عقبات تلجم الطموحات التركية.. مقاربة علميَّة
ما هي أهم الأسباب والظروف التي ستمنع تركيا، وبالتحديد رئيسها رجب طيب إردوغان، من تحقيق أهدافه، سواء ضمن المنطقة العربية أو غيرها على المديين المتوسط والبعيد؟
في العام 1516، وقعت معركة مرج دابق الشهيرة، وهي تُعتبر بداية التَّمدد العثماني في الأراضي العربية، التي كانت في تلك الفترة تحت حكم الدَّولة المملوكية المسلمة. وبعدها بعام واحد فقط، أي في العام 1517، كانت معركة الريدانية التي انتهت بسيطرة العثمانيين على مدينة القاهرة، عاصمة المماليك آنذاك.
ومع التّذكير بدور المماليك الحاسم في وقف الغزو المغولي للبلاد الإسلامية والعربية في معركة عين جالوت، ورغم أن السَّلطنة المملوكية كانت مسلمةً أيضاً، وكان حكامها مسلمين، ولكن هذا لم يشفع لها عند السلطان سليم الأول، فكما استهدف العثمانيون الإمبراطورية البيزنطية المسيحية، قاموا بغزو السَّلطنة المملوكية المسلمة أيضاً.
بالعودة إلى العامين المذكورين، أي 1516 - 1517، يمكن الاستنتاج أنَّ قوات الدولة العثمانية استطاعت، وخلال عامٍ واحد فقط، السَّيطرة على بلاد الشام ومصر في آنٍ معاً، أي خلال فترة زمنية وجيزة.
ومع المقارنة بالوضع الحالي للتمدّد التركيّ، يمكن الملاحظة أنَّ تركيا، ومنذ بداية تدخلها واحتلالها العسكري المباشر للأراضي السورية في إطار عملية "درع الفرات" 2016 وحتى العام الحالي، أي بعد 4 سنوات تقريباً، لم تحقّق الكثير في هذا المجال، كما أنَّ الطموحات التوسعية بدأت تتعثّر على وقع المعارك التي حدثت، وربما تحدث، في محافظة إدلب السورية. كما أن النجاحات التركية الأخيرة في ليبيا، على سبيل المثال، تبدو في واقع المراوحة في المكان. وفي حال أرادت أنقرة التوسّع أكثر، ربما ستكون التكاليف باهظة للغاية، كما أنها ليست مضمونة النتائج في العموم.
المقارنة الزَّمنية السابقة مهمة لناحية فهم الوضع الاستراتيجي للقوة التركية الحالية، بمعنى أنه على الرغم من أنَّ طبيعة الزمن الحالي تختلف بشكل جذري عن زمن الدولة العثمانية، من حيث إنّ الأحداث في هذا العصر متسارعة، إضافة إلى أن طبيعة الأسلحة ووسائل الاتصال تتيح تحقيق النتائج الميدانية بسرعة كبيرة نسبياً قياساً بالماضي، على الرغم من الحقائق السَّابقة، سيكون من السَّهل الملاحظة أنَّ الدولة العثمانية توسَّعت في زمنٍ قياسي.
أمَّا الآن، فالتَّمدّد التركي الجديد يتمّ وفق وتيرةٍ بطيئة متعثرة. وتلك السياسة ربما تتحوَّل إلى شكلٍ من أشكال الاستنزاف والحروب العبثيّة، في حال لم تتغيّر الأسس الجديدة للسياسة التركية بشكلٍ جذري.
ولكن ما هي أهم الأسباب والظروف التي ستمنع تركيا، وبالتحديد رئيسها رجب طيب إردوغان، من تحقيق أهدافه، سواء ضمن المنطقة العربية أو غيرها على المديين المتوسط والبعيد؟
- يشكّل الانسجام الاجتماعيّ الداخلي لأيِّ دولة من الدول مؤشراً مهماً على مدى قوة تلك الدولة وكفاءتها. وبالنظر إلى الوضع الداخلي المجتمعي في تركيا، يمكن الملاحظة أن الاستقطاب والانقسامات ضمن المجتمع، وعلى المستويات كافة، هي على درجة عالية، سواء على مستوى الشعب أو النّخب، وهو أمر طبيعي، ولكن من غير الطّبيعي أن يصل مستوى هذا الاستقطاب إلى درجة العداء المستفحل الذي يؤدي إلى حوادث عنفيّة تأخذ في بعض الأحيان الطَّابع المذهبيّ أو السياسيّ أو حتى القوميّ. ويمكن في هذا السياق طرح بعض النَّماذج عن تلك السّلوكيات:
Ø خلال العام 2014، بدأ مؤيّدو إردوغان بالنّزول إلى الشوارع بالأكفان البيضاء. كانت الرّسالة واضحة في الاستعداد إمّا للقتل وإما للموت، دفاعاً عن إردوغان في وجه أيّ من معارضيه.
Ø في شهر شباط/فبراير، قال معلّق ومذيع لتلفزيون "Erdogan Akit" في أحد برامجه: "إذا بدأنا بقتل المدنيين، فسنبدأ بـ... (سمَّى 3 أحياء في إسطنبول معروفة بنمط حياتها الليبرالية العلمانية)... هناك الكثير من الخونة للقتل حتّى في البرلمان!".
Ø قال موالٍ آخر لإردوغان، يُدعَى فاتح تازجان: "على أعداء إردوغان أن يعوا جيداً أنّنا أعددنا جداول الأسماء التي سنتخلَّص منها، وهم بالملايين. وعلى هؤلاء أن يفكّروا كيف سيحمون نساءهم وبناتهم بعد ذلك...".
إذاً، يمكن القول إنَّ سياسات إردوغان - الذي يستخدم أيضاً في العديد من المناسبات بشكلٍ مستغرب لغةً طائفية تزيد من منسوب التوتر - سواء الداخلية أو الخارجية، ساهمت في تعميق الانقسامات لدى الشَّعب التركي إلى درجاتٍ خطيرة.
بمعنى آخر، إنّ البنية الاجتماعية الموجودة ضمن حدود الدولة التركية الحديثة تختلف بشكل جذري عن بنية الدولة العثمانية التي توسعت في الماضي، وهذا يشكّل أحد أسباب عدم واقعية طموحات إردوغان من وجهة نظرنا، فالأساس الدّاخلي المستقر هو شرط حيوي لسياسة خارجية ناجحة لأي دولة من الدول، وإلَّا تصبح النَّتائج عكسية بتبدل الفرص والثغرات التي ربما تمنحها الظروف الدولية والإقليمية في الوقت الحالي.
- لقد توافرت للسلطنة العثمانية في زمانها مقوّمات الدولة العظمى. مثلاً، كانت أسلحتها متطورة قياساً بالدولة المملوكية، كما كانت لديها القدرة على الإنتاج الذاتي. أما الآن، فيمكن القول إن الطّموحات التركية عالمية الطَّابع، ولكن هل تحقّق تركيا الحالية معايير الدّول العظمى، بمعنى هل تُقارَن بالصين أو الولايات المتحدة؟ هذا الأمر مشكوكٌ فيه للغاية.
- تُصنَّف الاستراتيجيّة التركيّة الحاليّة في إطار الاستراتيجية الهجومية، وتحمل في كثير من الأحيان الطَّابع العدواني اللاعقلاني. هذا الوضع خلق لتركيا العديد من العداوات الإقليمية مع غالبية دول الجوار (سوريا، العراق، اليونان، أرمينيا، قبرص، مصر، بعض دول الاتحاد الأوروبي، ومحطات عديدة للتوتر مع روسيا...)، ففي الوقت الذي يجادل الأتراك أنّ احتلالهم أراضي سورية شرق الفرات هو لحماية أمنهم القومي، خوفاً من نشوء كيان انفصالي كردي في سوريا، لا يمكن فهم تدخلهم في إدلب وعموم سوريا، وصولاً إلى ليبيا وحتى الصومال، والسلوكيات العدوانية في موضوع المياه، سواء مع سوريا (قطع المياه المتكرر عن مدينة الحسكة وريفها) أو مع العراق (قضية سد إليسو)، على الرغم من أن تركيا دول غنية مائياً... لا يمكن فهم تلك التصرفات إلا في إطار السياسة الهجومية ذات الطابع العدواني عموماً.
- كمثال عملي على ذلك، أظهر أحد استطلاعات الرأي أنَّ 70% من الشّعب التركي يرى أميركا عدوّه الأكبر، وتليها "إسرائيل"، ثم سوريا وإيران واليونان وأرمينيا، فيما تراجعت شعبية روسيا من 55.8% من الذين كانوا يرون في العلاقة معها شراكة استراتيجيّة أو تعاوناً وثيقاً، إلى 37% قابلة للتراجع، بسبب الفتور، وأحياناً التوتر مع موسكو.
من الواضح أن النّسب السابقة تشير إلى ضياع البوصلة الاستراتيجية الواضحة للسياسة التركية، فكيف يمكن فهم هذه المعطيات التي أدَّت إلى تبني 70% من الشعب مثل تلك النّتائج المتناقضة؟!
- أيضاً، إن اعتماد تركيا المفرط على القوّة العسكرية في إطار استراتيجيتها العامة، سوف يعرّضها لخطر الاستنزاف. وبالعموم، يمكن القول إنَّ الحروب الحديثة تعتمد على تقنيات حرب الأفكار والوعي والحرب الناعمة. بالتّأكيد، استثمرت تركيا جيداً في هذا المجال من الحروب، ولكنَّها انزلقت بسرعة نحو القوة العسكرية المفرطة، الأمر الذي سيكون له، في تقديرنا، تداعياته السلبية على الأمن القومي التركي، في حال لم تتم مراجعة سريعة لتلك السياسات، وخصوصاً تلك التي تعتمد على الاستثمار في دعم الحركات الإرهابية الراديكالية المتطرفة وتسليحها.
- يتجاهل إردوغان وكل النّخب المؤيّدة له في الداخل التركي بطريقة فجّة في كثيرٍ من الأحيان التَّاريخ الحضاريّ للإسلام. وغالباً ما يتمّ الإيحاء بأنَّ فترة السّنوات الأربعمئة من عمر الدولة العثمانية هي التي تمثل كلّ الإسلام، على الرغم من أنَّ العديد من الحضارات ذات الخلفيات العربية وغير العربية امتزجت بالإسلام، وأسّست دولاً مهمة، وعاشت لفتراتٍ أكثر من الدولة العثمانية، كالدولة العباسية، على سبيل المثال لا الحصر.
- في موضوع متّصل بالسابق، سيكون من الصَّعب فهم ماهية تحالف حزب العدالة والتنمية ذي الميول الإسلامية، مع حركة قومية متشددة كحزب الحركة القومية المتطرف بقيادة دولت بهتشلي، فكيف يمكن التّوفيق بين الإسلام، الدين الذي ينتشر عبر الدول والقارات والقوميات المختلفة، مع حزب يميني متشدّد كحزب الحركة القومية. في الحقيقة، تبدو سياسات إردوغان في كثيرٍ من المواقف والمحطات، وكأنّها تحقّق الطّموحات القومية التركية المتشددة لتلك الحركة.
في الختام، يمكن الإشارة إلى أنَّ السّياسات التركية الحالية هي سياسات بالغة الخطورة، سواء على الصعيد الداخلي أو الخارجي. ومن الصّعوبة أن تكون ذات طابع مستقر أو مثبتة للاستقرار. والأهم من ذلك أنَّ طموحات إردوغان ستكون غير قابلة للتحقق للأسباب السابقة التي تمَّت الإشارة إليها.
وللأسف، يبدو أنَّ تلك السّياسات لن تساهم سوى في استنزاف الدول والشعوب العربية والإسلامية، ومنها الشَّعب التركي نفسه، إضافة إلى رفع مستوى الفتن والعداوات من دون تحقيق أي نتيجة تُذكَر، الأمر الَّذي يجب أن تتنبَّه إليه تلك الشعوب، فالمعارك الكبرى يجب ألَّا تكون في ليبيا وسوريا والعراق أو غيرها، بل يجب أن تكون في مكانٍ آخر، وليس لأجل الطُّموحات العثمانية غير القابلة للتحقق، بل لأجل قضايا أخرى ذات أهميةٍ حيوية واستراتيجية لمستقبل تلك الشعوب.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الاشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً