مُسوَّدة "صفقة القرن" في أخطر مراحلها
يبدو أن طرح "مُسودَّة القرن" لن يكون قابلاً للنقاش بل للتنفيذ ومن دون اعتراض، فهي مُسودَّة إملاءات تحت النار.
لم يخفت صَخَب اللقاءات الأميركية مع قادة بعض النظام الرسمي بل شهدنا تكثيفاً لها في الأسابيع الأخيرة. ويبدو أن هذه اللقاءات قد وصلت إلى مُبتغاها بعد الإعلان عن مُسوَّدة "صفقة القرن" التي سُمّيت بـ"فلسطين الجديدة" وما حملته من إعلانٍ صريحٍ لتصفية القضية الفلسطينية وعودة اللاجئين.
المُدقّق في عناوين المُسودَّة وبنودها سيلحظ من دون عناء أن ما تمّ تداوله حول "صفقة القرن" لا يختلف من حيث المضمون عن المُسودَّة المُسرَّبة حديثاً والتي ستخضع حتماً لبعض التعديلات بعد أن يتمّ عرضها على السلطة الفلسطينية.
المُسودَّة تتحدَّث عن توقيع اتفاق ثلاثي بين كيان الاحتلال ومنظمة التحرير الفلسطينية وحماس، وتُقام "دولة" فلسطينية على أراضي الضفة الغربية يُطلَق عليها إسم "فلسطين الجديدة"، وذلك من دون المستوطنات الصهيونية القائمة، وتبقى المستوطنات تحت سيطرة كيان الاحتلال وتمتد حتى المستوطنات المعزولة، وهذا الأهم، أن المُسودَّة واضحة من دون لبس أن مساحة "فلسطين الجديدة" أقل من 11 بالمئة من أرض فلسطين التاريخية. وبالتالي نحن أمام مشروع "روابط قرى" جديد بلبوس مُغلَّف بديباجاتٍ سياسيةٍ "مُغرية" للبعض.
هذا يُعيدنا إلى طرح فكرة "روابط القرى" التي اقترحها الجنرال الصهيوني يغئال كرمون في العام 1976 وتلقّفها آنذاك مناحيم ميلسون مُسشار الشؤون العربية في الحاكمية العسكرية للضفة الغربية المحتلة. ومُجرَّد أن تطرح "المُسودَّة" في بندها الأول أن "فلسطين الجديدة" مُقيَّدة بمساحة مُحدَّدة، ستحمل بقيّة بنودها ما هو أخطر حول القدس التي ستبقى تحت السيطرة الصهيونية "القدس الشرقية" وسكانها تحت الحُكمين المدني والعسكري الصهيونيين، مع صلاحيات طفيفة للدولة "الجديدة" في متابعة الشؤون الإدارية "للسكان" الفلسطينيين، أي ألا اعتراف أنهم مواطنون فلسطينيون بل هم سكان للقدس.
وتذكر "المُسودَّة" أن الأغوار ستبقى تحت السيطرة الصهيونية مع نقل الإشراف على المُقدَّسات للمملكة السعودية، ومَن يموِّل هذا المشروع بعض الدول الخليجية والولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي.
وبالنسبة إلى غزَّة تشير الوثيقة إلى أن مشاريع اقتصادية ستنفّذ مع مصر تكون فيها سيناء المؤهَّلة للاستثمار الاقتصادي للتخفيف من الأعباء الحياتية للفلسطينيين في القطاع. وتدخل في هذا الاستثمار إقامة مناطق حرَّة بين غزَّة ومصر.
من دون الولوج في التفاصيل الكثيرة التي تطرحها المُسودَّة حول إقامة مطار في الضفة الغربية وشقّ طريق بين غزَّة والضفة المحتلة، فإن المطلوب من حكومة "فلسطين الجديدة" نزع سلاح المقاومة في غزَّة.
