المسألة الكردية بين العقل والعاطفة
لكل شعب الحق في العيش داخل وطن خاص به، وفي تأسيس دولة مستقلة يختار بنفسه نظامها السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي يريد دون تدخل أو إكراه من أحد.. تلك خلاصة الحكمة التي توصل إليها المجتمع الدولي بعد صراعات عرقية ودينية وطائفية امتدت لآلاف السنين، وعكستها عبارة «حق تقرير المصير» التي وردت وترددت أكثر من مرة في ميثاق الأمم المتحدة. غير أن الاعتراف بـ«الحق» شيء وترجمته إلى برنامج عمل قابل للتطبيق شيء آخر.
فسكان العالم ينقسمون إلى شعوب وأمم وقوميات وأعراق مختلفة، يقدر البعض عددها بالمئات ويقدرها آخرون بالآلاف. ولحسن الحظ فقد ساعدت عوامل كثيرة، كحركات الهجرة وانتقال السكان عبر الأزمان، والكشوف الجغرافية وما صاحبها من تمدد استعماري للقارة الأوروبية، والتطور الهائل الذي شهده العالم في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية نتيجة للثورات العلمية والتكنولوجية المتلاحقة، على تداخل وامتزاج الشعوب إلى الدرجة التي أصبح من النادر أن نجد في عالم اليوم دولة واحدة متجانسة عرقيا أو دينيا أو طائفيا أو لغويا بشكل كامل.
ففي كل دولة معاصرة «أقليات» يختلف نوعها ووزنها وثقلها ودرجة اندماجها في المجتمعات التي تعيش فيها من حالة إلى أخرى، وهو ما يفسر استمرار معاناة العديد من الدول، بما فيها دول ديمقراطية عريقة كفرنسا وبريطانيا وغيرها، من «حركات انفصالية» تسعى لاستقلال جماعات قومية بعينها تقطن أقاليم أو مناطق جغرافية وتشكل أغلبية سكانها، وهو ما ينطبق على وضع الأكراد في بعض الدول الشرق أوسطية. غير أن المسألة الكردية ولأسباب عديدة، تبدو أكثر تعقيدا وخطورة.
فإجمالي عدد الأكراد في العالم يصل إلى حوالي 30 مليون نسمة، أكثر من نصفهم يقطن الأقاليم الجنوبية لتركيا، والباقي يقطن أقاليم متاخمة في إيران (6 ملايين)، والعراق (4 ملايين) وسوريا (2 مليون)، بينما يعيش 7 % فقط من الأكراد خارج هذه الدول الأربع، خصوصا في جنوب غرب أرمينيا وبعض مناطق أذربيجان ولبنان.
ولأن المناطق التي يقطنها أكراد تركيا وإيران وسوريا والعراق تتجاور وتشكل معا إقليما جغرافيا واحدا يسمى «كردستان»، يطمح أكراد العالم، والذين يشكلون إحدى أكبر القوميات التي لا تملك دولة مستقلة أو كياناً سياسياً موحداً، في أن يتمكنوا يوما ما من إقامة «دولة كردستان الموحدة»، رغم انقسامهم إلى مجموعات إثنية متباينة نسبيا (الكرمانجي، والكلهود، والكوران واللور).
لا يجادل أحد في أن أوضاع الأكراد داخل كل من تركيا وإيران وسوريا والعراق تتباين كثيرا. وقد ساعدت عوامل عديدة تاريخية وسياسية وثقافية وغيرها على تحول المسألة الكردية في العراق بالذات إلى صراع مفتوح يتفاقم باستمرار بسبب إصرار قوى إقليمية معادية، خاصة إيران الشاهنشاهية سابقا وإسرائيل حاليا، على استخدامها كأداة للضغط على الحكومة المركزية.
مع ذلك فقد كان الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003 هو العامل الأكثر حسما في تحول الأزمة الكردية إلى معضلة غير قابلة للحل، خصوصا وأن كردستان العراق أصبحت دولة أمر واقع في ظل هذا الاحتلال، ثم جاء تنظيم «داعش» فمنح الأكراد، تحت غطاء «الحرب على الإرهاب»، فرصة ذهبية للحصول على أسلحة ثقيلة لجيش يصلح نواة لدولة مستقلة.
غير أن حق الأكراد في «تقرير المصير»، وهو حق معترف به نظريا لكل شعوب العالم، يتصادم مع حق آخر لا يقل رسوخا في القانون الدولي، هو حق الدول ذات السيادة وواجبها في حماية وحدة ترابها الوطني.
لذا فرغم تفهمنا العميق للمشاعر القومية لأكراد العراق، إلا أن الانفصال ليس هو الحل الأسلم عقلانيا أو الأصلح للشعب الكردي نفسه، لأنه سوف يؤدي حتما إلى زيادة حدة الصراعات في المنطقة، وقد يؤدي إلى تدهور أحوال الأكراد أنفسهم ليس فقط داخل العراق وإنما في كل البلدان المجاورة.
ونجاح البرزاني في إجراء استفتاء على الانفصال عن العراق لا يعني أبدا أنه سينجح في إقامة دولة كردية مستقلة، خصوصا وأن الاستفتاء جرى أيضا في مناطق لا تقطنها أغلبية كردية، لأن قيام دولة كردية مستقلة إلى جوار العراق سيصبح عامل ضغط أو إغراء لتفتيت تركيا وإيران وسوريا والعراق.. دولة وحيدة في المنطقة ستشعر بالسعادة لدولة كردية في العراق ألا وهي إسرائيل، لكن هذا سيكون أيضا أحد عوامل إجهاضها.
لا حل حقيقيا للمسألة الكردية، ولمسألة الأقليات في منطقة الشرق الأوسط، إلا بإقامة دولة المواطنة.
* د. حسن نافعة أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة