قال "إنّ الله يأتي بالشمس من المشرق"
السائرون اليوم في ركب الامبراطوريات الآفلة وممثلها الأساسي في المنطقة الكيان الصهيوني سوف يواجهون حائطاً مسدوداً، وسوف يعلمون عاجلاً أو آجلاً أنّهم سائرون وراء سراب.
ما يحدث في عالم اليوم جدير بوقفة جديّة لمقارنة ما يحدث في المشرق وما يحدث في المغرب وما بينهما. كما أنّه جدير بالتمييز بين دراسة الأعراض وتمظهر الأحداث الارتدادية والانعكاسية مقارنة مع الأحداث الفعلية التي تصيغ أسس عالم جديد واستراتيجيات وشراكات جوهرية سيكون لها دورها الفعّال في تشكيل عالم المستقبل الذي سيعيشه الأولاد والأحفاد.
ما يجري في الغرب اليوم من حوارات ومناكفات سواء ضمن النظام السياسي الواحد كما يجري في الولايات المتحدة مثلاً، أو عبر المحيط (العلاقة بينها وبين أوروبا) أو علاقتها بالعالم من الصين إلى فنزويلا وإيران والخليج والكيان الصهيوني، كلّها أعراض لتدهور امبراطورية كانت تعتبر نموذجاً للعالم لكنّها اليوم آخذة في التفكك السياسي والأخلاقي، كما نرى مؤشرات ضعفها الاقتصادي المقبل والناجم عن التوسع العسكري الاستعماري، ومن التفوّق الحتمي الذي تؤسس له الصين وبلدان أخرى بهدوء وذكاء شديدين. ويبقى عامل القوة الوحيد لهذه الإمبراطورية تفوّقها العسكري الذي يثقل كاهلها بإنفاق موارد هائلة من دون مردود يذكر، إلّا اللهم ابتزاز السعودية ودول الخليج واستجرار أموالها، وهذا التفوق لن تتمكن من استثماره لتغيير موازين القوى بعد اليوم ولاسيما أنّ معظم شعوب الأرض أتقنت أدوات تحصين الذات ورفع مناعة بلدانها في وجه أسلوب الاختراقات المخابراتية الذي اتبعته هذه الإمبراطورية منهجاً وسبيلاً لتحقيق أهدافها بأقلّ الخسائر الممكنة. أمّا الاتحاد الأوروبي الذي كان ينظر إليه على أنّه ثاني قوّة سياسية واقتصادية بعد الولايات المتحدة، والذي شكّلت شراكته مع الولايات المتحدة فرصة لهما لنهب ثروات شعوب الدول النامية تحت مسميّات الحرية والديمقراطية ونشر أساليب الحكم الليبرالية في أفريقيا وآسيا، فهو آخذ في التآكل من الداخل.
لعلّ القول اليوم إنّ هذا العالم الغربي بجناحيه عبر المحيط دخل في مرحلة أفول تدريجية حقيقية هو دقيق، وإنّ كلّ محاولات ابتزازه لأموال الآخرين وثرواتهم تأتي في محاولة يائسة لإنقاذ هذا النظام وحقنه بأكسير حياة جديد. ومن هنا أيضاً تأتي الحرب الخاسرة التي يشنّها ترامب مع الصين في المجالات التقنية والاقتصادية التي يمكن إدراجها في باب المكابرة والمحاولات اليائسة، بدلاً من اعتبارها جديّة أو انها قد تؤدي إلى نتائج غير متوقعة. في مقابل هذه المظاهر الحقيقية لأفول الإمبراطورية الغربية، يتمّ تأسيس استراتيجيات وآليات عمل وشراكات مرشحة من دون شكّ ليس لبزوغ حقبة جديدة بين روسيا والصين فقط، وإنّما لولادة عالم جديد مختلف نوعياً عن العالم الذي عاصرناه منذ نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن الواحد والعشرين. والقمة الروسية التي عقدت أخيراً في روسيا وتبعها أيضاً انعقاد "منتدى سان بطرسبورغ الاقتصادي الدولي لعام 2019، والذي حضره الزعيم الصيني أيضاً، لم تكن ذات أهمية للبلدين المعنيين فقط وإنّما لمستقبل البشرية.