نحن إذاً أمام مشروع يستهدف قضية فلسطين وحق ثمانية ملايين لاجئ، وعليه فإن الاستحقاقات المطلوبة يجب أن تنفّذها الأطراف التي تذكرها المُسودَّة وكل مَن يرفض سيكون تحت نار الاحتلال.
يبدو أن طرح "مُسودَّة القرن" لن يكون قابلاً للنقاش بل للتنفيذ ومن دون اعتراض، فهي مُسودَّة إملاءات تحت النار. وتضع الشروط التي لن يتنازل عنها الاحتلال في حوارات "مُفترَضة" ستعقب عرضها على السلطة الفلسطينية وحركة حماس أو الأردن.
أن تُطرَح "مُسودَّة القرن" في هذا التوقيت بالذات فإن ذلك يحمل دلالات تشير إلى أطواق النجاة التي يرميها الرئيس الأميركي دونالد ترامب لشريكه بنيامين نتياهو، وخاصة بعد الفشل في تشكيل الحكومة والذهاب إلى انتخابات كنيست ثالثة. وفي السياق ذاته يحثّ الرئيس ترامب الخُطى نحو فترة رئاسية ثانية يبدأ فيها السباق مطلع العام 2020. ويصبّ في مجراها ما حملته تصريحاته الأخيرة أن العلاقات مع كيان الاحتلال في أعلى درجات التحالف. وهذا ما أكَّد عليه وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو في لقائه الأخير في "لشبونة" مع رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو. فالتنسيق حول "صفقة القرن" مُتواصِل أيضاً مع بعض أقطاب النظام الرسمي العربي الذي يفتح بواباته لكيان الاحتلال ويُجاهِر أن العلاقات معه تسير في طُرُق سالكة ومناخات تطبيعية على كافة المستويات الاقتصادية والسياسية.
ولا يعني عدم التصريح من بعض الدول الخليجية حول مُسودَّة "صفقة القرن" أنها ترفضها، بل يمكن قراءة ذلك أنه الصمت المشارك والمُتَمظِهر في تمويل الصفقة وهذا يصرّح به بشكل علني وفق ما تم التوافق عليه مع جاريد كوشنير مُستشار الرئيس الأميركي في ورشة البحرين الاقتصادية.
إذاً لم يخفت صخب "صفقة القرن"، وهي المُتأصّلة في العقلية السياسية الأميركية، وفي الممارسات الصهيونية اليومية لتهويد الأرض. والوقائع اليومية تقول أكثر مما هو مُتداوَل حيث وصل عدد المستوطنات في الضفة الغربية والقدس المُحتلتين إلى 514 مستوطنة.
على نارٍ ساخِنة تسرَّبت "مُسودَّة القرن" وذلك ليس لجسّ النبض إنما للشروع في تنفيذها في مناخٍ رسميـ عربي لا يلتفت إلى أن واقع القدس والضفة الغربية المحتلة في انتهاكٍ يومي وتشريد واعتقال، وممارسات غاية في العنصرية في أرضنا التاريخية المحتلة عام 1948 وكذلك مواصلة حصار قطاع غزَّة.
المطلوب ومن دون شعارات وضوضاء، البحث عن مشروع فلسطيني جامِع، يستند إلى التأصيل الوطني الذي لم يغب عن شباب فلسطين. فالكل مُهدَّد بالإبادة الجماعية، وإسدال الستارة على قضية شعب هُجِّر من أرضه قبل 72 عاماً. والتأصيل هنا في إدامة الصراع والمواجهة وليس البحث عن أشكال الحُكم والأرض تُسرَق من تحت أقدامنا.
المطلوب أن نقف بجدية ومسؤولية أمام سؤال المواجهة التي لم تتراجع رغم كل الإرهاب الصهيوني. وسجّلت فلسطين بأحرفٍ من دم أن شبابها الذين ولِدوا بعد اتفاق "أوسلو" لم يتخّلوا عن ذرّة تراب.
فلسطين الجديدة التي تعرف هي 27,7 ألف كيلو متر مربع.