موسكو وأنقرة ..هل يستمر التنسيق الاقليمي؟
تحوّلت الدّولة العثمانيّة إلى الشّكل الإمبراطوريّ مع دخول السّلطان سليم الأول إلى بلاد الشام بعد معركة مرج دابق في العام 1516 في مواجهة قانصوه الغوري المملوكي، وخصوصاً أنَّ أبواب بغداد والقاهرة فُتحت على مصراعيها من الناحية الفعلية، لتصل حدودها إلى البحر الأحمر واليمن جنوباً، رغم عجزها هناك، وإلى شمال أفريقيا باتجاه ليبيا وتونس والجزائر، كقوة جديدة تحمل الراية الدينية الأسهل في استقطاب المسلمين، مهما تنوَّعت قوميّاتهم.
بدأت هذه الإمبراطوريّة بالتّشكّل اعتباراً من دويلة صغيرة في شمال غرب الأناضول، وبالقرب من القسطنطينية، في العام 1299. وفي الفترة نفسها، ترافق صعودها مع بدايات تغيّر الأحوال السياسيّة في المناطق الشّمالية المجاورة لها، ابتداءً من كييف في أوكرانيا، ليستمرّ الصّعود إلى أن أعلنت عن نفسها كإمبراطورية روسية في العام 1721 بقيادة بطرس الأكبر.
ورغم المساحات الهائلة الَّتي سيطرت عليها، أي ما يقارب 22 مليون كم 2، فإنَّ نقطة ضعفها الكبيرة كانت عدم وصولها إلى المناطق البحرية الدافئة التي يشكّل فيها البحر الأبيض المتوسط مكاناً لتشاطر أغلب الحضارات الإنسانية المتعاقبة، ومركزاً للنشاط الاقتصادي، وعنواناً للمكانة الدولية واستمرار الحياة، وهو ما دفع هذه الإمبراطورية - في طور التشكّل - إلى خوض مجموعة من الحروب مع الإمبراطورية العثمانية التي تشكّل حاجزاً أمامها، بفعل سيطرتها على القوقاز والبحر الأسود وبلغاريا، والأهمّ من ذلك الممر الوحيد للبحر الأسود باتجاه الأبيض المتوسط عبر مضيق البوسفور وممرات الدردنيل. وخاض الطرفان 13 حرباً ابتداءً من العام 1568، إلى أن اندلعت الحرب العالميّة الأولى وانتصرت الثورة البلشفيّة في العام 1917.
كانت المحاولة الروسيَّة الأولى للتّعاطي مع ما تبقى من الدولة العثمانية بشكل إيجابي في العام 1917، بعد أن فضحت الاتّفاق الثلاثي سايكس – بيكو - سازانوف بين روسيا وبريطانيا وفرنسا باقتسام الدولة العثمانية، التي كانت تتيح لروسيا القيصرية استعادة القسطنطينية كعاصمة دينية للأرثوذكس مع شمال تركيا الحالية، بما يشمل كل المناطق المطلة على البحر الأسود، بل اندفعت موسكو بقيادة لينين لدعم القوات العسكرية التي شكَّلها مصطفى كمال في وسط الأناضول، لتحرير تركيا التي تمزّقت بين البريطانيين والفرنسيين والإيطاليين واليونانيين بعد معاهدة سيفر في العام 1920، وأمدَّتها بالسلاح والمال، إلى أن تمَّ إلغاء المعاهدة وصياغة معاهدة جديدة باسم لوزان، حافظت فيها أنقرة على حدود تركيا الحالية، مع وضع الممرات البحرية ضمن قانون دولي جديد يتيح حرية الحركة، وبما لا يهدّد الدول المطلة على البحر الأسود.
ورغم ذلك، فشلت موسكو لينين في استقطاب أنقرة في إطار التعاون، وخصوصاً أن الزعيم التركي الجديد اتخذ قرار التوجه والتعاون مع بريطانيا وفرنسا بديلاً من روسيا بعد إلغاء السلطنة العثمانية، واتخاذ التجربة الغربية عنواناً ونموذجاً للتغيير الداخلي، إلى أن وصل الأمر إلى التحاق تركيا بحلف الناتو، فتحولت إلى أخطر موقع متقدّم يهدّد الاتحاد السوفياتي في العام 1952. ورغم ذلك، بقيت محافظة على قانونية الممرات البحرية.
ومع مجيء الرئيسين بوتين وإردوغان إلى سدّتي القرار في البلدين، تغيرت أحوالهما، فكلاهما يمتلك مشروعين مرتبطين بالجذور التاريخية للبلدين، بما ينسجم مع الطموحات الشخصية ذات البعد الإمبراطوري، وإن بأشكال مختلفة عما سبق، ولكنهما يعيشان عقد الجغرافيا والتاريخ نفسها، ويتطلَّعان إلى عالم جديد يكون لبلديهما فيه مكانة تليق بتاريخهما القريب، فقد أطلق منظّر تركيا الحديثة أحمد داوود أوغلو نظريته في العمق الاستراتيجي لتركيا، وأطلق ألكسندر دوغن أوراسيا قلب الأرض، وتحسَّنت العلاقات الاقتصادية بين البلدين بعد استلام رجب طيب إردوغان مقاليد السلطة في العام 2002، وبنت موسكو تصوراً للعلاقة مع تركيا خلال العقدين الماضيين، وهي الخارجة من حالة انهيار إمبراطوري حديث يستند إلى إمكانية الابتعاد عن الدخول في مواجهة مع تركيا، واعتماد لغة الاقتصاد والسياسة والسياحة كبديل من الصراع، لإبعادها عن حلف الناتو.
وفي الوقت نفسه، سارت أنقرة تكتيكياً من خلال الاستثمارات الأوروبية الضخمة لبناء نموذج إسلامي مقبول غربياً ودولياً، واعتماد سياسة صفر مشاكل مع جيرانها الذين ترتبط معهم بذكريات أليمة تعود إلى الفترة العثمانية، إلى أن وقعت الحرب على سوريا وفيها، والتي أظهرت الاستراتيجية الجديدة لحزب العدالة والتنمية الإسلامي، عندما صرّح أحمد داوود أوغلو ورجب طيب إردوغان في العام 2011 - انتظروا تركيا في العام 2023 - والتي بدأت تتضح ملامحها، من خلال التعبير عن ضيق الجغرافيا التركية الحالية على الطموحات التركية التي ظهرت في العثمانية الجديدة الساعية إلى استعادة التاريخ والجغرافيا العثمانية الممتدة من منطقة البلقان إلى القوقاز والبحر الأسود وسوريا والعراق مصر وليبيا وتونس والجزائر، إضافة إلى البحر الأحمر والصومال واليمن أخيراً. ولَم تكن المعارك الأخيرة بين أذربيجان وأرمينيا، ودعم تركيا الواضح لباكو سياسياً وعسكرياً، سوى استمرار في السباق مع الزمن لتحقيق التصوّر العثماني الجديد.
ولَم يكن هذا التوسع التركي بمعزل عن الغطاء الأميركي الَّذي تم في العام 2005 بين الرئيسين بوش وإردوغان في واشنطن، وإعادة إطلاق إشارة "الربيع العربي" من القاهرة من قبل الرئيس الأميركي أوباما في العام 2009، ثم الرئيس ترامب، الذي غضَّ نظره عن احتلال الجيش التركي لمنطقة جرابلس الباب في العام 2017، واحتلال عفرين في العام 2018، واحتلال المناطق الممتدة من تلّ أبيض إلى رأس العين بعمق 32 كم في العام 2019، إضافة إلى مناطق شمال العراق.
ولَم يكن الاتصال الأخير بين ترامب وإردوغان في 8 حزيران/يونيو الفائت سوى بداية التغطية للعملية العسكرية التركية في ليبيا، والسيطرة على مناطق غرب طرابلس، وإسقاط القاعدة الجوية في ترهونة، بعد انسحاب قوات شركة فاغنر الروسية، ومن ثم التمدّد باتجاه سرت والجفرة.
ورغم وضوح السياسات التركية المهدّدة للمشروع الأوراسي الذي تبنّاه الرئيس بوتين، فإنّ موسكو ما زالت تراهن على إمكانية استقطاب أنقرة وعدم المواجهة معها، ما ترك آثاراً سلبية في المسار السوري، وشكل تهديداً حقيقياً لإمكانية استعادة كل الأراضي التي احتلتها تركيا في الشمال السوري، من دون أفق زمني واضح لاستعادتها.
وعلى الرغم من وضوح الصورة الجيوسياسية لأغلب السياسيين، فإنّ نجاح أنقرة في التمدد في المناطق السابقة يحمل تهديدات حقيقية لموسكو، بحكم التلاقي بينهما مستقبلاً في البلقان والبحر الأسود، والنزاع على شبه جزيرة القرم، وعدم الاعتراف بقانون استعادتها لروسيا، إضافة إلى أرمينيا، وقدرة أنقرة على تهديد الداخل الروسي بالاعتماد على المسلمين الّذين يتجاوزون 25 مليوناً، ومن مذهب واحد، منهم 14 مليوناً من القومية التركية، إضافة إلى الأصول التركية في دول آسيا الوسطى في كلّ من أذربيجان وتركمانستان وكازاخستان وأوزباكستان. وكل ذلك يتم الآن تحت رعاية الإدارة الأميركية، التي تعمل جاهدة لتدمير روسيا من الداخل، ومنع تحولها إلى دولة عظمى في مواجهة الولايات المتحدة.
تراهن موسكو حتى الآن على إمكانية استقطاب أنقرة وإخراجها من إطار حلف الناتو، رغم كل المؤشرات التي تؤكّد استثمار الأخيرة لحاجة واشنطن لها في مواجهة كل من روسيا والصين، والانكفاء الأميركي بمحاولة ملء الفراغ الجيوسياسي لخدمة مشروعها، الذي إذا ما نجحت به، فسيكون تهديداً للمشروع الأوراسي، وبالتالي إغلاق الممرات البحرية في وجه روسيا، وخصوصاً إذا ما نجح في فتح القناة البحرية الجديدة بين البحرين غرب إسطنبول، إضافة إلى ابتلاع الشاطئ الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، ومعه العراق وسوريا، وهذا يؤكّد مسألة أساسية بأنَّ المشروعين الأوراسي والعثماني متناقضان، لما يحملان من عوامل التهديد المتبادلة، بما سيؤدي إلى عودة الحروب التي توقفت أثناء الحرب العالمية الأولى، والعلاقات بين الطرفين لا يمكن أن تستمر، رغم كل الإغراءات الاقتصادية الروسية، وغض النظر عن الاحتلال التركي لمناطق واسعة في الشمال السوري.
وستأتي اللحظة التي تكتشف بها موسكو أن الزواج والشراكة مع أنقرة غير قابلين للتحقيق، رغم فترة خطب طلب الود الروسي المديد. وعندها، سنعلم مصير الأراضي السورية المحتلة في الشمال، ومستقبل سوريا السياسي.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الاشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً