الواقعيّة الجديدة وصراع المفاهيم.
نقل الفيلسوف ويليام ديورانت في كتابه "مباهج الفلسفة" عن الفيلسوف الفرنسيّ فولتير قوله: "إذا شئتَ أن تحاورني، فلتحدِّد ألفاظك".
إنّ الأمم الناهضة هي تلك التي تولي المفاهيم والأفكار عنايةً فائقة، باعتبارها معقل التأثير في الذّات الإنسانية، وأحد أهم مقوّمات التنمية الاجتماعيّة، وأبرز محدّدات مساراتها. تسعى المجتمعات المتقدّمة جاهدةً لدعم أهل الفكر والمعرفة وتشجيعهم، وخصوصاً في مجالي التربية والتعليم، لتقديم أفضل المناهج والأساليب لبناء منظومة الوعي وتثبيت المفاهيم وحمايتها، بالاستعانة بركيزة ودعامة اسمها الوعي المفاهيمي، والَّتي يعتبرها الكثيرون نقطة الانطلاق والتقدّم نحو فضاء العلم والمعرفة.
والفهم في اللغة، كما أورده ابن منظور في "لسان العرب"، هو "معرفتك الشيء بالقلب". وقيل في المفهوم إنّه مجموع الصفات والخصائص الموضحة لمعنى كلّي، ويقابله الماصدق. لذلك، إنّ أيّ تواصل لغويّ بين البشريّة لا يمكن أن يتمّ إلّا من خلال استخدام المفاهيم، والحقيقة المفهوميّة تُغيّر بطبيعتها المُجريات والأحداث عن طريق إلغاء المسلّمات الواقعيّة المفروضة وتحويلها إلى مناهج تفسيريّة وفهميّة تحتاج إلى الجواب من أجل القبول، وإلّا فمصيرها الرّفض. يقول ابن حزم الأندلسي: "الأصل في كلِّ بلاءٍ وعماء وتخليط وفساد اختلاط الأسماء ووقوع اسم واحد على معانٍ كثيرة، فيخبر المخبِر بذلك الاسم، وهو يريد أحد المعاني التي تحته، فيحمله السامع على غير ذلك المعنى الذي أراد المخبِر، فيقع البلاء والإشكال".
من هنا، ندرك أهميّة تحديد معاني الألفاظ كمدخل لتحديد المفاهيم، ومن ثم الأفكار والرؤى، فالنزاع قد يحتدم ويشتدّ نتيجةً للخلاف حول فهم موضوع معيّن. ولو كانت المفاهيم ثابتة راسخة محدّدة، لاتّضحت الرؤية، ولعمّ السلام والوئام. إنّ القراءة الواعية لمعايير نهضة الأمم لا تنحصر عادةً بظواهر الأشياء، فالنتائج هي الأساس والمقياس، فليس مهماً زيادة عدد أساتذة المدارس أو الجامعات بمقدار ما نلمس ما يقابلها من جودةٍ في التعليم، ولا أهمية لجودة التعليم حين تكون عاجزةً عن بناء جيل يحمل الوعي ويثمّن الفكر.
تتباين المجتمعات وفقاً لإيمانها وثباتها على مفاهيمها التي تُحدِّد بوصلة مسيرها وتوحِّد أفكارها ومعتقداتها، والأمم التي لا تشوّه حقائق الأشياء وتغيّرها، وتُنمّي الوعي المفاهيمي لدى أفرادها، تردم بذلك هوّة الخلاف الفكريّ والطائفي.
وبخلاف ذلك، تتّسع الصراعات والنزاعات وتتعمّق، فترى مفردات زُوّرت، وكلمات وألفاظاً ابتُدِعت، فحُرّف المفهوم، وانحرف السّير، وسقطت المفاهيم، وتهاوت الأفكار، وتعمّق الخلاف، وبدأ الصراع.
إنَّ الخلط المفاهيمي والعشوائية في إطلاق المفردات، من دون مراعاة للطبيعة الزمانيّة والمكانيّة والظروف المحيطة بإطلاقها، سينتج منه تحريف وتشويه للمفاهيم.
وبحكم التأثير والتداخل المباشر بين المجال السياسيّ والمجال المجتمعيّ، يستطيع المراقب مشاهدة الأدوات السلطويّة وهي تقدّم خطابات سياسية، وتعتمد مفردات شديدة العمومية وذات أبعاد وتفسيرات فوضويّة، من أجل خلط الأوراق وتشويه الحقائق وتقديم مفاهيم معوّقة، الغاية منها إقناع الأفراد، ومن ثمّ تهميش الدور المحوريّ للمجتمع المدني، وبسط السيطرة السياسية على مفاصل المجتمع، مستعينةً بالإعلام السلطوي الَّذي يتولى مهمّة شرعنة تلك المفاهيم المستوردة وتقديمها إلى الجمهور على أنَّها حقائق ثابتة.
إذاً، إنَّ المفاهيم، شأنها شأن باقي الحقائق الوجودية، إن لم تُحصّن وتُنمّى، ستكون عرضةً للاستهداف من أجل التّحريف والتّزييف والاستخدام السلبي، أو حتى المحو والإزالة، والجهل والأميّة هما أكثر الحواضن استخداماً لتشويه المفاهيم وتضييع الفكر وتغييب الوعي وإقصاء العقل.
إنه صراعٌ يسعى من خلاله أهل الطّمع إلى قلب المعادلات، وتغيير المفاهيم، واختراق جميع المحظورات التي لا يجرؤ أحد على اختراقها، إلّا من استحمَّ بمستنقع العمالة، وارتوى من ماء آسن طافحٍ بالجهل والطمع، خالٍ من صفات الأخلاق والورع.
لقد شغلوا عامة الناس بالهوامش بعد أن أفرغوا عقولهم من المفاهيم الأصيلة واستبدلوا بها مفاهيم مشوّهة مختلَقة ومعطِّلة، فتعطّل النظام المعرفي، وهُدم المنهج في البناء الفكري، فكان الفرد أوّل الضحايا. لقد قطعوا ارتباطه بذاته وتاريخه وعقيدته ومبادئه، وبدأت المفاهيم والأفكار الدّخيلة تغزو فكره، ليتحوّل بعدها إلى إنسان غريب الأطوار، غريب عن نفسه وعن مجتمعه، لا تدري أمِن الأخيار هو أم من الأشرار!
يا لوقاحتهم! لقد أفقدوه هُويّته وانتماءه بعد أن ملأوا عقله بمفاهيم حزبيّة وعشائريّة، فتحوّل الوعي المفاهيمي والفكر الحضاري إلى وعي معوّق، غايته تأسيس أحزاب وتيّارات هدفها الصراعات والثروات.
واليوم، نرى الفكر الليبرالي يُجيّش الجيوش، ويغزو الديار، ويحمل مفاهيم جديدة تحت غطاء ما يُسمى بالواقعيّة، وهي منهج يُهدّد المنظومة المفاهيميّة، ويكتسح أروقة السياسة ومناهج التعليم والثّقافة، حتى بات الكثير من السياسيين والأكاديميين وبعض المثقفين يطبّلون لمفهوم الواقعيّة، ويضربون المفاهيم والثوابت بعرض الحائط، وباتت الواقعية السياسية هي المفهوم المسيطر، مستعينةً ومتذرّعةً بما يُسمّى بالمستجدّات والمتطلّبات، وهي لغات ومفردات جديدة تفرض واقعاً جديداً، يغيّر معادلات كثيرة، ويسحق ثوابت عديدة، فلا تكون القضية الفلسطينية هي المحور، ولا تكون الحريّة هي المصدر، ولا يكون الفكر هو المنبر. لقد نحروا المفاهيم الوطنيّة بسكين الواقعيّة وبأيدي سياسيي الواقعيّة الجدد.
لقد بدأ أبطال الواقعيّة الجديدة مسلسل الخداع باستغلال غفلة العامّة، وفتح ميدان للصّراع، وشنّ الحروب على أنصار المفاهيم الوطنية، متذرعين بأطروحات مستوردة عبر بوابات الغشّ والخداع، مطبّلين لمفاهيم دخيلة، كمسرحية مُتطلّبات الوضع الراهن، ومهزلة المصالح المشتركة، وأكذوبة العيش المشرك، وغيرها من خدع وفخاخ، القصد منها محو المفاهيم الأصيلة، وإفراغ الفكر، وسحق الذات الإنسانية.
وتبقى الأمم الحرّة هي تلك التي تتمسّك بموروثها الفكريّ والثقافيّ، وما قدّمه من مفاهيم مرتبطة بقيم التطور المجتمعي. هي أمم أبيّة لا تستجدي مفردات نمطيّة مؤدلجة بآراء ومفاهيم دخيلة، ولا تستوردها وتُردّدها، ولا تستعين بألفاظ ظنيّة تعتبرها ثوابت فكريّة وتسوّقها على أنّها مناهج حقيقيّة من أجل تطويع الإنسان وتركيعه، ومن ثم إسقاطه في العدميّة المطلقة وتمزيق نسيجه الاجتماعي.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الاشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً