انسحاب ترامب من سوريا.. تداعي مشروع الشرق الأوسط الكبير
تتخذ القرارات الاستراتيجية أهمية بالغة الخطورة، في السياسة الدولية، لأنّ نتائجها تتخطى العوامل الزمنية القريبة، إلى مديات أوسع وأكبر وأكثر شمولًا، وفي التموضعات الجيوسياسية في العالم، وفي الصراعات الدولية والإقليمية. ولا سيما إذا ما كانت هذه القرارات تؤثّر في مروحة واسعة من الدول، وعلى صلة بمشاريع كبيرة تمّ التخطيط لها على مدى عقود.
شكّل قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب الإنسحاب من سوريا، أحد القرارات المصيرية والمفصلية في مشهد الصراع الإقليمي منذ العام 2011 في منطقة الشرق الأوسط، وفي الرؤية الأميركية لإعادة رسم الخرائط الجغرافية والسياسية والديمغرافية فيه، بناءً على التصوّر الأميركي لمصالحه العليا، والتي تتغذى منها بطبيعة الحال الروافد الإسرائيلية.
لا بدّ ان نشير بدايةً إلى أنّ هذا القرار ستكون له تداعيات واضحة على السياستين الإقليمية والدولية، وستؤثّر في طبيعة التوازنات، الذي يشكّل الدور الأميركي المباشر فيها عاملًا وازنًا وحاسمًا ومهمًا، لانّ خسارة الوجود العسكري المباشر في منطقة شديدة التعقيد والحساسية يحمل إشارة بالغة الدلالة.
فما هي الأسباب التي حدَتْ بالرئيس دونالد ترامب إلى اتخاذ هذا القرار المفصلي في هذه اللحظة المعقّدة في الكباش الدولي والإقليمي؟
نستطيع أن نستنتج من ذلك أنّ قرار الانسحاب يمكن تفسيره عبر مؤشرين:
المؤشّر الأول: يتأتّى من تطبيق الاستراتيجية التي اتبّعها الرئيس ترامب منذ إعلان ترشّحه للانتخابات الرئاسية الأميركية، والقاضية بالإنسحاب من مشكلات الشرق الأوسط المعقّدة، ومن رماله المتحركة التي لم تجلبْ للولايات المتحدة وجيشها الجرار سوى الويلات والخيبات والخسارات المتكررة، إضافة إلى الكلفة الاقتصادية والمالية الفلكية، ودفع اثمانٍ بشرية في كلٍّ من أفغانستان والعراق، وقبلهما في لبنان.
الثاني: هو تسليم الرئيس ترامب بإخفاق المشروع الأميركي بنسخته الحالية، في سوريا، والعجز عن تفتيتها وتقسيمها، إضافة إلى إسقاط النظام فيها، واستبداله بآخر موالٍ لها. وقد كان الرئيس ترامب هو الأكثر واقعية في مقاربة هذا الملف، واعترافه بتفكك مشروع الشرق الأوسط الجديد، وتضعضع بنيانه، وبالتالي فإنّ الجدوى من البقاء، وانتظار الانتصار غير متاحتين، لذا فهو لا يريد المكابرة. وما حصل أمس، هو تنفيذ للقرار الذي اتخذه في آذار الماضي، ولكن، بناءً على رغبة البنتاغون، وسخاء المملكة العربية السعودية، وبعض التفاصيل الأخرى، أجّل ترامب قر ار الانسحاب الذي أعلنه أمس.
ونودّ في هذا السياق الإشارة – كما تقدّم- إلى أنّ قرار الانسحاب من سوريا هو تنفيذ قرار استراتيجي، ولكن لا يمنع ذلك أنّ للتوقيت دلالاتِه وأسبابَه أيضًا، التي يعرف الرئيس الأميركي بعقلية التاجر كيف يستثمر فيها، ولا يقدّمها مجانًا. ومن هذه الأسباب:
ـ أولًا: ترتيب العلاقة مع الأتراك، والعمل على طمأنتهم، والقول إنّ الدعم الأميركي للأكراد، ولا سيما قوات سوريا الديمقراطية في الشرق السوري أصبح بحكم المنتهي، وكان الدليل الأكثر بروزًا على طريق إعادة الحرارة إلى العلاقة مع الاتراك، هو الاتفاق على شراء الجيش التركي منظومة صورايخ “الباتريوت” بقيمة ثلاثة مليارات دولار ونصف المليار، للالتفاف على صفقة صواريخ ال (S400 ) الروسية، وانتزاع تركيا من الحضن الروسي.
ـ ثانيًا: وفي السياق نفسه،تقديم بادرة حسن نية للرئيس التركي، من أجل تحفيف الضغط عن الرئيس ترامب وحليفه وليّ العهد السعودي محمد بن سلمان في قضية مقتل الصحفي السعودي جمال الخاشقجي في القنصلية السعودية في اسطنبول، ولعلّ تصريح وزير الخارجية التركي جاويش أوغلو اليوم، إنّ عملية اغتيال الخاشقجي هي جنائية، وليست سياسية، تحمل دلالة واضحة إلى ما نسوق.
ـ ثالثًا: إرسال رسالة بالغة الدلالة للوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة، ولحكومة نتنياهو، إنّ موقفهما من قضيتي مقتل الخاشقجي، والتدخل الروسي في الانتخابات الأميركية، لم يكونا على المستوى المطلوب، لا سيما أن ترامب كان قد سلّف الإسرائيليين موقفًا تاريخيًا بنقل السفارة الأميركية إلى القدس.
ـ رابعا: افتعال نقاش أميركي داخلي، يشيح النظر عن الضغوط الكبيرة التي يتعرّض لها الرئيس ترامب، في ملفيّ مقتل الخاشقجي والتدخل الروسي في الانتخابات الأميركية، ولا سيما بعد تصريحات جيمس كومي المدير السابق لـ” أف بي آي” الذي أقاله ترامب سابقًا، والتهديد المحدق بمستشار الأمن القومي للرئيس ترامب في بداية ولايته، المُقال أيضًا مايكل فلين. والضغط المستمر على محامي ترامب جيمس كومي. كل ذلك يأتي على أعتاب دخول الكونغرس ولايته الجديدة في بداية العام المقبل بعد أيام قليلة.
تل أبيب: قرار ترامب صفعة قاسية لإسرائيل
من المفيد القول إنّ قرار الإنسحاب لم يأتِ معزولًا عن سياقاتِ ممتابعة ومعلنة عن نفسها في غير محطة ومفصل، ولا سيما في الحرب السورية، فكلّ الصراخ والتحشيد العسكري والإعلامي والنفسي الذي مارسه الأميركي وشركاؤه، ولا سيما الإسرائيلي في الجنوب السوري، عبر إطلاق التهديدات بالويل والثبور، لمن يفكّر في الاقتراب من الجنوب، وتضييع الإنجازات التي تحققت منذ العام 2012، أو بما يمسّ الأمن القومي “الإسرائيلي”؛ كل ذلك تمّ بلعه من قبل الأميركي، عندما قُرعت طبول الحرب في معركة الجنوب. وصل الجيش السوري إلى الحدود الجنوبية مع فلسطين المحتلة ومع الأردن، وأُعيدَ فتح معبر “نصيب”، ولم تطلق القوات الأميركية طلقة واحدة.
من هذه النقطة ننطلق لنقول إنّ “إسرائيل” هي الخاسر الأكبر من هذا القرار،حتى لو بادر نتنياهو إلى القول إن “الإدارة الأميركية أطلعته مسبقًا على نيتها سحب القوات من سوريا”.وهو يعلم أنّ التحدي المقبل سيكون متمحورًا حول تداعيات هذا القرار على الأمن القومي الإسرائيلي، وهو حرص على توجيه رسالة مفادها إنّ إسرائيل “ستعمل للحفاظ على أمنها، والدفاع عن نفسها من هذه الساحة “. وهو قلقٌ عبّر عنه نتنياهو في جملة مفتاحية، حيث قال إنّ إسرائيل ستبقى وحدها في المنطقة، وهو ما سيُحدِثُ خللًا في التوازن، مقابل التحالف الروسي السوري الإيراني”، لأنّ إسرائيل تحسب الوجود العسكري الأميركي في سوريا ظهيرًا لها، وحاجزًا ماديًا مانعًا للتواصل اللوجيستي الرئيس بين دول محور المقاومة الممتد من طهران إلى بيروت، إضافة إلى الضغط الذي تشكّله الولايات المتحدة على روسيا، ما منح الإسرائيليين فرصًا للتدخل في الحرب السورية عبر الغارات المتكررة على الأراضي السورية قبل سقوط الطائرة الروسية.
وامتدّ القلق إلى وسائل الإعلام في تل أبيب أمس، واصفة إياه (الانسحاب) أنه “صفعة قاسية لها”، وهو انتصارٌ لسوريا وإيران وروسيا، وهو ما قاله أيضًا عضو الكونغرس الأميركي الأكثر حضورًا، والحليف المعروف للوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة “ليندسي غراهام”، الذيّ عدّ هذا الانسحاب انتصارًا للثلاثي الروسي الإيراني السوري، وشمل معهم تنظيم الدولة “داعش”.
ويعلم “الإسرائيليون” إنّ هذه الخطوة سيكون لها تأثير بالغ الحساسية في رسم مشهدية الوضع السياسي على الساحة السورية، وأنّ “إسرائيل” سوف تراقب عن كثب المكاسب التي ستحققها موسكو وطهران ودمشق في الاستفادة من هذا التحول ذي الأبعاد الاستراتيجية، الذي سيكون محطة تأسيسية واضحة ووازنة في المشهد السياسي السوري المقبل، وفي معادلات المنطقة.
الحليف الكردي، الشريك المخدوع
لم تكن حسابات الأحزاب الكردية في على مدى الحرب السورية، وفي صراعات المنطقة المشتعلة منذ العام 2011 موفّقة، بل شابها نوعٌ من الانفعالية حينًا، والغلوّ والمكابرة حينًا آخر، وهم اعتمدوا كليًا على “الشريك الأميركي”، وتبيّن لهم، إنهم كانوا يضعون بضاعتهم في سلالٍ مثقوبة، لم يبقَ منها شيءٌ أبدًا عندما حانت لحظة الحقيقة. هذه الحقيقة التي كان قد أشار إليها السفير الأميركي السابق والأخير في سوريا، والقائد العام “للثورة السورية” في بدايات الأزمة روبرت فورد في مقابلته مع صحيفة الشرق الأوسط السعودية في حزيران من العام 2017، حيث قال “إنّ الأكراد هم الجهة التي نالت النصيب الأكبر من الخداع الأميركي.” وحين سُئلَ عن الموقف الأميركي في حال حدوث أي احتكاك أو معركة بين الجيش السوري وحلفائه وقسد، قال “إنّ الولايات ستقف متفرجة، ولن تتدخل لتنقذ الأكراد”.