إنّ لغة الجسد بين الرئيسين بوتين وشي جينبنع تقول إنّ واثق الخطوة يمشي ملكاً، والتعبير غير المسبوق عن الصداقة بين الرئيسين والمستوى الهام والمتميّز الذي وصلت إليه العلاقات بين البلدين تجاوزت مؤشراته روسيا والصين، لنقرأ بين السطور ومن خلال ما تمّ إنجازه فعلاً، أنّ المرحلة الجديدة التي يتحدث عنها الرئيسان لا تعني روسيا والصين ،وإنّما هي مرحلة جديدة للعالم بأسره . والحكماء في العالم هم هؤلاء الذين يلتقطون هذا المؤشر ويستغلون هذه اللحظة لينضموا إلى شراكة استراتيجية سوف تغيّر وجه وطبيعة العالم في العقدين المقبلين. فقد وقّعت شركة "هواوي" الصينية التي تخوض الولايات المتحدة ضدها حرباً شرسة، اتفاقية مع شركة "MTS" الروسية لتطوير وإطلاق شبكات الجيل الخامس من الانترنت "5G" في روسيا وقد جرى توقيع الاتفاقية في حفل حضره الرئيسان. كما وافق صندوق الاستثمارات المباشرة الروسي وشركة الاستثمار الصينية على استثمار مليار دولار في إنشاء صندوق ابتكاري علمي وتقني روسي- صيني ، سيساعد على توسيع نطاق التعاون بين البلدين، كما ستسهم أنشطته بشكل كبير في تطوير وتنفيذ أحدث التقنيات والحلول لتطوير اقتصادات بلداننا وتعزيز الشراكة بين البلدين. وقد تمّ منذ عام 2012 حين أنشئ هذا الصندوق استثمار أكثر من 7 مليارات دولار في أكثر من 30 مشروعاً. كما أكّد سفير روسيا الاتحادية لدى بكين اندريه دينسوف أنّ الحرب التجارية الأميركية ضد الصين تجعل مسألة الانتقال إلى التعامل بالعملات الوطنية بين روسيا والصين أكثر إلحاحاً. حين تأزف تلك الساعة وتبدأ الصين وروسيا بالتعامل بالعملات المحلية بدلاً من الدولار، سيكون لهذا عواقب وخيمة على الدولار.
في هذه الأثناء وفي غمرة كلّ هذه الخطوات الأساسية والهامة جداً، أرسلت الصين قمرين صناعيين للتجارب التكنولوجية وخمسة أقمار صناعية تجارية إلى الفضاء. ويعدّ الصاروخ الحامل لونغ مارش 11 الذي طوّرته الأكاديمية الصينية لتكنولوجيا إطلاق المركبات، الصاروخ الوحيد الذي يستخدم الوقود الدفعي الصلب ويمكنه أخذ أقمار صناعية متعددة إلى المدار في الوقت نفسه. إذاً ما تقوم به الصين سواء لوحدها أو بالشراكة مع روسيا ،هو أن تعمل على ردم هوة الاختراع والابتكار التي تفصلها عن الولايات المتحدة ـ، وتؤسس لآليات عمل واختراعات تقنية وتكنولوجية تجعل من الإبداع هدفاً أساسياً، إذ لا تقدّم من دون اختراع وابتكار كما قال الرئيس الصيني في قمة "حزام واحد طريق واحد" التي عقدت في بكين في نيسان الماضي.
إذاً، نحن اليوم أمام شمس جديدة تشرق من المشرق، شمس تؤسس لعالم مستقبلي لا مكان فيه للابتزاز أو الهيمنة، بل كلّ المكان للشراكات والصداقة والتعاون واحترام استقلال وسيادة الدول واعتبار البشرية فعلاً أسرة واحدة يزيدها التفاعل البنّاء بين أبنائها ألقاً وازدهاراً وتطوراً.
السائرون اليوم في ركب الامبراطوريات الآفلة وممثلها الأساسي في المنطقة الكيان الصهيوني سوف يواجهون حائطاً مسدوداً، وسوف يعلمون عاجلاً أو آجلاً أنّهم سائرون وراء سراب. أمّا المؤمنون بأوطانهم وشعوبهم والدفاع عنها مهما بلغ الثمن وتحصينها والصبر والصمود في وجه آخر رياح الهيمنة والاستعمار والاستيطان، فيرثون الأرض وما عليها ويبنون مستقبلاً يفخر به الأولاد والأحفاد ويعملون على الاستمرار في بنائه وتعزيزه. لا شكّ اليوم في أنّنا نعيش مرحلة مذهلة من التغيرات، ورغم صعوبتها هي تشكّل فرصة نادرة لكلّ المخلصين والصادقين كي ينفضوا عن كاهلهم غبار الخوف والضعف، وينطلقوا بكلّ ما آتاهم الله من قوّة ليكونوا عنصراً فاعلاً في هذا العالم الجديد الذي نشهد ولادته وإشراقته من الشرق، لنحقق كلّ ما ناضل من أجله الشرفاء من شهداء وجرحى وأسرى ومقاومين آمنوا بالدفاع عن الحق وبذل أنفسهم في سبيله.
ملاحظة/ المقال يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة يعبر عن رأي المؤسسة.