لماذا سيضع العالم في الفترة القادمة ثقته بالصين أكثر من أميركا؟
تعيش كندا أحداثاً تشبه فيلم Love, Actually؛ إذ حصد رئيس وزرائها جاستن ترودو مجداً وشهرةً بعد وقوفه في وجه ترمب، يشبهان تماماً ما حدث مع رئيس الوزراء البريطاني في أحداث الفيلم الذي عُرِض عام 2003، بعد أن وقف في وجه الرئيس الأميركي.
« لا يمكننا أن نسمح لأحدٍ بأن يفرض رأيه علينا »، بهذه الكلمات حصد ترودو تصفيقاً حاراً من الحضور. وهذه الأجواء تشهد تصاعداً في جميع أنحاء العالم.
أما في المكسيك، التي يبدو أنها ستنتخب نهاية الأسبوع المقبل أكثر إداراتها معارضةً للسياسات الأميركية منذ 10 سنوات، فالأمر تجاوز الأفلام إلى الواقع؛ إذ تُعايش البلاد متلازمة أندريس مانويل لوبيس أوبرادور، الرئيس المرتقب لها.
نعت وزير الخارجية المكسيكي السياسة التي تنتهجها الولايات المتحدة على الحدود بأنها « قاسيةٌ وغير إنسانية ». وكذلك، فإن مُتحدِّثاً باسم الخارجية الفرنسية قال إن الولايات المتحدة لديها « قيمٌ حضاريةٌ » مختلفة عن سائر دول الغرب. ولم يثر هذا التصريح انتباه أي شخص. أصبح الاعتراض على السياسات الأميركية جزءاً من الروتين اليومي في جميع أنحاء العالم من أوتاوا إلى ويلينغتون.
بعض هذا الاعتراض ينصبُّ بالتحديد على الرئيس الأميركي دونالد ترمب. وحين انسحبت الولايات المتحدة العام الماضي (2017) من اتفاقية باريس للمناخ، حرص ترودو على انتقاد « الحكومة الفيدرالية الأميركية »؛ ليميِّز بذلك بين الولايات المتحدة ورئيسها المكروه على نطاقٍ واسعٍ بشكلٍ عام. يمكن أن تُعزى بعض حالات مناهضة السياسات الأميركية إلى كراهية الرئيس ترمب نفسه، بعد أن كانت موجات سابقة مرتبطة بمواقف الرؤساء السابقين حيال القضايا الدولية. ارتفعت موجة الكراهية هذه آخر مرة في ظل حكم الرئيس الأميركي جورج بوش، وانحسرت مع انتخاب باراك أوباما. وليس ثمة أثر لتدنِّي شعبية رونالد ريغان في أوائل ثمانينيات القرن العشرين بعد انهيار جدار برلين.
غير أن هذه الموجة مختلفةٌ عن سابقاتها؛ إذ كانت مناهضة السياسات الأميركية تنطلق عادةً من الحروب، كما حدث في فيتنام والعراق، أو الخوف من الحروب، كما حدث مع وصول جيلٍ جديد من الأسلحة النووية بأوروبا في الفترة الرئاسية الأولى لريغان. لم يشن ترمب أيّ حربٍ بعد، والحق أنه انتُخِبَ لتعهُّده بتجنُّبِ شنِّ أيِّ حرب. وهو من هذه الناحية يشبه الرئيس أوباما. غير أن صورة الولايات المتحدة الأميركية تزداد سوءاً منذ توليه منصبه. لا تزال قلةٌ من غير الأميركيين تنظر إلى فوز ترمب في الانتخابات عام 2016 باعتباره حادثاً شاذاً.
ويعتبر العديد من الدبلوماسيين إعادة انتخاب ترمب لفترةٍ رئاسية ثانية أمراً مفروغاً منه. وحتى لو اعتبرنا أن هذا الاحتمال خاطئٌ بنسبة لا تقل عن 50%، فإن العالم يرى أن الولايات المتحدة باتت توصد أبوابها في وجه قاصديها، وهي التي كانت في السابق مُرحِّبةً بكل من يلتجئ إليها. كان ريغان وبوش الابن حريصَين على ضمِّ مواطنين جدد؛ إذ أصدر ريغان عفواً عن 3 ملايين لاجئ غير شرعي. أما بوش، فقال إن الولايات المتحدة ستستقبل المكسيكسيين على الرحب والسعة إذا عبروا الحدود وصولاً إليها.
