في ضوء المؤتمر الفكري الاسلامي الثاني بالموصل ..علماء الاسلام ومفكروه ومسؤولية محاربة التطرف والتكفير
مرت الامة الاسلامية خلال فترة العقدين الاخيرين بمنعطفات حادة ومتشعبة أصابت المشروع الاسلامي الوحدوي بالعديد من الثغرات وأربكت الى حدّ ما بعض المكاسب والاطروحات التي حققتها مؤتمرات التقريب بين المذاهب الاسلامية الاقليمية منها والدولية .
فبموازاة الجهود الخيرة لعلماء الاسلام ومفكريه التي انصبت على اولوية جسر الفواصل والهوّات في ما بين بني امةالرسول الاكرم محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من اتباع مختلف المذاهب الاسلامية وإلغاء لغة الإقصاء والمحاكمة بشأن مصائر عباد الله بالدنيا والآخرة ، كانت كواليس الجماعات الظلامية اللصيقة بمخططات الاستكبار الصهيوني الغربي ، تنفث سمومها في نسائم الأخوّة والتضامن والتراحم والاُلفة السائدة منذ القدم بين أبناء الامة الاسلامية .
لقد عطّل ظهور أشكال التطرف والتكفيرية والجماعات الارهابية المسلحة التي تقمصت لبوس الدين ، المنجزات والمكاسب التي تضافرت مع بعضها البعض وأثمرت عن نتائج باهرة على مستوى تعزيز هيبة المسلمين والعرب أمام أنظار العالم ، ومن ذلك انتصار حزب الله والمقاومة الاسلامية اللبنانية على الجيش الصهيوني في حرب تموز التي استمرت ٣٣ يوماً عام ٢٠٠٦ ، وصمود المجاهدين الفلسطينيين في قطاع غزة امام الاجتياح الاسرائيلي ووصول صواريخهم المزلزلة الى العمق الصهيوني عام ٢٠٠٨ .
هذان الحدثان شكّلا معا قفزة جبارة في المعادلات الاقليمية والعالمية لفائدة قوى المقاومة والممانعة بوجه التوسع الصهيوني والمشروع الاميركي العدواني في الشرق الأوسط بعد احتلال افغانستان (٢٠٠١) والعراق (٢٠٠٣) ، حيث لم تكن استراتيجيات الاستكبار العالمي وضعت في حسبانها تنامي قدرات المجاهدين والمقاومين اللبنانيين والفلسطينيين بهذه السرعة وتوجيههم ضربات قاصمة الى مواقع كانت الى عهد قريب خطاً احمر في المعادلات الاميركية والاوروبية والصهيونية.
وقد انتبه كلّ من الاستكبار والصهيونية الى العامل الذي بات يشكل الاخطر الأكبر على استراتيجياتها وتحركاتها المشبوهة ضمن ما يسمى بنظرية "الفوضى الخلاقة" ومشروع الشرق الاوسط الجديد .كان هذا العامل هو التفاف جماهير الامة الاسلامية حول مجاهديها وانتصاراتهم المدوية التي اخذت تقض مضاجع اميركا واسرائيل وحلفائهما الغربيين والاقليميين .
المؤكد بأن مؤتمرات الوحدة الاسلامية والتقريب بين المذاهب ، كانت قد تركت آثارها وبصماتها الكبيرة على توحيد الرؤى والتصورات والمواقف البينية واعطت قيما حضارية للمساعي والقرارات الوحدوية التي اتخذتها منذ تأسيس دار التقريب بين المذاهب في مصر خلال فترة الستينات وإنشاء المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الاسلامية في ايران عام ١٩٩١ .
القرارات التي كان لها ابعد الأثر لاحقاً في اعطاء مزيد من الزخم والاسناد والقوة للعمليات الجهادية البطولية على مستويي مقارعة الاحتلال الصهيوني الغاصب لفلسطين والقدس الشريف ، وتقويض لغة الغطرسة والاستكبار واستخدام العصا الغليظة التي اعتمدتها الادارة الاميركية في مخاطبة الدول والشعوب الاسلامية والعربية بعد غزو جيش الولايات المتحدة والجيوش الاطلسية دولتين عظيمتين هما افغانستان والعراق .
كان واضحا بأن تفجير العلاقات البينية الاسلامية - الاسلامية بتضخيم دور الاعلام الطائفي والضرب على وتر لغة المذهبية والتعصب والتطرف والتحريض والتباغض ، هو الردّ الارهابي البغيض الذي استخدمته الدوائر الاجنبية المعادية للثأر من التضامن الاسلامي والانتقام من انتصارات الامة المحمدية الكريمة على
إسرائيل واميركا في اكثر من موقع في المنطقة.
وبلحاظ ما جرى في نطاق ما سمي بثورات الربيع العربي التي اقعدت تونس ومزقت ليبيا واربكت مصر واحالت سوريا الى مرتع للارهابيين المهووسين بالتطرف والغزو وقطع الرؤوس وحرق الاهالي والسبي والتعبيد والتنكيل ، وما جرّ ذلك على الامة في ما بعد ، من ويلات وكوارث ومعارك أهلية طاحنة احرقت الاخضر واليابس في ربوعنا الجميلة والوادعة ، فإن الامة الاسلامية وبعد ثماني سنوات من ظهور الفتنة التكفيرية الكبرى واجتياحها مناطق شاسعة من سوريا والعراق ولبنان وسيناء مصر وانتشارها في افريقيا ومناطق غرب آسيا ، ومن ثم انحسارها بسرعة البرق جراء التصدي لها بحزم من قبل ابناء العراق ولبنان وسوريا الذين طاردوا عصابات داعش واشباهها وانزلوا بها الهزائم المتتالية ورموا بملفاتها الاجرامية الى مزبلة التاريخ لتكون عبرة لغيرها.
نقول انه وبعد كل هذا فإن شبح التطرف والحقد الطائفي وتكفير عباد الله ما يزال ماثلاً وهو لن يزول ابداً ما دامت الكتب الصفراء والقلوب العمياء والعقول الصماء حافلة بهذا الفكر ، الامر الذي يستدعي تحركاً جاداً من قبل علماء الامة ومفكريها دفعاً للفتن المستقبلية التي يمكن ان تجرّ المسلمين الى مواجهات بينية عقيمة ومفرطة بالارواح والممتلكات والامن والسلم الاهلي والتضامن والتراحم والتواصل في دول العالم الاسلامي كما حصل طيلة الفترة السوداء من تاريخنا المعاصر.
لا شك بأن المؤتمر الدولي الثاني عن ظاهرة التطرف الذي انقعد في محافظة نينوى بمبادرة كل من المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الاسلامية في العراق وجامعة الموصل والجامعة التقنية الشمالية وذلك تحت عنوان (التنوع الديني والقومي والتكامل المجتمعي) ، هو خير تحرك لرأب الصدع وتجاوز أخطاء ما قد حصل بسبب التراخي والخوف من الارهابيين .
فقد تحررت مدينة الموصل من خرافة داعش والعصابات التكفيرية وهي تستعيد عافيتها يوما بعد آخر بفضل التلاحم بين الشعب العراقي وقواته المسلحة من جيش وحشد شعبي وقوى أمنية ، وها هي تحتضن مؤتمرا اسلامياً دوليا يراجع فيه العلماء والمفكرون والاكاديميون حساباتهم بعد استعراض التجارب المريرة التي انتكست بها الامة الاسلامية في الكثير من بلدانها.
ولا بد من التأكيد هنا على ان عقد مثل هذا المؤتمر الدولي بعد اندحار قوى الظلام وحماتهم من العراق وسوريا ، يعد فرصة جوهرية لأعادة مسار الامة الى سكة الصواب والمضي قدماً في ذات الاتجاه الذي بدأهُ اخوة الاسلام الخيرون من السنة والشيعة منذ الستينات ، ولم يتراجعوا عنه قط حتى يومنا هذا حفاظا على وحدة الصف الاسلامي التي هي من اوجب الواجبات في راهننا المعاصر.
ملاحظة/ المقال يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة يعبر عن رأي المؤسسة.