صفقة القرن: تسابق في مارثون المقصلة
تتعالى الأصوات مُندِّدةً بـ"صفقة القرن" وتزدحم الشاشات بالبرامج الحوارية.. ويكاد ينقطع النفس في تعداد مخاطرها وأوديتها السحيقة التي يشخّصها المندّدون والشاجبون، ولكثرة الخطوات وتسارعها على "جبهة" الداعمين للصفقة وما يُمهِّد لها من مؤتمرات اقتصادية وسياسية لم يعد هناك وقت لمعرفة أو تبيان متى يُعلَن عنها وفي أيّ مؤتمر سيُطلق حفل التدشين الفعلي، الذي لم ينتظره الرئيس الأميركي دونالد ترامب حين نقل السفارة الأميركية إلى القدس، مُنهياً عقوداً من "التريّث السياسي" للوصول إلى آخر حلقةٍ في الموقف الأميركي المُعلَن لتصفية قضية فلسطين وجوهرها حق عودة اللاجئين إلى وطنهم.
بداية ـ المسألة ليست متعلّقة أبداً باختلال موازين الصراع، فهي عبر عقود الصراع لم تكن إلا كذلك ـ ولا أن التفاوض مع السلطة الفلسطينية وصل إلى حائط مسدود بل كَرَّست عقود التفاوض نظرية الإحتلال الصهيوني أن لا شبراً واحداً إلاعبر قناة الاعتراف بالاحتلال كـ"دولة يهودية قومية"... ومَن قرأ بنود اتفاق أوسلو يُدرك ذلك. وفي نهاية المطاف بضع جزر معزولة ومقطّعة الأوصال وسيطرة كاملة على الأرض الفلسطينية في الضفة الغربية المحتلة وضمّ القدس بشطريها لتكن "عاصمة " لكيان الاحتلال.
القدس نعم في خطر وفلسطين بكل ذرّة تراب في خطر أكبرـ والصفقة لا تتحدّث عن ضم ّالضفة الغربية وعزل غزّة عن محيطها وضمّ القدس ، بل تذهب إلى محاولات خطيرة لشراء وأَسرَلة المجتمع الفلسطيني في أراضينا التاريخية عام 1948 بتمويلٍ خليجي ، وتوطين للفلسطينين في الأردن وفي دول عربية أخرى حيث ما تواجد الفلسطينيون ـ وترانسفير من المناطق السكانية في الجليل ـ أمّ الفحم ـ نموذجاً. وهذا يترافق مع ضغوط أميركية لإنهاء وكالة غوث وتشغيل اللاجئين وشطب كل القرارات الدولية المتعلّقة التي تنصّ على عودة الفلسطينيين إلى أرضهم وفق حيثيات القرار الأممي رقم 194.
المراجعة السريعة للحركة الدبلوماسية والسياسية الأميركية في المنطقة تقول منذ أن تولّى دونالد ترامب مقاليد الرئاسة ، وضع على طاولات البيت الأبيض مع فريقه جوريد كوشنير وغرنبيلت والسفير الأميركي في الكيان الصهيوني فريدمان ، "ملف" فلسطين وهذا ما صرَّح به لصحيفة "إسرائيل اليوم" أثناء حملته الانتخابية أن الخطوات القادمة ستكون فاعِلة لدعم كيان الاغتصاب ونقل السفارة إلى القدس ، وتهيئة مناخ رسمي عربي للاعتراف بكيان الاحتلال كدولةٍ يهوديةـ قومية. والضغط عبر كل الطرق المُتاحة لجعل السلطة في رام الله توافق على الشروط الصهيونية للعودة للمفاوضات. وهذا ما جُسِّد في الأداء الأميركي الذي ضَيّق الخناق على المساعدات الأميركية المشروطة للسلطة ، وبالتالي قطعها.. وإغلاق مكتب منظمة التحرير الفلسطينيية وتأييد ودعم المخطّطات الاستيطانية في القدس والضفة المحتلة ، تمهيداً لضمّهما والشروع في خطواتٍ فعليةٍ لإنهاء عمل الأونروا. ومكمن الخطر الكبير أن الطرح الأميركي لإنهاء قضية فلسطين ُينظَّم ويُخطَّط له مع النظام الخليجي الذي يشرف على إيجاد بدائل عربية و فلسطينية تدفع بعجلة الموافقة على الطرح الأميركي ، وهذا ما تؤكّده وبشكلٍ جزئي حوارات الكواليس الدبلوماسية العربية الصاخِبة والمُسرَّبة أن الخطة طارئة ومفاجئة وما فوق طاقة المواجهة لها ، كما تسرَّب من لقاءات وزراء الخارجية العرب نهاية العام المنصرم ، حيث طرح وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي أن صفقة القرن تُهدِّد الأردن ككيانٍ فردّ عليه الجُبير وزير خارجية السعودية آنذاك: ليس أمامنا إلا التعاطي معها ولا نمتلك أمكانية مواجهتها.