أما ترمب، فنعت الدول الإفريقية بأنها « أوكارٌ قذرة »، ويستخدم كلمات من قبيل « حيوانات » و »طفيليات » و »مجرمين » عند الحديث عن دول أميركا الوسطى. ووفقاً لمزاعم ترمب، فإن كل دول العالم تقريباً تحتاج إلى الولايات المتحدة الأميركية، والقادمون إليها يريدون استنزاف مواردها. وتشبيهات كهذه لا تُمحى من تلقاء نفسها. يقف ليبراليو الولايات المتحدة في صف سائر العالم بهذا الصدد، على نحوٍ لا يزيد ولاء الجمهوريين إلا رسوخاً. واستلزم الأمر تدخُّل إيفانكا، ابنة الرئيس ترمب؛ لإقناعه بلمِّ شمل الأطفال المهاجرين مع عائلاتهم، بعد أن عجز معظم الجمهوريين عن الخروج عن خط سياسته.
وللمرة الأولى خلال القرن الحالي، تشهد طلبات تأشيرات الدراسة في الولايات المتحدة هذا الانخفاض الحاد، وضمن ذلك انخفاض طلبات التأشيرات المُقدَّمة من الصين والهند، أكبر دولتين يفِد منهما الطلاب إلى الولايات المتحدة للدراسة. الأمر ذاته ينطبق على المسلمين من كلِّ مكانٍ بالعالم تقريباً. أما في ظلِّ حكم بوش وريغان، فقد استمر توافد الأجانب على البلاد. ودأبت السياحة، التي تشهد هي الأخرى انخفاضاً في الوقت الراهن، على النهوض بالاقتصاد. ولم تفتأ الولايات المتحدة تفتن الناس حتى في لحظات الاختلاف الشديد معها. ولكن، ماذا لو كان هذا كله قد بات وراء ظهورنا الآن؟ لن يتوقَّف العالم بطبيعة الحال، ولكن الأجيال الشابة ستكبر وفي أذهانها صورةٌ مختلفةٌ تماماً عن الولايات المتحدة الأميركية عن تلك التي كانت لدى آبائهم.
وقد تجاوزت آثارُ جدار برلين بعد سقوطه أثرَه حين كان قائماً. فجيل الأوروبيين الذي يذكر مشروع مارشال، الذي أعاد الحياة إلى أوروبا في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، أو حتى تبعات هذا المشروع، بدأ يختفي. وفي المقابل، بدأت سمعة الصين تتزايد باعتبارها حاضرة في الأذهان، بما فيها من كهرباء وشوارع مُمَهَّدة. وتمتد مبادرة الحزام والطريق الصينية إلى كل قارَّة تقريباً في الوقت الراهن. وأصبح من المعتاد أن تخرج استطلاعات الرأي بنتائج تشير إلى أن العالم بدأ يثق، بشكل أكبر، بالصين للحفاظ على الاستقرار العالمي أكثر من ثقته بالولايات المتحدة الأميركية.
وحتى في ألمانيا، التي تعد من الناحية الثقافية واحدةً من حلفاء الولايات المتحدة الأميركية، يحظى الرئيس الصيني شي جين بينغ بمعدلات قبول تفوق بكثير تلك التي يحظى بها ترمب. ربما يكتشف العالم بعد ذلك أن ثقته بالصين لم تكن مبنيَّةً على أساسٍ متين. لكن، بات من العبث الآن التصريح بذلك. فمنذ الأزل وحصة النخب العالمية التي تلقَّت تعليمها في الولايات المتحدة تفوق حصة أولئك الذين تعلموا في أماكن على شاكلة كامبريدج أو السوربون أو معهد بوشكين.
ومن المُحتَمَل أن تحتفظ الولايات المتحدة بنصيب الأسد من الطلاب الدوليين. ولكن، إذا اعتادت أن ترفض منحهم تأشيرات عمل، وإذا لم تتوقَّف عن ازدراء « الحشود الغفيرة »، فإن مناهضة الولايات المتحدة الأميركية في أوقات السلم ستظل باقية حتى بعد زوال ترمب. – هذا الموضوع مترجم عن صحيفة Financial Times البريطانية