عِمْتَ مساءً أيها الظالم!
بما أن العواطفَ في هذا الزمنِ الرديء صارتْ سُبة والتعبيرَ عنها ضرباً من الغباء، لا أنوي هنا مهادنةَ مَنْ يضللوننا بالتفكيرِ العلمي والكلماتِ الجافةِ المنمقة، التي لا تعبرُ سوى عن تهربٍ من اتخاذِ موقفٍ والقيامِ بالمتعينِ بالنسبةِ لمَنْ يعتبرُ نفسه “مثقفاً”.
الواجبُ تجاه الوطن، وتجاه الأجيالِ القادمة…الواجبُ تجاه الذاتِ واحترامها، يفرضُ على كل حاملٍ “للعلم” التخندق بصراحةٍ والتعبير عن موقفه مما يحدثُ في هذه البلاد، وذلك أضعفُ الإيمان.
ما نطقتْ به محكمةُ جنايات الدار البيضاء الثلاثاء الماضي، في حق معتقلي “الحراك” لا يحتملُ اللبسَ ولا تأويلاً آخر غير الاعتراف بواقع “وضع اليد” على كل شيء في هذا البلد… من ثرواتٍ وسلطاتٍ وبشر، بالقاعدة والقانون. ومثل من اكتوواْ بنار “القانون” و”العدالة” في مغربِ العقد الثاني من القرنِ الواحدِ والعشرين، أقول: القانون مثل المطاط، يسحبه القوي دوماً إلى جانبه!
لا تسعفني الكلماتُ للتعبيرِ عن إحساسٍ بالظلمِ و”الحكرة” يتعاظم، وعن قرفٍ يصلُ حد الاختناق… الاختناقُ من أرضٍ نمشي فوقها ونحس أنها سوف تميدُ بنا في أي لحظة… الاختناقُ من ماءِ وطنٍ كان من المفروضِ أنْ نشربه صافياً من النبعِ كحليبِ أمهاتنا، فصرنا نُسقاه عبثاً قاتلاً بطيئاً، يرادُ له أنْ يقضي علينا يوماً بعد يوم… الاختناقُ من هواءِ ملوثٍ بفسادِ الفاسدين وبعبثِ العابثين…
الاختناقُ من الظلمِ ومن الضحالةِ ومن خطاباتٍ مكرورةٍ وألاعيبٍ مكشوفة. وكالعادة، هناك من يتجرأ، باسمِ منطقٍ دستوري مغرض، على القول بأن تصرفات المخزن، بما فيها استخدام سلاح “القضاء” أو الضربة القاضية في مباراةٍ غير متكافئةٍ، بين نظامٍ يسخرُ كل آلياتِ الدولةِ ورعايا مغلوبين على أمرهم… كل تصرفاته وممارساته هي في صالحنا، هي لحمايةِ أمنِ الشعبِ وسيادةِ الوطن…الخ. وذلك هراءٌ في هراء. الوطنُ يحميه أهله والعدلُ أساسُ الملك، أما استعراضُ العضلاتِ السلطويةِ وتعبئةُ طاقاتِ البلدِ كلها لحمايةِ مصالحٍ شخصيةٍ وفئويةٍ ضيقة، فليستْ لا لصالحِ البلاد ولا لصالحِ العباد، لا على المدى القصير ولا على المدى البعيد.
ومن يقولُ غير ذلك، فإما قصيرُ النظرِ أو مرتزقٌ من مرتزقي العهدِ الجديد، الذين يوظفون “قبعاتهم الأكاديمية” والقانونَ الدستوري وغيرهِ من القوانينِ التي “كَرَدُوها أو حَرزوها لاجتيازِ الامتحانِ،” بقصدِ الحصولِ على فُتاتِ موائدِ “المخزن” المنصوبةِ على شرفِ أسيادهم.
أحكامُ “نشطاء الريف”، وهذه اللحظة بالذات تستدعي وقفةً تاريخيةٍ واعيةٍ صادقة. ليس للتأملِ، فالتأملُ قد استنفذَ ذاته أو فاتَ أوانُه فعلاً، بل للتعبيرِ بوعيٍ وبوضوحٍ وحكمة عن غضبنا. إن هذه اللحظة لا تحتاجُ إلى مرتزقةٍ يبيعون مقدماتهم ومؤخراتهم من أجلِ كرسي، ولا إلى “محللين” يحللون كل ما يفعله المخزن ويحرمون علينا حتى فتح الأفواهِ للتثاؤبِ من سخافةِ هذه المسرحيةِ المستمرةِ لعقود، ولا إلى متاجرين باسمِ الملةِ والدين، ولا حتى إلى متضامنين “اِنتقائيين”… فجميعنا معنيون، وإذا لم ننتفضْ اليومَ بكل تلقائيةٍ في وجهِ الطغيانِ والظلمِ، فمتى؟
وعلى كل حال، قد لن ينفعنا الندمُ فيما بعد!
أما بالنسبة لمن يوزعُ الظلمَ ويذهبُ بعد ذلك لينام، أقولُ: عِمْتَ مساءً أيها الظالم! فالفجرُ آتٍ آتٍ، رغم الظلمات، وإن غداً لناظره قريب!