تتالت المواقف العربية الرسمية منها العلني والمُستتِر في ديباجات سياسية حول ضرورة الوصول إلى قاسم جامِع للتعامل مع الطروحات الأميركية ، فمرّرت وبعلانية هذه المرة أن المرحلة تحتاج إلى ليونة في قراءة المستجدات في ظل الاستعصاء للحلول السياسية ـ وهذا ما أطلقته المملكة السعودية على لسان مسؤوليها أن على الفلسطينيين القبول بالحل السياسي المطروح وفق تصريحات الأمير محمّد بن سلمان في جولته على بعض الولايات الأميركية قبل بضعة أشهر، ليصل أنه على الفلسطينيين القبول بالقوّة بالحل السياسي" كفاهم دلالاً"ـ وهذا يتضمّن إنهاء الملف الفلسطيني والقضية وفق طروحات الإدارة الأميركية ، أي الذهاب إلى أقل مما تضمّنته مبادرة قمّة بيروت 2002 التي / تصدّى لها الرئيس د.بشّار الأسد والرئيس اللبناني آنذاك إميل لحود/ أي التطبيع مع الاحتلال والتوطين والترانسفير وفتح سوق اقتصادي عربي بتمويل خليجي.هذا كله في سياق برنامج إغراءات مالية لأهلنا في أرضنا التاريخية عام1948. وصولاً إلى دفوعات مالية بالمليارات للأردن للتوطين ، وكذلك لمصر في سياق شراكة اقتصادية مع غزّة بعد فصلها عن محيطها الفلسطيني الجغرافي والسياسي والوطني ـ مع فتح أبواب الهجرة إلى بعض الدول الأوروبية التي يُتّفق معها. وأما القدس والضفة المحتلتان فهما في عين الهدف وتحت مقصلة التهويد التام للقدس وضمّ المستوطنات الكبرى في الضفة المحتلة. وفق خطة نهائية تمنح السلطة بعض القرى والمدن بعد تقطيع أوصالهاـ بما لا يصل إلى حُكم البلديات الذي طُرِحَ عام 1967 من قِبَل الوزيرإيغال آلون الذي روَّج لخطة ربط الفلسطينيين بالضفة المحتلة اقتصادياً وسياسياً بكيان الاحتلال ، وصولاً إلى تذويب الشخصية الكيانية الفلسطينية وجعلها مُمزّقة بلا انتماء وهوية.
ما يروَّج الآن لم يعد في الأدراج بل أصبح على الطاولة. والتسابُق بدأ للقمم الخليجية والإسلامية وورشة المنامة الاقتصادية التي ستستضيف قادة صهاينة ، كلها تشير إلى أن الخطر أصبح داهِماً ، وهذه المرة علانية ومن دون كواليس بشراكة مع نظام رسمي عربي قدَّم أوراق اعتماده لدى الكيان الصهيوني كي يمرّ عبر بوابته إلى واشنطن التي تُجاهِر بأنها تجني المال كي تُبقي العروش.
على ضفة المقاومة لم تتراجع البنادق ولا السواعد في الضفة وغزّة والقدس وفي أراضينا عام 48 ـ ومحور المقاومة ينتصر على الأرض... وفلسطين ليست شعاراً في المؤتمرات. المراهنة فقط وفقط على المقاومة وعلى شعب فلسطين والأحرار. المراهنة على الفعل في المواجهة التي لا تلتفت إلى المُنكسرين الداعين إلى تدجين المقاومة والمقاومين. الخطورة تكمن في المراهنة على أنظمة تلهث وراء التطبيع وفتح جبهات مع مَن بوصلته تجاه فلسطين. الخطورة في الانتظار لا الفعل... والخطورة في السكون وانتظار " المُنقِذ".
ما تذهب إليه أنظمة التطبيع مع كيان الاغتصاب لا يستهدف فلسطين.. بل يستهدف كل مَن يقف في مواجهة المشروع الأميركي والصهيوني في المنطقة.