واشنطن تستّرت على إصابات "عين الأسد".. الأسباب ليست فقط سياسيّة!
جواكين فلوريس | كاتب أمريكي.
كشفت مصادر حكومية أميركية أن أكثر من 100 جندي أميركي قد أصيبوا في ردِّ إيران "المحسوب" في 8 كانون الأول/ يناير الماضي، على اغتيال الفريق قاسم سليماني، قائد "قوة القدس" في "حرس الثورة" الإيراني. لكن استمرار الإعلان عن إصابات، تتوافق مع طريقة الولايات المتحدة للتستر على القتلى في ساحة المعركة.
وتضاعف عدد المصابين بأكثر من ثلاثة أو أربعة أضعاف عن التقارير الأولية التي كان الرقم فيها أقل من 30 مصاباً. وعلى عكس الإعلامَين الإيراني والعراقي، لم يبلّغ الإعلام الأميركي في البداية عن وقوع إصابات على الإطلاق. ومع ذلك، سارع الإعلام في المنطقة إلى الإبلاغ عن وقوع إصابات، وحتى عن وفيات.
وبشأن الوفيات، قد تكون التقارير المحليّة التي حددت أن جنوداً أميركيين قد قتلوا، دقيقة بعد كل شيء. ومن المهم أن نذكر، أن وسائل الإعلام المحلية (وسائل الإعلام في منطقة الشرق الأوسط) قد ذكرت بدقة أن هناك إصابات قبل أن تنشر ذلك الحكومة الأميركية، أو وسائل الإعلام الأميركية.
وورد حينها أنه تم نقل الجنود الأميركيين، أولاً إلى الكويت، ثم إلى ألمانيا، وكان ذلك دقيقاً أيضاً. وهذا يعني أن وسائل الإعلام المحلية لم تقدم تقارير دقيقة عن حقيقة الإصابات فحسب، بل إنها كانت خطيرة لدرجة كشفِها أنه تم نقل عدد من الجنود إلى ألمانيا. كما ذكرت وسائل الإعلام المحلية أن هناك حالات وفاة، نفتها الحكومة ووسائل الإعلام الأميركية.
وحقيقة أن بعض الجنود قد نُقلوا إلى ألمانيا (نظراً لأن الكويت يمكن أن تعالج إصابات الدماغ الصادمة الخفيفة من دون صعوبات)، تشير إلى أن هؤلاء الجنود قد أصيبوا بجروح خطيرة. لكن نوع الإصابات وكيف تم رفض تقارير الوفيات، قد يكشفان أن جنوداً أميركيين قد قتلوا في الهجوم الإيراني.
صنفت الولايات المتحدة هذه الإصابات بأنها "ارتجاجات في الدماغ"، وهذا مهم للغاية، في فهم ما قد حدث بالفعل أثناء الهجوم على القاعدة الجوية.
لقد قللت الولايات المتحدة كالعادة من الإصابات، ولم تبلّغ عنها، وكذلك عن الوفيات. وإذا بحثنا على موقع "غوغل" باللغة الإنجليزية "الولايات المتحدة تخفي خسائر الحرب" (US hides war casualties) سنكتشف العديد من المقالات الإخبارية الأميركية من مصادر رئيسية، مثل صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية، والتي توضح بالتفصيل كيف تفعل الولايات المتحدة ذلك بالضبط.
تُعد "ارتجاجات الدماغ المؤلمة" أحد الأسباب الرئيسية للوفاة بين الجنود الأمريكيين. حوالى 30٪ من جميع القتلى العسكريين المتوفين بسبب القتال، ناتجة عن "ارتجاجات الدماغ المؤلمة".
وكانت الولايات المتحدة تغطّي على الطريقة التي مات بها جنودها، لأسباب عدة، وهذه الأسباب هي في الأساس سياسية. في حين أن العديد من الأميركيين يحبون فكرة أن تبدأ حكومتهم بشن الحروب، إلا أنهم لا يريدون القتال إذا كانوا سيصابون بجروح خطيرة ووفيات.
وهناك سبب ثانوي يتعلق بالميزانية وكيف يتم تعويض عائلات المتوفين. إذا كان الجندي "مقتولاً أثناء القتال"، تكون عائلته مؤهلة لتقديم "نموذج DD Form 397"، وستحصل على 100000 دولار، أي ما يعادل متوسط الراتب لمدة ثلاث سنوات تقريباً في الولايات المتحدة.
بالإضافة إلى ذلك، إذا كان الجندي قد حصل على بوليصة التأمين على الحياة لمجموعة أعضاء الخدمة (SGLI) ، فإن دفع البوليصة يصل إلى 400،000 دولار.
ومع ذلك، إذا لم يمت الجندي أثناء القتال، لكنه نجا إلى حدِّ نقله إلى المستشفى وتوفي فيها، فهو لا يعتبر "مقتولاً أثناء القتال" KIA ، ولا يتأهل للحصول على مدفوعاته الخاصة. بدلاً من ذلك، فهو يعتبر "توفي تأثراً بجروحه" died of wounds) DOW). لذلك، لدى كل من الجيش وشركة التأمين حافز قوي للغاية لتحويل أكبر عدد ممكن من "القتلى أثناء القتال" إلى "متوفين تأثراً بجروحهم".
تتمثل الطريقة الأساسية لتغيير "المقتول أثناء القتال" KIA إلى "متوفٍ تأثراً بجروحه" DOW في إبقاء الجندي على قيد الحياة بما يكفي للوصول إلى المستشفى أو غرفة الفرز في الطوارئ.
وما سهّل هذا التستر، هو التغييرات في التكنولوجيا، مع أنظمة الإنعاش المصطنعة، فمن الممكن إبقاء الجندي "حياً" قانونياً من خلال أنظمة "دعم الحياة" عالية التقنية. وعلى الرغم من أن هذه الأنظمة كانت موجودة منذ نصف قرن، إلا أنها في العقود الأخيرة أصبحت أصغر حجماً وممكن تركيبها في طائرات الهليكوبتر الطبية وسيارات الإسعاف.
لكن قصتنا تزداد سوءاً، فعلى الرغم من أن "المتوفي تأثراً بجروحه" DOW قد لا يكون مؤهلاً لنوع الدفعات التي يتلقاها "المقتول أثناء القتال"، فإنه لا يزال يتم تسجيل وفاتهم كجزء من إحصائية شاملة إذا ماتوا بينما لا يزالون مسجلين كجنود. ونظراً لأن أنظمة الإنعاش يمكن أن تبقي قلب الشخص والأعضاء الحيوية الأخرى تعمل، على الرغم من موت الدماغ (هناك حتى تقارير عن وجود جنود بلا رأس موضوعين على أنظمة الإنعاش)، ولأن الحياة القانونية في الولايات المتحدة تعتمد على نبضات القلب وليس نشاط الدماغ، فلدى الجيش الأميركي ثغرة لاستغلالها.
ويمكن إخراج جندي مصاب من الجيش، ثم يتم نقله إلى سلطة إدارة "المحاربين القدامى". ولدى وزارة "شؤون المحاربين القدامى" شبكتها الخاصة من المستشفيات، وميزانية لعلاج "المحاربين القدامى" الأميركيين. ومع ذلك، إذا كان الجندي في حالة غيبوبة بسبب "ارتجاج دماغي مؤلم"، أو موت في المخ (وما إلى ذلك)، وبعد ذلك قرر أطباء" المحاربين القدامى" فصله عن أنظمة الإنعاش، قد لا يتم تسجيل ذلك بتاتاً على أنه متعلق بالصراع العسكري. وقد لا يعتبر "المحاربون القدامى" الذين يموتون بعد خروجهم من الخدمة كـ"متوفين متأثرين بجروحهم".
في حين أن تعبير "الارتجاج الدماغي المؤلم" TBI قد يكون بسيطاً أو كبيراً، إلا أنه وصف واسع جداً وعام. فكل شيء من ارتجاج طفيف إلى موت الدماغ الكلي يقع ضمن فئة "الارتجاج الدماغي المؤلم" TBI.
ماذا يعني كل ذلك؟
لو قتل جنود أميركيون في الهجوم على قاعدة "عين الأسد"، لما سمعنا عن ذلك إلا إذا أراد الجيش الأميركي التصعيد أكثر مع إيران. خلاف هذا، فإن الحوافز السياسية والمالية للإبلاغ عن هؤلاء القتلى كبيرة للغاية.
وبالنظر إلى أن "الارتجاج الدماغي المؤلم" TBI هو بالتحديد التشخيص الذي يتم في أغلب الأحيان للجنود المصابين إصابات قاتلة للأسباب التي أوضحناها، ونظراً للحساسية السياسية لهذا الهجوم، هناك فرصة قوية للغاية أن يكون بالفعل عدد من الجنود الأميركيين - لجميع النوايا والأغراض – قد قتلوا خلال الهجوم على قاعدة "عين الأسد" الجوية.
إنها مسألة تكنولوجية فقط، حيث كان من الممكن إنعاش قلوب ضحايا الإصابات بأجهزة الصدمات الكهربائية، وإبقاؤهم على قيد الحياة في حالة غيبوبة حتى يمكن فصلهم فيما بعد. ومن المحتمل أن يكون البعض مسجلاً كـ"محاربين قدامى" في مستشفى للمحاربين القدامى حتى لا يتم تسجيلهم أيضاً كـ"متوفين متأثرين بجروحهم".
وإذا أخذنا كل ذلك بعين الاعتبار، فيبدو أن تقارير وسائل الإعلام المحلية في كل من إيران والعراق، بأن عدداً من الجنود الأميركيين قد قتلوا في الهجوم، تتمتع باحتمال كبير في أن تكون دقيقة.
*جواكين فلوريس هو باحث سياسي أميركي، تخرج من جامعة ولاية كاليفورنيا، ورئيس تحرير صحيفة "Fort Russ News"، ومدير مركز دراسات "التوفيق" في بلغراد. تم نشر تحليلاته السياسية والاجتماعية والجيوسياسية بعشرات اللغات على المستوى الدولي.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الاشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً