«لإيران حدود مع إسرائيل، لكن لا يوجد لإسرائيل حدود مع إيران»
علي حيدر
بنظرة أولية، يصحّ وصف «لقاء نتنياهو ــ بوتين» في مدينة سوتشي بأنه امتداد للقاءات الثلاثة السابقة بينهما، التي توالت منذ التدخل العسكري الروسي المباشر في الساحة السورية قبل نحو سنتين. لكن التحولات الميدانية والسياسية التي شهدتها الساحتان السورية والإقليمية، وفشل الوفد الاستخباري الإسرائيلي الرفيع (إلى واشنطن) في انتزاع التزامات أميركية تتبنى السقف الإسرائيلي المرتفع إزاء أي ترتيب سياسي يتصل بمستقبل سوريا، قد تجعل هذا اللقاء في سياق محطات مفصلية.
ويعود ذلك إلى أن تل أبيب باتت مضطرة إلى التعامل مع واقع بدأ يتجذر في وعي قادة الجيش الإسرائيلي، على شاكلة مفهوم مفاده أنه بات «لإيران حدود مع إسرائيل، لكن لا يوجد لإسرائيل حدود مع إيران»، وهو ما يعني إسرائيلياً المزيد من تعزيز قدرة الردع الإقليمية المضادة، وأيضاً المزيد من التضييق على خياراتها العدوانية في مواجهة محور المقاومة.
لو نجحت اللقاءات التي عقدها مسؤولو الاستخبارات الإسرائيليين في الولايات المتحدة في تحقيق ما كان يأمله صناع القرار السياسي في تل أبيب، لما كان هناك حاجة ملحّة إلى عقد مثل هذا اللقاء مع الرئيس فلاديمير بوتين، أو على الأقل لكان موقع رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، في هذا اللقاء، مختلفاً جذرياً عما هو عليه الآن. وفي هذه الحالة، كان المفترض أن يتصدى لهذه المهمة الطرف الأميركي الذي رأى موقع «قناة 20» الإسرائيلي أنهم «في البيت الأبيض أنصتوا، واطّلعوا على المعلومات، وبعبارة لطيفة: زَحَطوا أعضاء الوفد». وفسّرت القناة نفسها العزوف الأميركي عن تبني هذا السقف بأنه لدى «الرئيس (الأميركي دونالد) ترامب ما يكفي من الأزمات فوق رأسه، وهو لا ينوي التعمّق في اتفاق في سوريا. بالنسبة إليه، تحقيق هدوء في هذا البلد المشرذم هو إنجاز سياسي ضخم رغم تداعياته على الصديقة الأفضل في الشرق الأوسط»، في إشارة إلى إسرائيل.
مع ذلك، تبقى حقيقة ماثلة، هي أن الوفد الاستخباري الإسرائيلي حمل إلى واشنطن سقفاً سياسياً لا يتلاءم مع معطيات الميدان، هو أقرب إلى الأماني والطموحات منه إلى الوقائع الميدانية والسياسية التي تبلورت في الساحة السورية. هذا التباين بين المطالب وبين معطيات الواقع، حضر بصورة أو بأخرى في مقاربة الخبراء والمعلقين الإسرائيليين، ومن أبرز هؤلاء رئيس «مجلس الأمن القومي» الإسرائيلي السابق، اللواء يعقوب عميدرور، الذي عقّب على خطاب الرئيس السوري، بشار الأسد، بالقول إنه «بفضل الرجال الثلاثة الذين ذكرهم الرئيس الأسد (السيد علي خامنئي والسيد حسن نصر الله، والرئيس فلاديمير بوتين)، وبفضل تدخلهم الكثيف، هذا يعني شرقاً أوسط أصعب بكثير بالنسبة إلينا».
هكذا وجدت تل أبيب نفسها في مواجهة واقع سوري وإقليمي لم يكن يخطر في حساباتها ولا حسابات العديد من الأطراف الإقليمية، وتحديداً في ظل أن روسيا، الحليفة للنظام السوري والتي تتقاطع مساحة واسعة من مصالحها في المنطقة مع الجمهورية الإسلامية في إيران، باتت المدخل الإلزامي والمفتاح الأساسي لأي ترتيب سياسي. لكن التسليم بهذه الحقيقة لم يتبلور إلا بعد فشل الرهانات على تعثر الجيش الروسي أو تحول سوريا إلى مستنقع لروسيا. وتبددت هذه الأحلام بفعل الانتصارات الميدانية لمحور المقاومة التي توالت تصاعدياً، وصولاً إلى استعادة مدينة حلب، والتوجه نحو الشرق إلى الحدود العراقية.
في النتيجة، يصحّ القول إن فشل الوفد الاستخباري في الغرب الأميركي دفع نتنياهو إلى المبادرة بنفسه إلى طرق أبواب الشرق الروسي. ووفق القناة الإسرائيلية نفسها، «عندما أُغلق الباب الأميركي، جرّب نتنياهو حظه مع الرئيس الروسي الذي سيلتقيه في سوتشي». ويمكن تلمّس بعض معالم مهمة رئيس الوزراء الإسرائيلي عبر طاقمه المهني في الرحلة: رئيس «مجلس الأمن القومي»، مئير بن شبات، رئيس «الموساد» الذي عاد قبل أيام من واشنطن ويفترض أن يساعد نتنياهو في «التوضيح لماذا هذا الاتفاق (الروسي ــ الأميركي) سيئ، ليس لإسرائيل فقط، بل للعالم الغربي بأسره. في غضون ذلك، سيقرأ بوتين المواد الاستخبارية التي ستُعرض عليه.
مع ما سبق، من غير المتوقع أن يحقق الإسرائيلي عبر البوابة الروسية ما فشل في تحقيقه عبر الأميركية، لكن صحيفة «إسرائيل اليوم» لفتت إلى أنهم «في القيادة السياسية ــ الأمنية، منقسمون إزاء مدى إمكانية إقناع روسيا بكبح إيران. فمن جانب، هناك جهات تعتقد أن الرؤية الروسية مستهترة وضيقة ومحركها الأساسي مصالح اقتصادية والعداء للغرب. ومن جانب ثانٍ، يعتقد آخرون أنه في حال تقديم صورة واضحة لبوتين على مدى فترات زمنية، مدعومة باستخبارات دامغة، عندئذ سيقتنع بأن الأنشطة الإيرانية تقوِّض النظام الإقليمي، وبذلك تعرّض المصالح الروسية في الشرق الأوسط للخطر».
على هذه الخلفية، توقع معلقون إسرائيليون أن «يحذّر نتنياهو بوتين من أن تعميق التدخل الإيراني في سوريا ولبنان يمكن أن يدهور المنطقة إلى حرب»، فيما ذهب آخرون إلى التعبير عن هذا التوجه بطريقة مباشرة، عبر القول إنّ «من المتوقع أن يوضح الأول للثاني أنه إذا لم يُعمَل على ضبط الهلال الشيعي والحؤول دون التواصل الجغرافي لأطراف محور المقاومة، فقد تستخدم إسرائيل القوة لضمان مصالحها». وتستند هذه الرسائل إلى تقدير مفاده أن موسكو ستبذل كل جهودها للحؤول دون نشوب هذه الحرب عبر ممارسة الضغوط على أصدقائها وحلفائها في سوريا والمنطقة.
في المقابل، هناك انطباع مضاد في تل أبيب يؤكد أن «فرصة نجاح هذا النضال ضعيفة. فنتنياهو ورجاله يحاولون، ويكافحون، لكن بالفعل مثلما وُقّع الاتفاق النووي مع إيران رغم أنف إسرائيل وغصباً عنها، هكذا هو أيضاً مستقبل الاتفاق في سوريا». في السياق نفسه، يندرج ذلك مع ما أورده المعلق السياسي في القناة الثانية الإسرائيلية، أودي سيغل، عندما قال: «لا يملك نتنياهو أي ضمانة من القوى العظمى تقول إنه في أي اتفاق لن يكون الإيرانيون هنا، وهذا في الحقيقة أمر مقلق... لكن التمركز الإيراني في سوريا، الجبهة الثانية، هو لعبة جديدة. ونتنياهو يحاول الإقناع».
ما تقدم ليس إلا عينة بسيطة عن الضجيج السياسي والإعلامي السائد في تل أبيب بفعل الهلع الذي أصابها، وذلك في ضوء المفاعيل المقدرة للانتصار الذي حققه محور المقاومة في سوريا. ونتيجة ذلك، تبذل كل جهودها الدبلوماسية للحد من تداعياته على الأمن القومي الإسرائيلي. لكن مشكلة تل أبيب أن هامشها في المبادرة بات أضيق مما تطمح ومما كان عليه سابقاً. وهو ما وضعها أمام إشكالية تنطوي على فجوة عميقة بين الرغبة والطموح، وبين قيود الواقع ومعادلات القوة الإقليمية.
ومن هنا أتت مقاربة عميدرور أيضاً، بالقول إن إسرائيل باتت أمام شرق أوسط «حيث للإيرانيين فيه الكثير من القوة»، وهو ما سيضعها أمام محطة مفصلية تضطر فيها إلى «اتخاذ قرارات حول ما عليها فعله لمنع سيطرة إيرانية كاملة على مناطق مهمة بالنسبة إلينا مثل هضبة الجولان. وهذا يعني أننا في بعض الحالات سنضطر إلى تفعيل المزيد من القوة على نحو أكبر مما فعلنا في الماضي، أو نتقبل الواقع، وهو أن إيران تحولت إلى عنصر جدي جداً وقريب منا مع ممر يمتد من طهران عبر بغداد إلى دمشق والبحر المتوسط... وإذا لم نتدخل بالقوة، فإن العالم لن يتدخل».
في كل الأحوال، القدر المتيقن الذي يمكن تقديره هو أن نتنياهو سيبقى يكرر سقفه السياسي المرتفع، رغم أنه لا يملك مقومات تحققه، بفعل موازين القوى الميدانية والسياسية، لكن لأنه يجسد المصلحة الإسرائيلية الفعلية في الساحة السورية. في النتيجة، سنبقى نسمع مطالبه بإخراج إيران وحزب الله من سوريا، ومنع تبلور واقع ميداني يعزز قدرة الردع الإقليمية في مواجهة إسرائيل. لكن على المستوى العملي، سيضطر صانع القرار في تل أبيب إلى أن يكون أكثر واقعية، ويحاول التكيف مع حقيقتين مترابطتين، هما أن محور المقاومة انتصر في سوريا، وأن الاتفاق الروسي ــ الأميركي لا يستطيع تجاهل هذه الحقيقة الميدانية.
المصدر