قيادة العالم: «دوبلكس» أم «تريبليكس»؟
بما أنني كدت أقتنع بأننا، أقصد أبناء جيلي، لن نعيش في الغالب في ظل نظام دولي تهيمن عليه وتقوده دولة عظمى واحدة، وبما أنني صرت أجد صعوبة في تصور قيام نظام دولي يلتزم علماء السياسة في دراسته القوالب التقليدية والمفاهيم القديمة من نوع نظام ثنائي القطبية وآخر متعدد الأقطاب، وجدت نفسي أخيراً منجذباً نحو مفاهيم أحدث، مثل مفهوم «قمة تريبلكس»، وكان استخدمه قبل شهرين اميتاف آشاريا، الباحث في العلاقات الدولية.
جرت في النهر مياه كثيرة منذ أن كان العالم يعيش تحت قيادة دولتين عظميين تتقاسمان الهيمنة بتفاوتات ملحوظة إلى حدٍ دفعَ صحافياً أميركياً مرموقاً إلى وصف القرن العشرين بأنه «القرن الأميركي»، باعتبار أن ذلك يتناسب في رأيه مع الفروق الشاسعة الفاصلة بين مساحة هيمنة القطب الأميركي وحجمها عن مساحة هيمنة القطب السوفياتي وحجمها.
لم تكن صفة القطبية الثنائية أو التفاوتات بين هيمنة القطبين أهم ما ميَّزت تلك المرحلة عما سبقها أو لحق بها من أحداث وأوضاع.
كان بودي لو سمحت المساحة أن أحصي أهم علامات التحول في العلاقات الدولية التي تفرض علينا الآن السعي وراء صوغ مفاهيم جديدة يستوعب الواحد منها حجم التغير أو التحول في قطاع أو آخر من قطاعات العمل الدولي. نظرة سريعة على الساحة العالمية في أي لحظة من أي يوم تكفي للدلالة على ما أقول.
نأخذ مثالاً يوم كتابة هذه السطور ونأخذ هذه اللحظة ونفكر بعقل ومفاهيم نصف قرن مضى. أظن أننا لو فعلنا لما فهمنا كثيراً أو قليلاً مِن حقيقة ما هو حادث في العالم ومغزاه في هذا اليوم وهذه اللحظة.
في بكين، انعقد المؤتمر التاسع عشر للحزب الشيوعي الصيني. القاعة هائلة الاتساع والفخامة. وحدها لا تشي بالتغيير. إنما التغيير كل التغيير تنطق به الحلل الداكنة التي يرتديها نواب الشعب وأعضاء الحزب ورجال اللجنة المركزية وأعضاء الحكومة.
لا صورة مِن الصور الفوتوغرافية التي خرجت من المؤتمر إلى العالم ترسم صورة فلاح، أو عامل يرتدي البدلة الزرقاء التي سميت ذات يوم باسم الرئيس ماو. لا سيدة أو فتاة ظهرت صورتها إلا وارتدت فستاناً غربي الطراز، ووضعت في قدميها حذاءً بكعب.
هذا في حد ذاته يرمز إلى التخلص من عادة لعلها الأسوأ منذ أن درج عرب الجاهلية على وأد بناتهم، وهي إجبار فتيات الصين على ارتداء حذاء حديدي لمدة لا تقل عن عشر سنوات للتأكد من أن قدمي الفتاة لن تنموَا مع بقية الجسد فتفقد أحد أهم مقاييس الجمال السائدة في الصين منذ قديم الزمن.
أذكر عن مرحلة تطبيق الاشتراكية القصوى كيف كانت لقاعات مؤتمرات الحزب، المحلية بخاصة، رائحة مميزة تفضح فقر المندوبين ونواب الشعب. أذكر أيضاً كلمات المسؤولين وهي تكشف بالمبالغة طموحات الحزب في الداخل والخارج وتفضح في الوقت نفسه عوزه وعجزه.
أما الصورة التي أراها الآن أمامي على الشاشة، فترسم صورة لقاعة تزهو بالثراء وتتباهى بالقوة. لا أرى تواضعاً عهدناه قبل ستين عاماً. أسمع خطاباً مختلفاً. سمعت في أولى الجلسات رئيساً، رهن التتويج زعيماً، يتحدث في ثقة عن عولمة جديدة صاغتها الصين في السنوات الخمس الأولى من عهده ورسمت خططها وجنَّدت دولاً فيها.
طرح الرئيس تشي في خطابه مسوغات لتطورات كثيرة لا بد من وجهة نظره أن تتحقق. يبرز في صدارتها أمران:
الأول أن الصين دولة عظمى ويجب أن تتصرف بهذه الصفة. هو أكد على هذا الأمر 26 مرة، وأعلن أن بلاده ستحتل المكانة الأولى عند منتصف القرن، وأنه شخصياً يستحق بما أنجز أن يلقب الزعيم الثالث للصين بعد ماو ودينغ.
الثاني هو أن المرحلة المقبلة ستستحق مِن الحزب والحكومة اهتماماً مضاعفاً بمسائل الأمن الداخلي. السبب بكل صراحة ممكنة هو التوتر الاجتماعي المتصاعد، بسبب ما أطلق عليه النمو غير المتوازن وغير الملبي لمطالب الغالبية العظمى.
هذا الوضع في السنوات المقبلة، سيتطلب المزيد من إجراءات الرقابة وتقييد الحريات واستخدامات الإنترنت ومقاومة أصحاب وجهات النظر الخاطئة. نجحت الصين، وها هي تقدم عبر تجربتها- وفق قوله- نموذجاً للتنمية تحققَ ونجحَ من دون الاعتماد على القيم والمؤسسات الغربية.
راح الغرب، لعقود كثيرة، يظن أن الصين ما دامت لا تطبق قيم الليبرالية الغربية، فهي لن تصل إلى أي موقع قريب من القمة الدولية. الصين، في رأيهم قد تتقدم ولكنها لن تحقق ما حققه الغرب الليبرالي. هذا الرأي ساقه كثيرون، ليس فقط فيما يتعلق بمستقبل الصين، ولكن أيضاً بمستقبل آسيا.
يعتقد مايكل أوسلين مِن معهد هوفر الأميركي أن الصين لن تهدد في المستقبل مكانة أميركا على رأس النظام الدولي. هي بالتأكيد سوف تتعثر في الطريق إلى القمة. أوليفر ستيونكل، باحث من البرازيل، يعتقد أنه لا أمل بأن يكون القرن الحادي والعشرون قرناً آسيوياً. هذان الباحثان وغيرهما كثيرون لم يدركوا بعد عمق الأزمة التي يمر بها النظام الليبرالي العالمي والغرب خصوصاً.
الخطر على الغرب الذي ينتظره علماء وخبراء غربيون لن يأتي، وفق رأي جوزيف ناي، في مقاله في «مجلة الشؤون الدولية»، من الصين، بل من سوء أداء النظام الليبرالي ذاته.
ولدينا الأمثلة غزيرة، منها- وفق رأيه- ظهور دونالد ترامب على مسرح الأحداث وبالتحديد في أميركا قلعة الليبرالية الغربية. منها أيضاً عملية البريكسيت (الخروج البريطاني) التي جسَّدت أخطر ما يمكن أن يصيب الغرب، وهو الانقلاب عليه من داخله ومن دولة بحجم وتاريخ بريطانيا الليبرالي.
أضف إلى ما سبق الانتشار الواسع لحركات شعبوية متطرفة يساراً أو يميناً في أنحاء القارة الأوروبية مهد الديموقراطية. الواقع يقول كذلك إن الغرب يعيش حالياً حالة «فزع ديموغرافي». هذا هو الخطر الحقيقي الذي يواجه الغرب وليس صعود الصين، وإن كانت الصين ذاتها تعتقد أن شيوع نموذجها في التنمية صار يهدد مكانة الغرب ومنظومة القيم الليبرالية.
يُقلق زعماء في غرب أوروبا وأكاديميين كثيرين وجود دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة. باتت تصرفاته وقراراته وأسلوب إدارته شؤون الدولة الأعظم، تسبب قلق حكومات كثيرة في العالم وبخاصة حكومات تعتنق القيم الليبرالية.
يذكر بكثير من الغضب أن هذا الرئيس اتخذ مواقف وقرارات ضد مبادئ التجارة الحرة وضد منظومة المؤسسات الدولية المتعددة الأطراف وضد الأعراف الخاصة بالاتفاقات الدولية التي تلتزم بها حكومته.
يذكر أيضاً لهذا الرئيس أنه أعلن نفسه ضد أي جهد أميركي يهدف إلى حماية الديموقراطية والدفاع عن الحقوق والحريات كلها وغيرها سلوكيات ومواقف صادرة من واشنطن، صميم النظام الليبرالي العالمي وقلبه. لم يذهب بعيداً مَن قال إن الضربة القاضية لهذا النظام العالمي قد تأتي من الرئيس دونالد ترامب.
* * *
الغرب منقسمٌ على ذاته، والدولة الأقوى وهي الأعظم تستأذن في التنازل عن مكانتها زعيمةً للنظام العالمي بعد أن تنازل رئيسها باسمها عن زعامة النظام الليبرالي العالمي.
الصين في الناحية الأخرى تصعد، وإن بسرعات متراجعة، نحو قمة حدَّدت للوصول إليها موعداً، منتصف القرن. تفخر الصين بأنها ستصل إلى القمة وستكون الأولى هناك. قد يتحقق وعد الرئيس تشي فتكون الصين الدولة الأولى في القمة ولكني أعتقد أنها لن تكون الوحيدة هناك.
روسيا تسعى إلى الهدف ذاته، ومثل الصين، قد تصل إلى القمة غير معتمدة على القيم الليبرالية الغربية. المتوقع في هذه الحال، لو صدقت الحسابات، أن تصعد هذه الدول ومعها ألمانيا باعتبار أن نسب النمو فيها جميعاً تميل إلى التقارب وليس إلى التباعد والفروق الواسعة. سيكون صعباً للغاية نجاح دولة إلى حد يسمح لها بالانفراد بمكانة الدولة الأعظم والقائد الأوحد.
* * *
سوف تكون هناك أكثر من دولة على القمة ولكن الجديد في الأمر هو أن القمة لن تكون بعد اليوم حكراً على الدول. اللاعبون، من غير فئة الدول، الصاعدون بسرعة وبقوة نحو القمة كثرٌ، ومرشحون للزيادة مع كل انحسار أو خسارة تصيب النظام الليبرالي العالمي. أعداد غفيرة مِن تحالفات قوى وحركات شعبوية ومنظمات غير حكومية نراها صاعدة أيضاً، على رغم النهاية المسرحية لظاهرة «داعش»، تنظيماتٌ إرهابية عالمية.
صاعدة في الوقت ذاته بنى اجتماعية جديدة عابرة للحدود والقارات سمحت بظهورها حالة وجدت مَن يطلق عليها اسم «الحداثة السائلة». تقول الأكاديمية الألمانية خبيرة الشؤون الدولية كريستينا كاوتش إن كل المفاهيم والأشياء المتعلقة بالنظام الدولي بل بالمجتمعات صارت سائلة، أي صارت مرنة. الوظائف والعلاقات الإنسانية عموماً ومنها العلاقات بين الجنسين لم تعد تعتمد قواعد صارمة أو جامدة كعهدنا بها في سابق الزمن.
تأكيداً لتحليلها تضيف كريستينا كاوتش حال الأمن القومي والإقليمي والعالمي بما لاحظته، وبالفعل لاحظناه في الشرق الأوسط، عن مرونة التحالفات التي كادت تنهي الأزمة السورية. عشنا خلال الحرب السورية ومفاوضاتها فترة لا تخلو من المفاجآت وعدم الفهم.
اختلطت مفاهيم كثيرة، المحلي والأجنبي، الحليف والخصم، الحرب والسلم، الإرهابي واللاإرهابي. هذا الارتباك في تنفيذ السياسات مدفوعاً بحالة السيولة أو متسبباً فيها، أثار مِن جديد مسألة أزمة الهويات وحالات انفراط ثقافي وتمرد واسع على الدولة ورغبات انفصالية.
لن تكون القمة الدولية كما عهدناها قمة تقتصر على الدول. رأيناها في السنوات الأخيرة تتوسع لتضم دولاً إقليمية شعرَ أهلُ القمة بضرورة وجودها. سوف يستمرون في دعوتها.
وسوف يدعون تنظيمات وشركات عابرة للدول ومنظمات مجتمع مدني دولي وشركات أمن خاص عالمية. لن تكون القمة بعد الآن على مستوى واحد، سوف يكون القرار الدولي نتيجة تشاور بين القوى العالمية كافة، دولاً كانت أم لاعبين من غير الدول.
قمة يضمها كيان مرن للقيادة يتوزع في مبنى متعدد الطبقات، تريبليكس مثلاً.
* جميل مطر مفكر مصري يكتب في الشؤون الدولية والإصلاح والتحول الديمقراطي، مدير المركز العربي لدراسة التنمية والمستقبل.