قبل 4 سنە
هبة محمد ناصر
249 قراءة

وجه أميركا الحقيقيّ.. لا هروب بعد اليوم

 

"لا أستطيع أن أتنفَّس". صرخ جورج فلويد مراراً، مناجياً ضابط شرطة هيوستين ديريك شوفين، بعد أن جثا بركبته على عنقه وظهره. قال الأربعيني الأعزل ذو الأصول الأفريقية بصوت مرتجف إنه لا يريد أن يموت. لقد شعر بالاستعلاء والكراهية اللذين تعامل بهما رجل الأمن الأبيض الّذي هاجمه. مشهد، على قساوته، يتقاطع مع كل الممارسات الأميركية من منظور أوسع.

مات فلويد اختناقاً. خسرت أميركا روحاً في حادثة لا تستدعي ذلك، وبأسلوب ينتهك القانون قبل كلّ شيء، وكم من روح خسرتها الأمم بسببها أيضاً!؟ في الذهنيّة الأميركيّة المنكشفة منذ تأسيسها، كثير من المسوّغات لحوادث من هذا النوع. يصرخ كثيرون اليوم لجعل فلويد ضحية أخيرة، مطالبين بالتغيير الصّعب. شكَّلت الواقعة المأساوية في الخامس والعشرين من أيار/مايو مصارحة لا مفرَّ منها مع الواقع، في لحظة مفصلية في تاريخ أميركا التي تسحق بكل كراهية حقوق الإنسان.

يصرخ أميركيون اليوم لتبديل الطريق المرسوم لعقود، مطالبين بتغيير جاد لواقع ما عاد يحتمل. يقولون إنهم جميعاً، كما فلويد المقتول غدراً واستضعافاً، لا يستطيعون أن يتنفسوا، ونحن كذلك لا نستطيع أن نتنفَّس. تلك بلادكم الجشعة التي تحلم بتسيّد العالم. لقد رأيناها في أرضنا وعرفناها، وها أنتم تختبرونها اليوم. للمرة الأولى، تتقاطع معاناة الشعوب مع واقع الأميركيين، فيتحقّق المستحيل.

الأميركيون أنفسهم هذه المرة يواجهون أميركا الّتي عايشوها وتحمَّلوها، لكنّهم لم يكتشفوها إلا متأخّرين. يقول جزء كبير منهم إنَّ هذا الاستكبار ليس حلماً. يعرف المحتجّون أنَّ مقتل أميركيّ أسمر البشرة في مينيسوتا ليس حادثاً فردياً يندرج ضمن القتل عن طريق الخطأ أو الإفراط في استخدام القوة. فلويد لا يمثل نفسه، وكذلك الأمر بالنسبة إلى شوفين. كلّ منهما له موقعه في ميزان العدالة والكراهية في أميركا، فماذا بالنسبة إلى إسقاطات هذا المشهد؟

العنصريَّة والاستبداد: صورة أميركا في مرآتها

 من الواضح أنَّ اختلال الكفّة لصالح الكراهية على حساب العدالة ليس ضئيلاً. يثبت ذلك القتل الوحشيّ واللاإنسانيّ وغير الأخلاقيّ لجورج، في مشهد بدا مستعاراً من حقبة زمنية أخرى، لكنّنا هنا والآن، وهذه أميركا على حالها منذ تأسيسها.

ينكشف هذا القتل البشع أمام الأميركيين اليوم كاستمرار صريح وخطير لنهج ثابت لم تنجح أميركا على مر التاريخ في التخلص منه، يتمثّل بالتعدي على الأقليات وانتهاك حقوقهم واستعبادهم، وما زالت العنصرية والعبودية حيَّة في أذهان كثير من سكّان هذه البلاد وساستها.

لم تتغيّر أميركا. هذه هي مادتها الأساس وصورتها من دون مساحيق تجميل. كان حكّامها مشغولين في إيهام العالم بالصورة المنمّقة لهذه البلاد. كانت المهمة الأساس صناعة الشعارات العريضة المغرية التي تخفي ما يعانيه كلّ الآخرين المختلفين من توترات عرقية وتمييز وإهدار لحقوقهم.

تحركت رياح التغيير بقوة في أعقاب مقتل فلويد، وأسقطت كل الأقنعة، فظهر، للداخل هذه المرة، الوجه الحقيقي البائس والبشع، بكلّ ما يكتنزه من حقد وكراهية. الحرب الداخليّة هي إنكار للذات الأميركية قبل كلّ شيء وتنكّر لهذه الهوية. إنّها حقيقتها التي ترفضها ولا تنسجم معها، وهكذا هي أميركا في العالم... ترفض ولا تنسجم.

ترامب ليس الرجل المناسب للحظة كهذه، وهو الذي وصل إلى البيت الأبيض بخطاب انتخابيّ مفعم بالكراهية تجاه المهاجرين والعنصرية ضد الأقليات، من عرب ومسلمين وأميركيين من أصول آسيوية أو أفريقية أو لاتينية، فالرئيس ومن سبقه في الموقع نفسه، يمثلون الفكرة الأميركيَّة الخالصة. ليست أميركا حصناً للحريات والحقوق كما يدَّعون. ما يمارسه القادة الأميركيون في الخارج من قتل واضطهاد وتفرقة يمثل الاتجاه الراسخ في عقيدتهم.

التَّغيير الصَّعب: الحلم الأميركيّ يتبدّد

وإذا كان ترامب يريد أن يظهر كرجل قويّ، فإنّ الشّجاعة تكمن في تقرّبه من الشّارع وسماع صوت المحتجين المدفوعين بالإحباط من تعرّض أميركي للإدانة والاعتداء بسبب لون بشرته. لماذا يبدو هذا الاقتراح صعباً؟ بباسطة، لأنه يدفع أميركا بعيداً من كيانها وكينونتها، فمن الصّعوبة البالغة ألا تكون أميركا نفسها، كما هي دائماً في الإجرام والاعتداء على الآخر.

وإذا كان موقف وزير الدفاع الرافض زجّ قواته في مواجهة مع المواطنين انتصاراً للمتظاهرين وبهجة لهم، فهو ليس فعلاً نبيلاً بالنسبة إلى آخرين تراهم أميركا في الموقع عينه: أقليات يجب استضعافها وتهميشها. 

في منطقتنا، لم ينأَ الجيش الأميركيّ بنفسه عن عمليات الاحتلال والقتل والتّدمير. جاء الأميركيون إلى هذه الأرض، وتركوا لنا كثيراً من الدمار والآلام التي ما زلنا نبكيها إلى اليوم بمعانٍ مختلفة. أياً كان موقف البنتاغون، سواء عارض الرئيس أو وافقه في مسألة قمع الاحتجاجات، فهو ليس مؤسَّسة أميركيَّة نزيهة.

تنسحب المعادلة نفسها على الكراهية الأميركية عموماً واللامساواة وتغييب كل قيم العدالة الاجتماعية. ولو أنَّ كلّ إنسان في هذا العالم، لا كلّ أفريقي الأصل فحسب، تخيَّل نفسه مكان فلويد، لرأينا أميركا كما يجب أن ننظر إليها جميعاً. ديريك شوفين هو أميركا كلّها، في كل أرض احتلتها، وعائلة قتلتها، وأخرى هجرتها. ديريك شوفين، جاثياً بركبته على عنق جورج فلويد، هو بالتحديد كل رئيس أميركي حكم آنفاً أو سيحكم مستقبلاً... وفلويد هو تماماً العالم الذي تجثو أميركا على صدره.

لذلك، إن حادثة من هذا النوع يجب أن تشكّل محطّة، لا بالنسبة إلى الأميركيين فحسب، بل إلى العالم أجمع أيضاً، والإنسانية جمعاء. على كلّ منا أن يرى ويفهم الواقع الأميركيّ الَّذي تجسّده حادثة مينيسوتا وما قبلها وما سيليها. سيتصاعد صيف الاحتجاج الأميركيّ حتماً، لكن التغيير لن يحصل، فمن بالغ الصعوبة أن تخالف أميركا نفسها، وها هو ترامب يحارب متمسّكاً بالسفاهة التي عرف بها العالم هذه الدولة.

في الداخل، تقاتِل أميركا اليوم وتقاتَل بأسلحتها: العنصرية والاستبداد. الآن، تتكلم أميركا لغتها مجردة من كلمات المعجم الفصيح... هذه بضاعتكم ردّت إليكم! على المحتجّين اليوم أن يكونوا أكثر وعياً للسيرة الأميركية التي قدمت نفسها دولة عظمى، وهي ليست سوى دولة احتلال واغتيال. تغتال أميركا الإنسان، وتعادي كل ما هو إنساني. لذلك، لا تستطيع احترام القيم أو تطبيقها.

إن ترامب لم ينجح، بل لم يحاول، ولو في المرحلة الأولى، أن يكذب على نفسه وعلى الناس. لم يقل إنّه يريد حواراً. لم يظهر استعداداً لسماع المحتجّين أو التفاوض معهم. أميركا هذه تكره الحقوق، فبماذا تطالبونها؟ أميركا هذه تستعمل القوة، وتهدد بالمزيد، وتقول دائماً إنّ الجيش حاضر، فهي تحبّ نزيف الدم، ولو كان دمها.

صحيح أنّ البيت الأبيض يهزّه شعار "حياة السود مهمة"، لكن الشعار الخام الذي يجب أن نتحدّى به الغرور الأميركيّ هو: "حياتنا جميعاً مهمّة"، جميعاً، وذلك يخصّ كلّ إنسان تراه كل إدارة أميركية مناسباً لموقع الضحيّة وفريسة لسياساتها وأطماعها العسكريّة والتوسعيّة. اليوم، فلويد في مينيسوتا، لكن قبله وبعده مئات الملايين من الضَّحايا في العالم، فهو النظام الواحد الذي لا يتأثر بأيّ انتخابات أو حزب حاكم.

وإذا كان مقتل فلويد حادثة غير فردية بالنسبة إلى عائلته وإلى المجتمع الأميركي، فهي كذلك بالنسبة إلينا أيضاً. تعالوا نوسّع الصورة، ونوسّع حدود الأرضية الأميركية إلى العالم عموماً. ماذا لو لم يكن فلويد أيَّ أميركي من أصول أفريقية فحسب، بل إن السؤال الأساس والمفترض طرحه: ماذا لو كان جورج فلويد أياً منا؟ في أيّ مكان على هذه الأرض، أيّ رقعة، أينما وجدت، إذ تضعها الإدارة الأميركيّة نصب عينيها.

أميركا الحقيقيَّة هي تلك التي تنحاز إلى عرق واحد وتنتصر دائماً له، وهو القتل والاستعمار، وهذا ما تراه وتريده عرقاً أميركياً أصيلاً. إنَّ التغيير يتطلَّب إرادة قوية تُعين على مواصلة هذا التحدّي، وتبدأ من الداخل هذه المرة، وأن يكون فلويد هو الضحية الأخيرة للتمييز العرقي، يعني، في المنظور الأوسع للقضية، تحقيق حلم العالم وتبديد الحلم الأميركي.

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الاشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً

Copyright © 2017 Al Eshraq TV all rights reserved Created by AVESTA GROUP