الخليج والحلم الأميركي في مرحلة الإعصار السياسي
حروب أميركا تُقاس بالآلام ولها نصيب في هذه الآلام. حروب الإبادة الجماعية للأمم والشعوب هي إحدى السِمات البارزة في تاريخ أميركا ، وحروب الخسارة هي أيضاً مميّزات هذا التاريخ ، انتصرت أميركا على حساب الأطفال والنساء والشيوخ ، وخسرت لحساب المواقع والمبادئ والأديان ، وتراجعت في العراق وسوريا تحت ذلّ الهزيمة رغم التلويح بما تملكه من تقنيات العصر والسلاح النووي.
يبدو أن دويلات الخليج تسعى مع أميركا إلى حرب ضد إيران. !! والواضح تاريخياً وجغرافياً أن موقع إيران الجغرافي والعسكري لا يؤهِّل الجميع لحرب ضدّها، ربما يُلخِّص هذا الصراع الأميركي ــ الخليجي ضد إيران قول محمّد جواد ظريف: " على واشنطن أن تعلم أنها إذا أرادت دخول هرمز فعليها التحدّث إلى مَن يحمي هرمز وهو حرس الثورة".. صحيح أن الأمر في الفكر السياسي الأميركي أنت مُخيَّر بين ثلاثة مواقف ، إما أن تكون أميركياً سياسياً حامياً المصالح الأميركية حتى ولو كانت مِلكاً لك، وإما أن تكون حطّاباً في غابة الأمازون لأنك مُتخلّف ومن بقايا الهنود الحمر، وإما أن تكون مُتطرِّفاً إرهابياً لأنك مسلم وتؤمن بأرضك وشعبك. هذا الفكر هو المادة الرمادية لكل الساسة الأميركيين من عهد جون كنيدي إلى عهد بوش فأوباما إلى ترامب. لكن إيران وكوريا الشمالية رفضتا هذا التصنيف واختارتا لنفسيهما طريقاً وسط مُنعرجات المواقف السياسية لبعض أنظمة الحكم في الوطن العربي ولكونهما من أصل دول الشر بتوصيف أميركي فإنهما سلكتا طريقاً لا يرضي حتى الأنظمة العربية الخليجية ، ولا يرضي أيضاً الدولة التي تؤمِّن لهذه الأنظمة الحماية الكافية كي لا تسقط سلالياً وتعوّض بأنظمة تؤمن بالشعب وتعمل لصالحه .
زعيم كوريا الشمالية، كيم جونغ أون، ظاهرة تاريخية ربما تبدو لاصقة بالظروف والأحداث التي ظهر فيها صلاح الدين الأيوبي ، أو الإمام " شامل " في بلاد القوقاز، وقد يكون ظاهرة تنفرد بسِمات خاصة في التاريخ الحديث ، وأهمها المواجهة بالمُمكن والمُتاح ولو كانت طائرة مدنية، فقد أهانت أميركا ربما إهانة لم تعرفها أية دولة فقد صرّحت إن بومبيو "يتحدّث هراء" وتريد استبداله في المحادثات النووية بشخص "أكثر نضوجاً" وقبلها إيران وصفت أميركا ولا زالت "بالشيطان الأكبر.".. صحيح ان أميركا لم تخش روسيا في أوج الحرب الباردة ، ولم تحاول قطع المسافات بآليات عسكرية بحرية وجوية هي أشبه بالجبال الراسيات من أجل اغتيال "أللندى" أو "مصدق" أو "الملك فيصل" أو "ضياء الحق " أو"باتريس لومومبا" ، أما اليوم وأمام تعاظُم قوّة روسيا والصين وظهور نيرون الثاني في أميركا فهي في حيرة من أمرها مع ما أصابها من خراب وذلّ من شخصٍ إسمه فلاديمير بوتن كما تقول هي – إنها المفارقات الكاريكاتورية في عصر حرب النجوم الجديدة. بوتين أيضاً لم
لم يكن ظاهرة تاريخية عسكرية فحسب فهو ظاهرة فكرية لا يؤمن بالفرضيات في حرب الأجهزة ، أو في المباحثات السياسية التي تهمّ مصير دولته ، إنما يؤمن بالمُمكن في مواجهة المُستحيل وهو هذه الظاهرة الممتدة في عُمق المستقبل ضد أميركا.
