مؤتمرا مكّة اللذان نريدهما
لا بدّ من أن يكون كل معتزّ بانتمائه الحضاري العربي والإسلامي قلقاً على ما يجري في منطقتنا من حروب وفوضى تتهدّد بلداننا بالفشل والتفكيك . في هذا الصَدَد ينظر العديد من المراقبين والمُهتمين بتوتّرٍ إلى ما قد يُسفِر عن المؤتمرين المزمع عقدهما في مكّة، واحد يضمّ دول الخليج والثاني يضمّ الدول العربية، لبحث التطوّرات الراهنة في المنطقة العربية.
عقد مثل هذه اللقاءات مطلوب في هذه المرحلة الدقيقة التي تمرّ فيها المنطقة، لكن بجدول أعمال يستهدف إقرار مُصالحة شاملة بين مختلف أقطار المنطقة لدعم أواصر الصداقة و حُسن الجوار بين شعوبها ودولها ، وإنهاء حال الحرب وجعل حد للتوتّرات . فمنطقتنا العربية والإسلامية من المغرب إلى باكستان مُحاصرَة بتحديات وإكراهات وأزمات خطيرة ومُدمّرة ، ومُرشّحة للمزيد من الاستفحال، و قد تأتي على الأخضر واليابس إذا لم يُحسن قادتنا التصرّف إزاءها . والمطلوب اليوم إعادة التفكير وإعمال العقل لإبداع مُقاربات جديدة تساعد على تجاوز الصعاب والمشاكل ، ولكي لا نعيد إنتاج الطُرُق التي تمّت فيها مُقاربة هذه التحديات والإكراهات والأزمات طيلة الأربعين سنة الأخيرة و لم نجن منها سوى الدمار والحروب وهدر الطاقات والأموال وعدم الاستقرار والنزاعات البينية .
نعم مسار منطقتنا منذ بداية الثمانينات من القرن الماضي يُحاكي بدرجةٍ كبيرةٍ ما جرى في الغرب وتحديداً في أوروبا من حروبٍ أهلية ودينيةٍ وطائفيةٍ وسياسيةٍ وصراعات نفوذ ومصالح ، توِّجت بحربين عالميتين دمّرتا أوروبا وقتلتا أزيد من سبعين مليون شخص وأضعاف مضاعفة من هذا العدد من الجرحى . و لا بد من أن نأخذ الدرس والعِبَر من أمم أخرى سبقتنا إلى مثل هذا الطريق الذي تسلكه اليوم العديد من أنظمتنا: طريق الصراع والتحارُب ، وانتهى الأمر بهذه الأمم بعد كل المآسي والكوارث بالجلوس إلى طاولة المفاوضات والبحث عن بديلٍ للحروب والنزاعات .
اليوم عوض تجييش جيوش القتل والدمار وعقد تحالفات لشنّ الحروب التي لا فائدة منها ، بل قد تؤدّي إلى نهاية عدد من الأنظمة كما كانت الحربان العالميتان سبباً لنهاية العديد من الإمبراطوريات والأنظمة ، لماذا لا نجيّش الخبراء والعلماء والمفكّرين لمشروع نهضة وإقلاع تنموي شبيه بمشروع مارشال في منطقتنا ، مشروع تلعب فيه أموال الرَيْع النفطي الخليجي والكفاءات العلمية عند الإيرانيين والأتراك والباكستانيين دوراً في نهضة اقتصادية وعلمية تعود بالنفع على كل المنطقة ؟ .
مشكلة العرب اليوم أنهم لا يتوافرون على مشروع حضاري يُحدّد بوصلتهم ويوجّهها بشكلٍ صحيحٍ ، وهم أيضاً من دون إستراتيجية . وطبيعي أن يكون مَن لا يتوافر على هكذا مشروع ومن دون إستراتيجية في مأزق بل يصبح أداة في مشاريع واستراتيجيات الآخرين ، وقد يكونوا أعداء حضاريين كالاستعمار والصهاينة. قوة إيران وتركيا تكمن في أن كلا البلدين يمتلك مشروعه الحضاري ويتحرّك ضمن إستراتيجية محدّدة وله تصوّر لما يجب أن تكون عليه المنطقة والدور الذي يتطلّع للعبه فيها ، في حين أن الدول العربية تعطي انطباعاً على أنها تائهة وغالباً ما تدخل في صراع مع هذه المشاريع التي ترى فيها استهدافاً لها .
مشكلة السعودية التي دعت لهذين المؤتمرين أنها تعاني اليوم من فقدان المصداقية في العالم العربي والإسلامي بالرغم من كونها دولة وازِنة على الصعيد الدولي والعربي الإسلامي ، ووجود الحَرَمين الشريفين أهَّلها لأن تكون في الماضي القريب دولة مرجعية لكثير من المسلمين السنّة ، كما إيران دولة مرجعية لعددٍ كبيرٍ من المسلمين الشيعة . لكن صورة السعودية قد اهتزّت بشكلٍ كبيرٍ في السنوات الأخيرة نتيجة مواقف واصطفافات مُثيرة للقلق ، كالدور الذي لعبته في احتلال أميركا للعراق ومساهمتها في إسقاط الشرعية في مصر و اليمن قبل أن تشنّ حرباً ظالمة على الحوثيين ، فتسبّبت في الكثير من المآسي في هذا البلد بإسم دعم الشرعية التي حاربتها من قبل ، وحصار قطر والموقف من الصراع في سوريا وليبيا واستعداء إيران والتحريض الغربي بقيادة أميركا لشنّ الحرب ضدّها والتطبيع مع الكيان الصهيوني ، بل العمل معه من أجل تصفية القضية الفلسطينية في صفقة القرن المشبوهة وشنّ الحرب الإعلامية ضد المقاومة الفلسطينية المُتمثّلة في حماس والجهاد الإسلامي وحزب الله ، وقبول الابتزاز من ترامب والسكوت عن تعامله الأخرق الفاقِد للياقة والأدب والمُنتهِك لكل الأعراف الدبلوماسية في تعامله مع القيادات السعودية، واغتيال الصحافي السعودي جمال خاشجقجي وتقطيع جثته، واعتقال دُعاة وعلماء ونشطاء معروفين بوسطيّتهم وسلميّتهم ، و اعتقال حقوقيين وحقوقيات وإصدار أحكام قاسية في حق بعضهم وصلت إلى الإعدام بعد محاكمات مثيرة للجدل والقلق ومطعون في نزاهتها الخ .
السعودية في حاجة ماسّة إلى استرجاع مكانتها الاعتبارية في العالم العربي والإسلامي عبر استدراك الأخطاء وتصحيحها . وكان حلمي و أملي أن يكون هذان المؤتمران على الأقل مناسبة لإطلاق آلية لخدمة هذا الهدف و لتصحيح المسار وإعادة توجيه البوصلة في الاتجاه الصحيح بعيداً عن الاستقطاب الاستعماري الأميركي والصهيوني لإقرار السلم والنهوض بالمنطقة ومواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية والسياسية فيها . ومناسبة لإطلاق حوار حول المشروع الحضاري العربي الإسلامي يؤهّلنا لنكون أمّة شاهِدة على العصر وعلى الناس .
ملاحظة/ المقال يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة يعبر عن رأي المؤسسة.