مفارقات العولمة .. ورأي أهل الاقتصاد
يتشدق أغلب أهل الاقتصاد بكلمات بديعة عن فوائد التكامل العالمي "الحقيقي"، الذي يعني التدفقات العابرة للحدود، التي تكاد تكون غير مقيدة على الإطلاق من السلع والعمالة والتكنولوجيا. وهم أقل ثقة عندما يتعلق الأمر بالتكامل المالي العالمي، خاصة التدفقات القصيرة الأجل مما يسمى "الأموال الساخنة".
ومع ذلك فإن ردة الفعل المعادية للعولمة اليوم تركز إلى حد كبير على التكامل الحقيقي وتكاد تُبقي بشكل كامل على التكامل المالي. وأخيرا، دفعت ردة الفعل المناهضة للتكامل الحقيقي إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب إلى اللجوء إلى تدابير الحماية التجارية الأحادية الجانب، التي تستهدف الصين بشكل خاص. وفي كل من الولايات المتحدة وأوروبا، تقام الحواجز أمام الهجرة وترتفع، وتتحرك حكومات عديدة نحو فرض ضرائب جديدة على شركات التكنولوجيا التي تعتبرها أكبر أو أكثر نفوذا مما ينبغي.
في هذا السياق، كان غياب أي شكل من أشكال الاحتجاج ضد التكامل المالي أمرا بالغ الغرابة، فقد عاثت التدفقات المالية فسادا في الاقتصادات الغنية والفقيرة على حد سواء بشكل منتظم على مدار السنوات الـ40 الماضية، ولم يكن هذا الضرر سرا، فقد أبرزته مؤسسات مثل صندوق النقد الدولي، مضيفة بعض التحذيرات إلى دعمها غير المقيد سابقا للانفتاح المالي. قد يعكس انعدام المقاومة للتكامل المالي بروز المشكلة أو ربما بقدر أكبر من الدقة، السرد المحيط بالمشكلة، فعندما يتعلق الأمر بالتكامل العالمي الحقيقي، فمن السهل تحديد هوية الجناة والضحايا، أما في حالة التكامل المالي فيختلف الأمر. ولنتأمل هنا مسألة التجارة الحرة، فعلى الرغم من كونها مفيدة في مجمل الأمر، فإن تأثيراتها التوزيعية المعاكسة لا يمكن إنكارها، ومن السهل تحديد من يقع عليه الضرر "على سبيل المثال، عمال الدول المتقدمة في الصناعات ذات القيمة المضافة المنخفضة مثل الصلب"، ومن يحدث الضرر "الدول النامية القادرة على إنتاج وتصدير السلع المعنية بثمن أرخص". وربما يكون الخاسرون أقلية، ولكن يمكنهم أن يتحدوا معا على النحو الذي يعمل على تضخيم صوتهم وتعظيم قدرتهم التفاوضية، خاصة إذا تركزوا جغرافيا، وفي ظل هدف واضح، يكتسب غضبهم القوة والشرعية. على نحو مماثل، تجلب الهجرة مكاسب كبرى، وفي نظر كثيرين، خسائر كبيرة. وربما تشمل فئة الخاسرين الواضحين العمال المحليين المتضررين "أو الذين يعتقدون أنهم متضررون" من المنافسة المتمثلة في المهاجرين، أو المواطنين الذين يشعرون بأن أساليب حياتهم أو حتى هوياتهم باتت مهددة، ولا يهم ما إذا كانت هذه المزاعم صحيحة من الناحية التجريبية؛ فهي تأتي في سياق سرد واضح ومقنع، حيث يجري تصوير المهاجرين على أنهم أوغاد أشرار.
وكما رأينا، يعد مثل هذا السرد أداة تعبئة شديدة الفعالية بين أيدي الساسة الهازئين. من الواضح بطبيعة الحال أن الأزمات المالية ــــ كتلك التي ألمت بأمريكا اللاتينية في أوائل ثمانينيات القرن العشرين، وشرق آسيا في أواخر التسعينيات، وأوروبا الشرقية في أواخر العقد الأول من القرن الحالي، وأوروبا الغربية منذ أوائل العقد الحالي ــ تخلف ضحايا واضحين: أولئك الذين يخسرون وظائفهم أو مساكنهم أو مدخرات التقاعد. ولكن ليس من السهل بالقدر نفسه تقسيم اللوم على من يستحقونه. في الماضي ـــ في العصور الوسطى فعليا ـــ كانت أصابع الاتهام توجه غالبا إلى المصارف، غير أن مصادر تدفقات "الأموال الساخنة" اليوم لا يمكن تحديدها بهذه السهولة، ذلك أن صناديق التحوط، وصناديق الاستثمار، وشركات إدارة الأصول، وصناديق التقاعد، وصناديق الثروة السيادية تعمل من مختلف أنحاء العالم، وضمن ولايات قضائية شرعية، وضمن ما أطلق عليه سومسرت موم ذات يوم وصف "الأماكن المشمسة المأهولة بأناس ينعمون بالظل".
وحتى إذا كان من الممكن تحديد المقرضين بسهولة، فمن غير الممكن تحميلهم اللوم كله؛ فالمعاملات المالية تتضمن دائما المقترضين أيضا، وعلى عكس عمال الصلب المستغنى عنهم، نادرا ما يكون المقترضون المتخلفون عن سداد قروضهم "سواء من الأفراد أو الدول" ضحايا أبرياء؛ ففي عديد من الحالات، حصل كبار المقترضين على قروضهم عن طريق خداع المقرضين أو استخدام الصلات السياسية، كما فعل رفاق الرئيس الإندونيسي السابق سوهارتو.
في حين تتسبب أشكال السرد البارزة التي تتناول أشرارا بعينهم يسهل التعرف عليهم في جعل إدامة التكامل الحقيقي أمرا بالغ الصعوبة ــــ على الرغم من فوائده الشاملة الملموسة ـــ فإن غياب أشكال سرد مماثلة مقابلة يسمح للتكامل المالي بالاستمرار دون انقطاع. وهذا من شأنه أن يضع العالم على المسار نحو قدر أقل كثيرا من النوع الجيد من التكامل، ومزيد من النوع المشكوك فيه. ويستلزم تغيير هذا المسار توافر نوعين من الاستجابة؛ فلدعم التكامل الحقيقي، يتعين على صناع السياسات أن يعكفوا على تكوين شبكات أمان طموحة لحماية الخاسرين المحتمين، مع الحرص على تسليط الضوء على الفوائد الإجمالية التي يوفرها مثل هذا التكامل.
وربما تكون هناك حاجة أيضا إلى اتخاذ تدابير ملموسة ضد الجناة ــــ على سبيل المثال، الشركات والدول التي تسرق الملكية الفكرية بوقاحة ــ على الرغم من التكاليف المحتملة. من ناحية أخرى، يحتاج صناع السياسات إلى تحسين أدائهم في إدارة التكامل المالي، وهي المهمة التي ربما تكون أشد صعوبة، بسبب عدم المطالبة بها حقا من قِبَل أي جمهور انتخابي. ونظرا لطبيعة التمويل الضبابية شبه الشبحية، التي تستعصي على عملية بناء السرد السهل، فستكون مهمة ترويضه صعبة. لكن ترويضه واجب حتمي.