أميركا والهاجس الإيراني... المستمر
توجهت الأنظار مؤخراً الى واشنطن، حيث ألقى الرئيس الأميركي دونالد ترامب خطابا أعلن فيه قراره بشأن الاستراتيجية الأميركية الجديدة تجاه إيران ومصير الاتفاق النووي. وعشية هذا الخطاب سادت توقعات كثيرة. منها أن يرفض ترامب تصديق الاتفاق، او أن يطلب من الكونغرس فرض المزيد من العقوبات غير النووية، خصوصاً تلك التي تطال برنامج الصواريخ البالستية. كذلك فإن من المتوقع أن يطلب من المشرّعين أن يعدّلوا القانون الحالي، الذي يتطلّب من الولايات المتحدة تصديق التزام إيران بالاتفاق كل 90 يوماً. أما مساعدو ترامب للأمن القومي، فمتحدون خلف خطة تقضي بعدم التصديق على الاتفاق، مع الإبقاء عليه في مكانه والعمل على مراجعة بنوده.
في الوقت نفسه، خضع ترامب لضغوط متزايدة من قبل الحلفاء الأوروبيين وزملائه الجمهوريين من أجل الحفاظ على الاتفاق النووي. صحيفة "نيويورك تايمز " قالت:" إنه فيما قد يعلن رفضه للاتفاق عندما يتحدث عن استراتيجيته تجاه إيران، فإن المدافعين، والمعارضين السابقين للاتفاق، يحثونه على عدم حل الاتفاق بشكل كامل".
"وول ستريت جورنال" أفادت بأن خلافات ظهرت بين المسؤولين الأوروبيين بشأن كيفية الرد على دعوات من مسؤولين أميركيين لإعادة التفاوض على الاتفاق، وزيادة الضغوط على إيران ربطاً بأعمالها غير النووية. وأشار مراقبون إلى أن فرنسا تشدد على هواجسها التي تتعلّق بأن الاتفاق يسمح لإيران، مع الوقت، بأن تحصل على حرية أكبر من أجل العمل على أجهزة طرد متقدمة، والتي تسمح لطهران بأن تنتج اليورانيوم القابل لإنتاج سلاح نووي، بشكل أسرع، وقد استحضرت فرنسا هذه المسألة مع شركائها الأوروبيين ومع حكومتي روسيا والصين.
يتهم ترامب طهران بانتهاك "روحية" الاتفاق، كما يعتبر أن الاتفاق لا يشكل إلا جزءًا من ملفات يجب أن نعالجها في علاقتنا مع إيران، بينها الدعم المادي والمالي للإرهاب والتطرف، ومساعدة نظام الرئيس السوري بشار الأسد، والدور المزعزع للاستقرار في الشرق الاوسط كدعم حزب لله في لبنان وانصار الله في اليمن، والعداء القوي لـ"إسرائيل"، والتهديدات المتكررة لحرية الملاحة، والقرصنة المعلوماتية، وانتهاكات حقوق الإنسان .
فقد كان دونالد ترامب واضحاً منذ الحملة الانتخابية الرئاسية العام الماضي. فهو يعتبر أن هذا الاتفاق الأسوأ في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية. ثم أعاد تأكيد هذا الرأي في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول الماضي. في خطابه الأخير عاد مرة أخرى للموضوع. فقد عدّد انتهاكات إيران التقنية والسياسية للاتفاق. منها :
أولاً: محاولة إيران استغلال غموض بعض نصوص الاتفاق لزيادة كمية الماء الثقيل وعدد أجهزة الطرد المركزي عما يسمح به الاتفاق.
ثانيا: رفض التصديق الذي يتطلبه الكونغرس كل ثلاثة أشهر من الإدارة على مدى التزام إيران ببنود الاتفاق ومتطلباته.
ثالثاً: التزام إدارته بالاتفاق وعدم الإقدام على إلغائه وضع الشرط التالي: "في حال لم نتمكن من التوصل إلى حل بالعمل مع الكونغرس ومع حلفائنا، فإنه سيتم إلغاء الاتفاق".
ما يسعى إليه ترامب هو تعديل الاتفاق وإعادة التفاوض عليه من اجل استبداله باتفاق آخر يحمل توقيع ترامب وليس توقيع أوباما. وكل ما فعله ويفعله الرئيس الحالي منذ دخوله البيت الأبيض قبل تسعة أشهر فقط هو العمل على تدمير الإرث الذي تركه أوباما. من ذلك مثلا الانسحاب من اتفاق باريس حول المناخ والانبعاثات الحرارية، ومراجعة اتفاقات التجارة مع كل من كندا والمكسيك، والعمل على إلغاء قانون الرعاية الصحية الذي يعتبر مع الاتفاق النووي مع إيران من أهم إنجازات إدارة أوباما الذي ركز حصراً في مفاوضاته النووية على الجانب التقني، متجنباً تماماً وبشكل متعمد وإصرار مسبق الإطار السياسي الإقليمي الذي تعمل داخله إيران وبقية دول المنطقة.
وبهذا يكون ترامب قد وجه ضربة الى الاتفاق النووي دون ان تكون ضربة قاضية. تنصل من الاتفاق ولكن لم يمزقه ولم يعلن الانسحاب منه. حدد ما يريده بوضوح: تعديل مدة العقد حتى لا تكون متاحة لطهران مواصلة برنامجها بعد انتهاء هذه المدة، والتفاوض على برنامجها الصاروخي وتكبيل أذرعها في المنطقة. سبيله إلى ذلك هو إعادة فرض عقوبات شديدة عليها وعلى الحرس الثوري الرافعة الأساسية لاقتصادها في الداخل ويدها العسكرية في الخارج. وتعمد في كلمته التمييز بين القيادة الديكتاتورية والشعب. ما يبعث مخاوف القيادة من عودة العمل على تغيير النظام.
الجانب الأهم في كلام الرئيس الأميركي هو زعمه أن مشكلة العالم والشرق الأوسط مع إيران تتعلق بدورها خارج حدودها قبل أن تتعلق بحلمها النووي. قال: "سنعيد تنشيط تحالفاتنا التقليدية وشراكاتنا الإقليمية ضد التخريب الإيراني، واستعادة أكبر لاستقرار توازن القوى في المنطقة. سنعمل على حرمان النظام الإيراني من تمويل نشاطاته الخبيثة". وكانت عقوبات وزارة الخزانة ضد الحرس الثوري الثمرة الأولى لكلام ترامب.
ردود الفعل على خطابه أولاً جاءت من الداخل الأمريكي، فهناك ثلاثة احتمالات أمام الكونغرس: أولا، إعادة فرض العقوبات المعلقة. ثانيا، تجاهل طلب الرئيس، مما يعني أن الاتفاق يبقى ساري المفعول. أما الخيار الثالث الذي يقترحه ترامب فهو تعديل القانون الذي أقره الكونغرس في شأن مراقبة الاتفاق النووي وصياغته بطريقة تشمل فرض العقوبات على إيران تلقائيا إذا اتخذت خطوات تقربها من تصنيع أسلحة نووية أو تطوير صوارخ بالستية.
أما في الخارج، فإن الرفض الأوروبي جاء سريعا ليقيّد الاندفاعة الأميركية ويكبح جماح ترامب، مع الإشارة هنا الى أن الموقف الأوروبي ينحصر بالاتفاق النووي ورفض إلغائه ولا يشمل النفوذ الإيراني وعدم الحد منه.
وأما الترحيب الاول والأسرع، فإنه جاء من" إسرائيل "والسعودية: الإسرائيليون يعتبرون أن هناك فرصة لتصحيح الاتفاق النووي السيئ وإيقاف إيران في المنطقة ووضعها أمام خيارين: إما القبول بتعديل الاتفاق وتقديم التنازلات التي تطمح إليها" إسرائيل"، أو أن تؤدي ديناميكية التصعيد المتبادل والسقوف المرتفعة بين الطرفين إلى نقطة اللاعودة، بحيث يصبح لا بديل من الصدام. والسعوديون يعتبرون أن قرار ترامب شجاع ويمكن أن يكون بداية تصحيح إقليمية أو على الأقل وقف الزحف الإيراني.
لكن جهات دبلوماسية عدة ترى أن خطاب ترامب المتشدد جاء متأخراً في توقيته ودون أوراق عملية على الأرض لتنفيذ الاستراتيجية الجديدة. الجديد الذي حمله ترامب:
أولا عدم المصادقة على الاتفاق النووي.
وثانياً إدراج الحرس الثوري الإيراني على لائحة وزارة الخزانة 13224 الخاصة بداعمي الارهاب
هذان البندان هما ورقتا ترامب للضغط على إيران:
الورقة الأولى تجعل من الاتفاق النووي الايراني "رهينة" بيد ترامب، وقد تمهد الى تفكيكه في حال عدم موافقة الأوروبيين على بنود جديدة يصوغها الكونغرس خلال شهرين لتقوية مضمون الاتفاق.
والورقة الثانية فيها تهديد ضمني للحرس الثوري الايراني بإدراجه للمرة الأولى بالكامل "كداعم للارهاب" وفتح نافذة صغيرة على العقوبات الاقتصادية ضده، فيما قد تكون الخطوة المقبلة إمكان ادراج الحرس كمنظمة أجنبية ارهابية على لائحة الخارجية الأميركية، ما قد يفتح باباً عريضاً من العقوبات الاقتصادية والمصرفية الدولية ضده.
عدا عن هذه الخطوات، يصعب التفكير اليوم بأدوات يملكها ترامب لقلب قواعد اللعبة ضد إيران. فما من شك بأن الإدارة ترى تضارباً في مصالحها الاستراتيجية مع النظام الإيراني إقليمياً ودولياً. فالدور الأميركي بأخطائه من غزو العراق، الى التخبط في أفغانستان، والضياع الكامل في سوريا، ثم الرهان أن الاتفاق النووي سيغير تصرف إيران، ساهم مباشرة بتمدد نفوذها الى مستوى قياسي لم تعد واشنطن تملك مفاتيح إعادته الى الوراء.