكن أن تؤدي إلى تطورات خطيرة في العلاقات الدولية وما ستفرزه من وضوح الاصطفافات، إلا أنها لم تزل في مربع اللاعب السلبي، وإن تضرَّرت مصالحها.
ما يزيد المشهد تعقيداً هو تصريحات قادة كيان الاحتلال الّذين يوقدون نار سهامهم تجاه الصين، وإن كان بشكل مستتر، وذلك لحجم الاستثمارات الصينية مع كيان الاحتلال. تبدّى ذلك في التنبيه والتحذير من "خطر" الشراكة الاستراتيجية بين إيران والصين، والتي تنص على استثمارات صينية واسعة وتدريبات عسكرية مشتركة.
وقد كتب رون بن يشاي، محلل الشؤون العسكرية في صحيفة "يديعوت أحرونوت"، أن "تطبيق الاتفاق سيشكّل طوق نجاة للاقتصاد الإيراني الغارق تحت العقوبات الأميركية، وسيزيد من إمكانيات الصين كقوة دولية وانخراطها في الشرق الأوسط، إضافة إلى أن ذلك سيوجه ضربة قوية إلى سياسات الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وإلى مكانة أميركا كقوة دولية".
ولم يترك وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو هذه التصريحات تمرّ من دون أن يوجّه انتقادات إلى كيان الاحتلال (في تبادل أدوار)، انصبَّت حول التعاون "الإسرائيلي" الصيني. وفي مقابلة مع هيئة البث الإسرائيلية "كان"، قال بومبيو: "هناك مخاطر حقيقية في التعاون مع الصين"، معتبراً أنها تعرّض "المواطنين الإسرائيليين" للخطر. وأضاف: "لا نريد أن يتمكَّن الحزب الشّيوعي الصّيني من الحصول على منفذ للبنية التحتية الإسرائيلية وأنظمة الاتصالات الإسرائيليّة".
التصويب على الحزب الشيوعي الصيني يؤكد حجم الاستهداف، ومن بوابة "الإيديولوجي" الذي تعلنه واشنطن وبوضوح. وتشير القراءات السياسية الاستراتيجية إلى أن تطورات محتملة قد تقع في حال لم تتوقف أميركا عن التجييش ضد الصين.
وفي سياق قراءة موازين القوة بين البلدين، يقدّر مركز "دراسات الولايات المتحدة الأميركية" في دراسة صدرت في 19آب/أغسطس 2019، أن أميركا لم تعد في موقع يهدد الصين، وأنّ جيشها في تراجع، والجيش الصيني يمكن أن "يقضي على القواعد الأميركية في آسيا في غضون ساعات"، وأن الصين "أنشأت ترسانة مثيرة من الصواريخ الدقيقة وأنظمة الدفاع الأخرى، ما يقوض الهيمنة العسكرية الأميركية في المنطقة".
من الواضح أنَّ التصعيد بين البلدين خرج من ملفاته الاقتصادية إلى ساحات سياسية وقضايا تتعلَّق بالأمن القومي الصيني، وبالتالي العبث الأميركي بالثوابت والخطوط الحمراء التي تعتبر بكين أنها تتجاوز الحد من الدور الصيني الاقتصادي، وتهدف إلى التدخل الخطير في سياسات بكين وتحالفاتها في العالم والشرق الأوسط.
لن تنجرّ الصين إلى مستنقعات أميركية، لكنّها في المقابل لن تقف متفرجة على تهديدات واشنطن والإضرار بمصالحها، بعد أن أصبحت لاعباً رئيساً في السياسة والاقتصاد العالميين.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الاشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً