قبل 4 سنە
محمد فرحات
375 قراءة

من الساحل السوري إلى روما.. فصل من فقه كورونا

 

إن البحر الأبيض المتوسط ليس بحراً تقع على حوافه بلدان تقوم خلفها بلدانٌ أخرى كامتداد حيوي للحوض، أو مجرد بحر سبق له أن شكّل مركزية العالم، ولا زال. إنه الفضاء الأهم في مسرح العالم المحكوم بحس خاص. ورغم الصراعات والتنافس والاختلافات المتغيرة والمتنقلة التي شهدها حوض المتوسط، فقد بقيت هناك علاقات جوار متواصلة وقابلة للاشتغال من جديد أثناء كلّ حدث وبعده.

إن تاريخ مجتمعات حوض البحر الأبيض المتوسط يشكّل حقلاً خصباً لدراسة أبعاد مهمة في سلوك الإمبراطوريات وثقافتها، وإدراك قوة الجيرة وأهمية التعاون في تحقيق المصالح والغايات، حتى خلال الصراعات والتباينات والتنافس بين الدول التي تناوبت على القوة والهيمنة فيه.

ويمكن القول إن سليقة شعوبه ووعيها كانا أقل استعداداً للعدائية من سلوك الدول والقادة فيه، وكان بمقدور ثقافة الجيرة والتشارك والمصالح المتبادلة أن تؤدي دوراً في تحويل رواسب الحروب والعداوات إلى شيء آخر مختلف وقابل للتجاوز.

في جنوب المتوسّط وشرقه، يقع العرب والإسلام والمسيحية الشرقية واليهودية على الأقل، بأثقالها ومعانيها، وخلفها مباشرة يقع الجانب الشرقي من أوراسيا في أعالي العالم، بامتداد يترامى شرقاً وغرباً، وهناك البوذية والكنفوشوسية وأفريقيا ومظالمها وأسرارها، أي العالم، كما اعتاد الذهن البشري تصوره، قبل اختطاف صورته وثرواته ومعانيه، والذهاب بها غرباً إلى ما وراء بحر الظلمات– المحيط الأطلسي، كما سماه العرب قبل اكتشاف أميركا! 

وفي شمال المتوسط تشكيل من القوميات: الرومان والجرمان والإسبان والإفرنج، ويقع خلفهم، شمالاً وغرباً، الهكسوس والسكسون، ويرابط على شرقهم السلاف وأوراسيا الغربية.

بين ضفّتي المتوسط، تقوم جيرة بقوة الجغرافيا وديكتاتوريتها، كان فيها مشتركات ومصالح وحروب وصراعات ولحظات مضيئة وأخرى مظلمة، وهي من احتمالات التاريخ، غير أن مجتمعات البحر المتوسط كانت أفضل من دولها وقادتها في ما خص نزعات العداء، ولم تفقد الحس المتوسطي، ولم يكن بمقدور النزاعات والصراعات أن تقطع خطوط التجار والحجاج والعباد والمغامرين والنساك والرحالة والمفكرين المفتونين بالفضاء الآخر وبأسراره والروابط والتبادلات والتفاهمات والتشارك. 

وفي كثير من الأحيان، جرى ذلك على عين الحروب ومشعليها، ومن وراء ظهورهم معاً، وحتى بعد أن كانت الحروب تضع أوزارها استعداداً لأخرى، إلا أن العصور الحديثة شهدت متغيّرين أنتجا وقائع ترتّب عليها أخطر عملية تشويه للروابط، ولشكل الصراعات في حوض المتوسط وباقي العالم أيضاً.

المتغير الأول تمثّل في الحركة الاستعمارية الأنجلوسكسونية والفرنسية، بمشاركة إسبانية برتغالية اتجهت غرباً، ومشاركة إيطالية محدودة القدرة والطاقة ذهبت جنوباً. وكان استعمار ليبيا وإعدام عمر المختار مثالها الأسوأ، في حركة استعمارية أنتجت أسوأ نموذج في التاريخ من الغزو والاستباحة والبطش، وتركت في ذمة الزمن موروثاً بالغ البشاعة من الهيمنة والإذلال والاستغلال والنهب وسفك ثروات شعوب أخرى وثقافاتهم وحياتهم معاً.

وفي لحظة تاريخية، تم كسر حالة الاستعمار الغربي المباشر على يد المغلوبين أنفسهم، لكن نفوذ الغرب وطاقته على التدخل السلبي وأشكالها الجديدة لم يتم كسرها. 

عادت أوروبا الأنجلوسكسونية والفرنسية والإسبانية والإيطالية من الاستعمار المباشر لتتواجه (السكسون والفرنسيون تحديداً) مع ألمانيا الهتلرية على نحو بالغ الدموية، غير أن أوروبا لم تستخلص العبرة من حروبها الممتدة، وفشلت الحرب في تعليم الطغاة في الغرب درس السلام والتعاون وإعادة حياة العالم إلى سياقات معقولة على قاعدة المصالح في كنف التعاون، كخيار انتهجه الوعي والخيال الصيني الروسي، واقترحه كبديل يحكم علاقة العالم مع بعضه البعض. 

أما المتغير الثاني، فقد ترتّب على دخول العامل الأنجلوسكسوني في نموذجه الأميركي بقوة في حياة العالم وحوض المتوسط منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية.

 وبدلاً من أن يكون ذلك مدعاة لبناء نموذج متفوّق توفرت له كل الإمكانيات كي يكون كذلك، إلا أنه أعطى أفدح النماذج الإمبراطورية في التاريخ، وأكثرها فجاجة، وكان الأسوأ في فهمه للهيمنة وفي ممارستها، بسبب وجود شوائب في طبيعته وخصائصه، وفقدانه رؤية مرموقة وأخلاقية مناسبة، وخلل في الوعي الذي بناه لنفسه وللعالم.

وبينما فشل في إنتاج ذاكرة روما أو غرناطة أو الإسكندرية أو قرطاج، إلا أنه كان بارعاً في إنتاج المقابر الحقيقية والمجازية، والكراهية والامتهان، والاستغلال الأرعن، والأنانية الفاجرة، وإدعاء التفوق المريض الذي بحث عن شفاء لنفسه، بادعاء تكليف من سماء لا يعرف الطرقات السويّة إليها.

وبدلاً من أن تبني أميركا إمبراطورية تدوم بدورها، وبقوة نموذجها، وبحاجة العالم إليها، تمكّنت بنجاح باهر من بناء إمبراطورية مؤسفة وكئيبة، بلا ذاكرة جديرة بالاستعادة، ولا حس تاريخي، ولا خيال مرموق، ولم يكن لديها استعداد لأي استراحة للمسدس على ما قال محمود درويش يوماً. ومن لم يطله سيفها، سفكت مصالحة وكرامته وروحة بالإذلال والاستباحة والإفقار. وضحايا هذه الممارسات أكثر عدداً من ضحايا السيف الغاشم.

وفي سياق زلزلة غير مسبوقة طالت حوض البحر المتوسط وجغرافيته وحياة سكانه والعالم، جرى ترتيب أخطر الأحداث في القرن العشرين، المتمثل في الدور الحاسم للتيار المهيمن في الغرب في إقامة "إسرائيل"، والذي يعتبره ديفيد فرومكين ذروة الاعتداء الغربي على الشرق.

إن لعبة الهيمنة الغربية في فصولها المتعددة في حوض البحر المتوسط وما يعنية في حياة العالم واستقراره، استندت إلى وعي خبيث ولئيم ومريض تحكم في استراتيجيته بشأن المنطقة واستقرارها وحقوق شعوبها. واللعبة هنا لم تكن تجري على الأرض، ومع التاريخ والبشر فقط، بل انطوت على تجرؤ غير مسبوق على السماء ذاتها، وزعزعة كبيرة لأبجدية الألواح الأساسية التي تحكم التاريخ والمتوسط والعالم وقوانينها.

وفي هذا السياق، كان سوء الفهم المقدس، بمؤسّساته وخطاباته وممارساته وتعبيراته الشاملة، الذي بنته أوساط غربية بعينها إزاء شعوب شرق المتوسط وجنوبه وباقي العالم وحقوقها وثقافتها ومصائرها، يبلغ ذروته القصوى في الفجور.

 وقد تحوَّل سوء الفهم المقدّس إلى راسب ثقافي استراتيجي تلفع بمقولات العهد القديم وخيالاته، وأنتج شرقاً متخيلاً لا يشبه الشرق بشحمة ولحمه، وهو مسألة فكّكها على نحو نبيه وعميق إدوارد سعيد في أطروحته عن الاستشراق. وقدماً جرى إحلال الشرق المتخيل محل الشرق الحقيقي. وعلى هذا الأساس جرى بناء موروث كامل من الاستراتيجيات والسياسات والمشاريع والممارسات والتصورات.

وكان لدى سوء الفهم أيضاً القوة والقدرة والنفوذ لدحر أيّ فهم أو وعي مخالف لذلك أو مختلف عنه، فضلاً عن محاصرته ومنعه. وفي مستوى آخر، كان دهاؤه وتخريبه عالياً، وهو يزرع ويبني ويرعى تركيبات سياسية وزعامات في ثنايا العالم العربي والإسلامي وباقي العالم، كاستثمار استراتيجي يساعده على تحقيق غاياته. وقد نجح في ذلك إلى حد بعيد، مغتنماً قابلية ذات بعد مرضي عند العرب والمسلمين وغيرهم، للاختراق والتواطؤ على الذات بلؤم وبغباء وباستسلام مزرٍ.

في هذه اللحظة بالذات، يحتاج تصنيف الغرب المعاصر من طرف المعنيين بذلك إلى طريقة أخرى، إذ يمكن الحديث عن وجود غربيين أو أكثر؛ الغرب اللئيم والعدائي، والغرب العاقل والمعني بالانفتاح على الآخر والتعاون، والذي قد يكون مستعداً لإعادة النظر في تجربته واستخلاص العبر منها على نحو وآخر، والبحث عن صيغ معقولة للتحقق في عالم مستقر متعاون معافى أخلاقياً وسلمي.

الغرب العدائي مهيمن وحاكم ومدجّج بالخطابات وبالغرائز السيئة، ولا يحتاج إلى رسم خارطة له. هو يفصح عن نفسه علناً وعلى رؤوس الأشهاد، ويخنق ويحاصر أي صوت يخرج عن وصاياه الإيديولوجية، حتى لو كان صادراً عن فرد لا حول له ولا قوة، لكنه في الوقت نفسه غرب متوتر ومأزوم، ويشهد عملية غل ليده الطويلة يوماً تلو الآخر، على يد معنيين صاعدين ليسوا قليلي الشأن، يمتدون على كل ضفاف طريق الحرير من الصين إلى الحافة الشرقية للبحر المتوسط، فاليمن جنوباً، وبعض أميركا اللاتينية الواقعة شرق المحيط الهادي، كي لا نقول غرب الأطلسي، ومعهم معنيون ومستفيدون كثر لا يعلنون عن أنفسهم في أرجاء العالم، بما في ذلك في ثنايا الغرب نفسه، وهم يتوزعون على مستوى كتل سياسية وأوساط اجتماعية وثقافية واقتصادية واسعة.

كما أنه غرب يعاني من أزمة بنيوية شاملة في نموذجه الاقتصادي والاجتماعي والأخلاقي، الذي وظّف منجزاته الكبرى لدى جانبه المتوحش، وجعلَها ضحية له، بما يعيد الاعتبار إلى المقولة الماركسية بأن الرأسمالية ستأكل بعضها بعضاً، وينفض الغبار عنها.

وفي سياق الضمور في الدور والحضور والقدرة الذي يعيشه نمط الهيمنة الغربية، ورغم ما ينطوي عليه من قوة وبدائل، فإن علته تتناسب طردياً مع قوته، وهي بصدد التغلب عليها. 

وبعد فوات الأوان، سيعود بعض الوعي الغربي كي يقرأ من جديد في كتاب التاريخ المسطور أن الإمبراطوريات التي بنت حضورها على التعسّف الشامل واستنزاف الآخرين وكل أشكال الموارد، بما في ذلك الموارد الأخلاقية، صارت بدورها عصفاً مأكولاً.

أما الغرب العاقل، المعني بعالم أكثر سلميةً وتوازناً كضرورة وجودية، وليس كضرورة أخلاقية فحسب، فإن خارطته تتبلور وسط ظروف صعبة، لكنها تتشكل، والضرورة والظروف ستدفعه إلى الإفصاح عن نفسه بوضوح أكبر، وملاقاة تيار عالمي غير غربي يسعى في هذا الاتجاه.

وربما تقدم الآثار النفسية والثقافية والسياسية لفيروس كورونا خدمة مهمة في هذا الصّدد، غير أن كلاماً عن إيطاليا بالذات، وعن روابطها بشرق المتوسط وجنوبه، وباللحظة الدرامية التي يمر بها العالم، يفرض نفسه في هذه اللحظة بالذات.

إيطاليا التي كانت في التاريخ البشري الإمبراطورية المركزية في العالم، والتي هيمنت على حوض الأبيض المتوسط لقرون خلت، تعرف معنى الإمبراطوريات وثقافتها وأدوارها ودلالاتها وجبروتها المكلف لغيرها ولها أيضاً.. تعاملت مع الشرق كحقل عمل استراتيجي لا بد منه لكل إمبراطورية في التاريخ، لكنها تعرفت إليه كفضاء روحي فريد أيضاً، حطّت في جغرافيته ووجدانه رسالات السماء العالية.

ومنذ ذلك الزمن، بنت روابطها مع الشرق بتدخل أساسي من العامل الروحي. ومن الجدير بالذكر أن 6 عائلات سورية كانت تنتج الأباطرة وترسلهم إلى روما كي يحكموا العالم من هناك، الأمر الذي يدل مع غيره على أنها كانت إمبراطورية متسعة، وليست مغلقة.

وعندما ساح تلامذة السيد المسيح في العالم، كان هناك مسار بالغ الدلالة لبولس الرسول الذي غادر فلسطين إلى سوريا، ليتعمّد ويتزوّد بمعانٍ تاريخية وثقافية ورمزية. ومن الساحل السوري، ركب البحر باتجاه روما، فلا ضل في النيات، ولا البحر ضلَّله وأخطأ، فأفضى به إلى البر الإنجليزي مثلاً. لقد حطّ حيث شاء وشاءت له الأقدار في روما التي أسس فيها وأرسى المركز الروحي للمسيحية الغربية.

وعندما حاصرت روما مملكة تدمر العظمى وتمكّنت منها، كان في الخيال الإمبراطوري لـ"أورليانس" متّسع كي يأخذ زنوبيا ملكة تدمر، التي جرحته في معارك حمص وكانت تنوي الاستيلاء على إمبراطوريته وعلى عرش روما، أسيرة في موكب مهيب، مقيدة اليدين بسلاسل من ذهب، حيث كان التكريم والاعتراف ببسالة امرأة وجدارة ملكة يغطى على المهانة التي كانت تعيشها، ولا يكرم أسيراً بمرتبة ملك طموح إلا صاحب ثقافة تعرف معنى التكريم والاعتراف، وهذا الأمر ليس في متناول كل جبار.

 وبعد ألفين ومئتي عام على الأقل من حصار القائد القرطاجي حنبعل، سليل الساحل السوري وابن قرطاج العالية في الزمن والتاريخ، لروما مدة 15 عاماً، وقفت جيوش إيطاليا الحديثة من مختلف الصنوف أمام مقامه، لتؤدي التحية له كقائد عظيم.

وفي سيرة اغتصاب فلسطين التي اشتركت فيها القوى الغربية الغاشمة كل في نحوها، لا نعثر على دور إيطالي ملموس وحاسم في هذا الصدد، لكننا نعثر على حس إيطالي متميز في التضامن مع الفلسطينيين وأسئلتهم عن الحرية والانعتاق وسعيهم إلى امتلاك المصير.

 وهناك تاريخ من التضامن والتعاطف والانفعال الإيطالي في صفوف الناس، وفي صفوف قوى مهمة في النخبة السياسة أيضاً، مثلما كان الحال مع الحزب الشيوعي الإيطالي، منذ أيام الزعيم إنريكو برلينغوير وقوى أخرى، وبرونو كراكسي رئيس وزراء إيطاليا الأسبق، وغيرهم من نواب ووجوه وعموم الشعب، مع ما يجري في فلسطين على نحو أعمق وأوسع من غيره في السياقات الأوروبية الأخرى.

 ولن ينسى أحد اللفتة الرمزية بالغة الدلالة، عندما أهدت إيطاليا فوزها بكأس العالم في العام 1982 للفلسطينيين، كشكل رمزي من أشكال التضامن معهم في لحظة درامية حرجة إبان حصار بيروت، لطردهم باتجاه البحر والفراغ.

وفي ضوء ما تعيشه إيطاليا اليوم على نحو خاص، والعالم على نحو شامل، جراء هجوم فيروس كورونا الغاشم على صحة الناس وحياتهم ووعيهم معاً، وبغض النظر عما إذا كان فيروس كورونا طبيعياً أو إنتاج عقل مجرم أو الاحتمالين معاً، فإنه يتشكل كتهديد خطر على الحياة وما يتطلبه ذلك طبياً من إجراءات ومعالجات، غير أن للأمر وجهاَ آخر؛ هو وجه سياسي ثقافي يرتبط بكيفيات تصرف وعي يكشف عن معدن الشعوب ودولها في معالجته من جهة، وفي بروز مساعدة الآخرين من جهة أخرى كقيمة تقول الكثير.

يدين العالم كثيراً لفيروس كورنا على أكثر من صعيد، لأنه عرّى ادعاءات كثيرين (في الغرب خصوصاً)، وأثبت مسؤولية آخرين، كالصين وروسيا وكوبا وإيران. 

وكشف كورونا عن وجود فيروسات أخلاقية وسياسية أشد فتكاً وقتلاً منه، وأقل عدالة بكثير. ويتولى كورونا بالقوة فرز العالم إلى محورين، ويطرح على الوعي الفردي أسئلة بسيطة ترتقي إلى حد السؤال عن الوجود برمته، وكيف أن فيروساً مجهول النسب يمنع التجول في العالم برمته، ويرمي جبروت المتجبرين وراء ظهره.

واجهت الصين التحدي، وردّت الهجوم البيولوجي على أعقابه، بطريقة منظمة ومنضبطة وناجعة، وبلا هلع وخوف، وبالكثير من التحسب والأخذ بالأسباب، وظهرت الدولة الصارمة كدولة مسؤولة قادرة يحدوها شعب يعرف معنى الالتزام.

وكان لإيران تجربة لافتة في هذا الصدد، في القدرة على الحشد والتصرف والتّحوط، والكفاءة في تعاطي الجهاز الصحي، وفي الإجراءات والاستعدادات والمناعة الثقافية، بينما كانت روسيا تعاين وترى وتتأهب وتساعد وتغمز من قناة من أنتجوا الفيروس وقاموا بتعميمه. 

وعندما وقعت إيطاليا ضحية لتوسع كورونا وتوجهه غرباً، جاءت الصين وروسيا وكوبا من بعيد لمساعدتها. والأمر لا يتعلق بلحظة، بل بحالة سوف تملي الكثير على وعي الإيطاليين وغيرهم.

إن شعوراً بأهمية بناء نموذج علاقات على أساس التعاطف يجد صداه العميق في العالم كضرورة وبديل لنمط العلاقات القائم، كما يقول جاك أتالي، الذي كان على مقربة شديدة من سياسي كانت له علاقة بالخيال، مثل فرانسوا ميتران.

ككثيرين ممن يقيمون في الحواف الشرقية للبحر المتوسط، ويعيشون حالة انتشار كورنا أسوة بغيرهم، كنا نرى ونسمع ما يجري من الصين حتى أميركا، وكنا نشهد شكل مقاومة إيطاليا للفيروس، بما أوتيت من قدرات ومساعدات وغناء نشيد؛ نشيد الشرفات الجماعي وما انطوى عليه من إرادة للحياة والجمال والمقاومة، وإرسال رسالة للذات ووعي للعالم، يفترض أن يصل صداها بعيداً.

وفي خضم هذا النشيد، استمعنا إلى النائب الإيطالي ميكيلي بيراس، الذي أوصى الفلسطينيين كشعب منكوب على نحو مستدام بنفسه خيراً، وبكى لأجله. كنا نسمع نشيد شرفات إيطاليا ونردد معه ما قاله محمود درويش يوماً: "نيرون مات ولم تمت روما. بعينها تقاتل".

سيكون للبشرية غد آخر، يجري فيه نفض الغبار عن وعي بديل، ها هو يتشكل على وقع تطورات كثيرة، وعلى وقع كورونا الغامض. وعي يرث الوعي السائد الظالم والبائس ونماذجه الوحشية التي بنت رفاهيتها ورؤيتها على أساس استنزاف العالم وثروات شعوبه وحقوقهم وحياتهم، واستنزاف الطبيعة من سطح الأرض حتى أعماقها، ووصول العدوانية إلى طبقة الأوزون التي تحفظ الأمن الوجودي للأرض والحياة الدنيا برمتها.

 والتاريخ، كما السّماء العالية، له تدابيره، وهو مهندس عظيم في تأطير الأحداث والدلالات والأدوار، وربما يدّخر لروما صوتاً فارقاً يكون له صداه الواسع في الوعي الجديد؛ روما وارثة الإمبراطوريات بما لها وما عليها، والتي تجلس بجمال على هضبة حوض المتوسط الشمالية، تطل جنوباً وشرقاً، وترى قوافل الساعين إلى عالم جديد آتية من بعيد، من طريق الحرير ومجازاته الكبرى، وتدير وجهها قليلاً عن أوروبا التي عودت نفسها على الاستخفاف بالطليان وتنميط استخفافها بهم، لكنها لا تدير ظهرها، ولا يجب أن تفعل، لأسباب موضوعية عدة، منها أن أهم صدى لصوتها يفترض أن يأتي من هناك، من الوعي المدحور في أعماق أوروبا.

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الاشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً

Copyright © 2017 Al Eshraq TV all rights reserved Created by AVESTA GROUP