من هم الرابحون والخاسرون من التحولات الاقتصادية الأخيرة في مصر؟
طغت التطورات الاقتصادية على باقي الأخبار في الأسابيع القليلة الماضية، فما بين ارتفاعات الدولار ومحاولات البنك المركزي ضرب السوق الموازية وارتفاعات الأسعار، والإعلان رسمياً عن المفاوضات مع صندوق النقد.
أصبح الاقتصاد القضية الأبرز في الشأن العام. لا يلقي الناس بالاً للمؤشرات الاقتصادية المعقدة، التي غالباً لا يفهمونها، لكن ما يلفت انتباه الناس هو مستوى الأسعار؛ لأن ارتفاعها يقلِّص القوة الشرائية للعائلات ويُفقرهم بشكل مباشر. ولعل ذلك هو سبب تركيز الناس على اختلاف مستوياتهم على سعر صرف الدولار، حيث إن الكثير من المنتجات التي نستهلكها يومياً هي منتجات مستوردة يرتفع سعرها مع ارتفاع الدولار. من الصعب إنكار مدى صعوبة الوضع، في ظل وجود بعثة صندوق النقد على أرض الوطن؛ لمناقشة قرض كبير يساعد الاقتصاد على عبور الأزمة الحالية. وعلى الرغم من أهمية ذلك الاتفاق، الذي انعكس إيجابياً على سوق المال وسوق الصرف، فإن ذلك الاتفاق لن يكون بلا مشقة، حيث سيتعين على الحكومة تطبيق إجراءات حرجة، مثل رفع أسعار الخدمات العامة المدعمة وتخفيض الجنيه المصري وتطبيق ضريبة القيمة المضافة وخصخصة بعض الشركات الحكومية. هذا الاتفاق سيدعم الاقتصاد بشكل سريع، حيث سيوفر ما يزيد على 20 مليار دولار، سواء من صندوق النقد أو المؤسسات المالية الأخرى، وهو ما سيعطي قُبلة الحياة للجنيه وسوق المال على المدى القصير. لكنَّ الإجراءات التي ستواكب القرض مجتمعةً ستؤدي إلى موجة تضخمية كبيرة، أعلى من الموجات السابقة التي يئنُّ الناس منها. هناك اعتقاد سائد بأن سبب ارتفاع الأسعار أخيراً هو الدولار، وأنه مع القرض ستتم السيطرة عليه؛ ومن ثم السيطرة على التضخم، ولكن ذلك الاعتقاد خاطئ إلى حد كبير، حيث إن ارتفاع الأسعار ناتج عن مجموعة من الأسباب؛ منها ارتفاع الدولار بالتأكيد، ولكن عوائق الاستيراد وعدم توافر الدولار لا يمكن إنكار أثرها على توافر العديد من السلع ومن ثم سعرها. ومما لا شك فيه أن الجنيه سيشهد المزيد من التخفيض مع قرض الصندوق، وكذلك عدم توافر السلع في السوق سيزداد مع عوائق الاستيراد المفروضة. ولذلك، فإن مثل هذا الاتفاق، على الرغم من مميزاته، فإن تكلفته الاجتماعية لا يمكن إنكارها وافتراض أن القرض سيسيطر على سعر صرف الدولار، ويُنهي الموجة التضخمية بعيداً عن الواقع. *** الوضع الحالي الذي جعل من الضروري اللجوء إلى المؤسسات المالية العالمية واتخاذ إجراءات حرجة، يؤرخ نهاية مرحلة اقتصادية وبداية مرحلة أخرى. ومع أي تحوُّل تتغير الخريطة الاقتصادية، ويكون هناك رابحون وخاسرون. الاقتصاد المصري ليس حديث عهد بالتحولات، حيث شهد نقلة كبيرة من الإقطاع واقتصاد السوق إلى الاشتراكية والتأميم في الخمسينيات والستينيات، ثم ما لبث أن شهد نقلة أخرى من الاشتراكية إلى الانفتاح واقتصاد السوق، غير أنها كانت نقلة غير مكتملة في السبعينيات. وشهدت التسعينيات استكمالاً لتلك النقلة مع برنامج الخصخصة، والانفتاح على الأسواق العالمية، وزيادة المنتجات المستوردة في سلة المنتجات التي تستهلكها الأسرة المصرية، وتدفُّق الاستثمارات الأجنبية على مصر. ففي الثمانينيات والجزء الأول من التسعينيات، كان الاقتصاد يعتمد إلى حد كبير على التصنيع المحلى، حيث كان الاقتصاد قادراً على توفير أغلب احتياجات الناس الأساسية، لكن كانت الخيارات محدودةً للمستهلك بطبيعة الحال، حتى إن الناس كانوا يتباهون بشراء الملابس المستوردة آنذاك، وكانت الرحلات لبورسعيد لشراء المنتجات المستوردة من السوق الحرة هي الشكل الأصيل للتبضع. النصف الثاني من التسعينيات شهد تحولاً كبيراً؛ حيث انفتح الاقتصاد المصري على الاقتصاد العالمي في وقتٍ كانت العولمة هي الكلمة الأكثر استخداماً، ومع دخول مصر في اتفاقية الجات كان عليها فتح أسواقها، كما فتحت الأسواق العالمية للمنتجات المصرية. بدأت الأسرة المصرية في التعرُّض لنوعية مختلفة من المنتجات، كانت لا تراها إلا في الأفلام أو مع المصريين القادمين من الخارج، مما وضع المنتج المصري في منافسة لم يكن مستعداً لها. التحوُّل من الاستهلاك المحلي إلى الاستيراد لم يَحدث بين عشية وضحاها. فبعض الشركات انتبهت إلى هذا التغيُّر وتفاعلت معه بتغيير نشاطها أو على الأقل تنويعه من التصنيع المحلي فقط للدخول في التجارة، لا سيما الاستيراد. وقد برز ذلك في تحوُّل بعض العائلات العريقة في مجال صناعة الغزل والنسيج من التصنيع المحلي إلى الاستيراد خاصة من الصين وتركيا، حتى إنه بعد مرور قرابة عقد، بعض تلك الشركات خرجت من التصنيع واكتفت بالاستيراد والتجارة، التي كانت أكثر ربحاً وأقل عبئاً. على الناحية الأخرى، تشبَّث البعض بالصناعة من دون ميزة تنافسية، وظلوا ينزفون لسنوات في ظل عدم القدرة على منافسة المستورد، بينما ركَّز البعض الآخر على بناء ميزة تنافسية في منتجات تستهدف أسواقاً بعينها محلياً وعالمياً، معتمدين على انفتاح الأسواق. الخاسرون كانوا من تشبَّثوا بالصناعة من دون ميزة تنافسية وغضّوا الطرف عن انفتاح السوق. أما الرابحون، فكانوا من غيَّروا النشاط سريعاً للاستيراد والتجارة، أو بَنَوا مصانع كبيرة معتمدين على قروض بنكية واستثمارات مؤسسية. *** مع التغيرات الحالية، يحدث تحول مرة أخرى، لكن هذه المرة في الاتجاه المعاكس. فمع قيود الاستيراد العديدة التي ستزداد بمرور الوقت، وعدم توافر العملة الصعبة، وارتفاع سعر صرف الدولار، فإن الخاسرين هم المستوردون. أما المصنِّعون المحليون فلديهم فرصة كبيرة لزيادة إنتاجهم في سوق به عرض محدود لا يستطيع تغطية الطلب. لا ينطبق هذا الكلام على سوق الغزل والنسيج فقط؛ بل يشمل الكثير من القطاعات. التصنيع بهدف البيع المحلي لسد الفجوة في السوق بعد تراجع الاستيراد، أو التصنيع بهدف التصدير للاستفادة من سعر الجنيه المنخفض، ستكون الأنشطة الرابحة. قد لا تكون سياسة إحلال الواردات بالمنتج المحلي سياسة اقتصادية موفَّقة على مستوى الاقتصاد الكلي، حيث إن تجارب الدول الأخرى في هذا الصدد، تشير إلى أن عوائق الاستيراد التي تفرضها الدولة تُقابِلها عوائق للتصدير تفرضها الدول الأخرى، مما يُفشل هذه السياسة ويعزل اقتصادها عن الاقتصاد العالمي. لكنَّ بعض الشركات ستستفيد من تلك السياسة، خاصةً الشركات التي ستتحرك سريعاً لاقتناص الفرصة، أما المتباكون على تقليص الاستيراد فسيفوتهم القطار.