حروب أميركا تُقاس بالآلام ولها نصيب في هذه الآلام. حروب الإبادة الجماعية للأمم والشعوب هي إحدى السِمات البارزة في تاريخ أميركا ، وحروب الخسارة هي أيضاً مميّزات هذا التاريخ ، انتصرت أميركا على حساب الأطفال والنساء والشيوخ ، وخسرت لحساب المواقع والمبادئ والأديان ، وتراجعت في العراق وسوريا تحت ذلّ الهزيمة رغم التلويح بما تملكه من تقنيات العصر والسلاح النووي . ماذا يعني كل هذا الهَيجان الأعمى لترامب باتجاه الموت ، وعلى أيّ أساس يقوم ، وهل للشعب الأميركي رأي في هذا ؟ السؤال طُرِح على صنّاع القرار في البيت الأبيض الأميركي ، وطُرِحَ أيضاً على الإعلام الأميركي ، لكن الجواب ظلّ قابِعاً تحت خيال ما اصطُلِح على تسميته بـ " رامبو الجديد" في الجانب العسكري، وما اصطُلِح على تسميته بالمحافظة على المصالح الحيوية لأميركا سياسياً .
خلاصة التاريخ في هذا السؤال هو أن أميركا تحاول ترميم داخلها بتسليط الأضواء على الآخر، وأحياناً يكون هذا الآخر مجهولاً ، لكن رغم كل هذا تبقى أميركا في نظر من لا يحسنون قراءة التاريخ ،هي بداية الحل للأزمات الكبرى ، وكأن الأزمات لاصِقة بالتاريخ وليس بالإنسان .
لقد حاولت أميركا طيّ أفكار حضارات العالم في أكفانها فكانت حرب "فيتنام " وكان لهذه الحرب شأن آخر، لقد خسرت أميركا فيها من العسكر ما يزيد عن 50 ألفاً ، أغلبهم لا تُعرَف مقابرهم لحد الآن ، وشهدت على إثرها مسيرة 50 ألف شخص أميركي باتجاه واشنطن مُندّدين كلهم بالحرب وبآثارها السلبية على الإنسان والاقتصاد ، وفي أوج نشوتها العسكرية أعلنت وقف القتال والدخول في مفاوضات علنية مع الجانب الفيتنامي من دون شروط مُسبقة ، وكانت الهزيمة قاسية ، وكانت المأساة على الشعب الأميركي بمثابة التاريخ الأسود لكل الأزمنة ولكل العصور.. لقد أشار أحد المؤرّخين لهذه الحرب بالقول بأن "النابالم " الأميركي يصنع الفيتناميين بدل إحراقهم ، ولم تتعلّم أميركا من هذه الهزيمة سوى ما تحفظه خزائن الكتب من شواهد الإحساس بمرارة ما وقع لأميركا وهي الدولة الأقوى في العالم .
ولكن الأقوى يبدو ضعيفاً أمام الأفكار الصانِعة للحدث والمُغيّرة للمفاهيم، وإلا كيف تفسّر أميركا ذاتها غزوها لجزيرة "غرينادا " في عهد الرئيس رونالد ريغان ، وهي لا تكاد تُذكَر في الخارطة ، ولا يتجاوز عدد سكانها عشرة آلاف نسمة ؟ وكيف تفسّر أيضاً غزوها لجزيرة " بنما "في عهد الرئيس جورج بوش، وتخطف رئيسها وتحاكمه في سجون أميركا ، وتنصّب خلفاً له يؤدّي اليمين الدستورية في ثكنة عسكرية ، وهي تدَّعي الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان ، ولا تؤمن - كما تدَّعي - بالحُكم العسكري ، واليوم يحاول ترامب إعادة نفس المُغامرة مع فنزويلا وإيران وكوريا الشمالية ، إنه الواقع المتهوّر للسياسة الأميركية ، وإنه التاريخ الأميركي المليء بالجرائم.
لقد نصّبت أميركا في الشرق الأوسط أتباعاً ،(بني سعود وبني زايد وشاه إيران) وكان أشدّها عتوّاً شاه إيران وأحاطته بما يشبه الخيال من أجهزة الظل لحمايته ، وحماية مصالحها في الشرق الأوسط ، وتحوّلت السفارة الأميركية إلى خلية لهذه الأجهزة ، لكن فجأة يتصدّع الحصن ويتحرّك التاريخ باتجاه الينابيع الكبرى للأمم والشعوب ، فيسقط الشاه كتمثالٍ من الشمع أمام ثورة الإمام الخميني ، وتحتل السفارة الأميركية وتؤخَذ منها كل الوثائق تقريباً ، والمُصنّفة بالوثائق الأكثر حساسية ، وترتَّب وتوجَّه باتجاه المعنيين بها وتتحوَّل إلى قلعةٍ فكريةٍ في وجه الطغيان الأميركي ولولا الجزائر لما خرج المُحاصرون في السفارة إلا جثثاً
لكن أميركا وكعادتها حاولت تحرير الرهائن بوسائلها العسكرية في عهد جيمي كارتر -30/04/1980- لكن النكسة كانت من نصيبها ، فقد تحطّمت إحدى الطائرات العسكرية "للكوماندوس " في صحراء طبس ، وقُتِل ثمانية جنود ، لقد جاؤوا من أميركا لأخذ الرهائن ، لكن عادوا في التوابيت ، وها هي إيران الآن عملاق الشرق عسكرياً وسياسياً رغم الحصار الأميركي ، ورغم المحاولات الجهنمية لأجهزة (سي آي أي ) المُتعاقبة للإطاحة بنظام طهران الرافِض للعبة الأميركية وللأفكار القائمة على الهيمنة والحروب المُدمِّرة .. والنتيجة الملموسة الوحيدة هي "إيران أكثر صعوبة" كما يقول ريان كوستيلو من المجلس القومي الأميركي، وإسرائيل التي تُسيِّر ترامب من الخلف تقول المعادلة التي تعيش فيها اليوم وبلسان ساستها " نحن غارقون في المستنقع".
حاولت تمرير لعبتها في الصومال بتحويله إلى قاعدة عسكرية أميركية مُطلّة على اليمن والخليج العربي في ظل استراتيجية حماية النفط ، لكنها فشلت في القبض على فرح عيديد (رئيس الصومال سابقاً) وخسرت 18 جندياً ، جُرّ أحدهم بالخيول أمام كاميرات العالم ما يشكّل إهانة للجندي الأميركي . كان هذا كافياً لو أن أميركا تؤمن حقاً بالإنسان وبالدول وبالشعوب ، واقع مؤلم خلّفته أيضاً حرب الخليج وجرائم إبادة ضد شعب بأكمله ، ويتباهى جورج بوش وأتباعه حوله ولكنها إبادة صنعت جيلاً آخر من المؤمنين بالقضية ومن حاملي فكر الشهادة ، وهو الفكر الذي لا تُرهبه أية وسيلة ، لأن الشهادة هي بداية الحياة في نظر هذا الفكر، لكن التخلّف الذهني الأميركي المشدود دوماً بحبال الآلة العسكرية أدّى إلى إنتاج جيل آخر من المفاهيم في الحرب والمواجهة ،لا يخاف هذا الزحف المُدمّر وبالخصوص الأفكار الأميركية القائمة على الإبادة للحضارات والقِيَم والأديان ، فكان التفكير لديها استنساخاً للوَهْم ، وليس تماثلاً للقِيَم، أو بناء خلاّقاً للفعل الأخلاقي ، فكانت النتيجة تحويل نظرة العالم بواسطة طائرات مدنية هزّت الدرع الخامسة الحسّاسة جداً من وزارة الدفاع الأميركية . لقد استيقظ الخيال على لحظة ارتعاش لم تكن لتحدث لولا تطاول العقل الأميركي على العالم ومحاولات وضعه في العربة أشبه بالقطيع من الغنم .
هذه الأفكار وتلك الأفعال مهما كان مستواها وفاعلوها لا يمكن أن تنتج أماناً لأميركا ومَن حولها من الأعراب ، كما أنها لا يمكن أن تؤسّس واقعاً أميركياً غير منهار من دون زلزال يُصيبه من الداخل ، وهو الذي يحدث الآن مع إن الجغرافيا تلعب على الدوام ما يؤمّن لها البقاء خارج الفراغ ، وأن الحضارات قوامها الروح وليس الأفكار المُحارِبة للروح.