إعدام في لبنان؟
ليست المعرفة من صفات السياسيّين اللبنانيّين. لكنْ ينبغي ألاّ يصير الجهل أهمّ صفاتهم.
كلام بعض الرسميّين، عن تفعيل قانون الإعدام، ينبّه إلى خطر كهذا. إنّه أيضاً دليل آخر على التراجع الذي ألمّ باللبنانيّين وبساستهم.
الأمثلة لا تُحصى على أنّ حكم الموت لم يؤدّ مرّةً إلى الحدّ من الجرائم. ما من إحصائيّة تقول العكس. هذا ما يصحّ على رقعة جغرافيّة تمتدّ من الصين إلى الولايات المتّحدة. ما يحصل، مع أحكام الموت، هو استعراض طقسيّ وبدائيّ للثأر والانتقام، وبالتالي مزيد من تسميم الأخلاق والعلاقات الاجتماعيّة القائمة. إنّه استخراج لأسوأ ما فينا وتحويله إلى مثال خلاصيّ وقدوة عامّة.
المجتمع المعنيّ، فوق هذا، يُحرَم فرصة التعلّم من تجربة في المحاكمة تصنعها القوانين والقيم بوصفها أداة التحكيم. وهذا فضلاً عن أنّ عقوبة الموت قد تنزل بأبرياء فشلوا في الدفاع عن أنفسهم، أو إثبات براءتهم، أو شُهد عليهم زوراً. فكيف، والحال هذه، تُردّ لهم حياتهم المهدورة؟
في الولايات المتّحدة ظهرت دراسات عدّة تربط هذه الممارسة بالعنصريّة في الجنوب، وبالعنف الذي صاحبها أو نتج منها. وبالمعنى نفسه الذي جعل الجنوبيّ الأسود أوّل ضحايا الإعدام، يمكن القول إنّ الأشرار الضعفاء، أو الضعفاء المشتبه بأنّهم أشرار، هم الذين سيكونون ضحايا هذه الممارسة. العقاب هذا لن يُطبّق على الأشرار الأقوياء وتابعيهم الذين يربطهم بالسلطة والمال ألف جسر ورابط. رقاب هؤلاء أثخن من أن يلتفّ حولها حبل.
العقل البسيط قد يطالب بإنزال الموت بمن أنزل الموت بغيره. ظاهر القول عداليّ ومساواتيّ. لكنْ بموجب هذه «العدالة»، ووفقاً لمنطقها، تصير العقوبة العادلة بحقّ السارق أن يُسرَق، وبحقّ المغتصِب أن يُغتصَب. هذا التناول لا يعني إلاّ رفع القاسم المشترك الأدنى بين اللبنانيّين، وهو الغريزة، إلى سويّة الحَكَم: الغريزة الثأريّة تغدو هي الدولة وهي القانون. الدولة، في هذا المعنى، لا تغيّر المجتمع الأهليّ للأفضل. إنّه يغيّرها للأسوأ.
والدولة والقانون اللبنانيّان يعانيان اليوم الحصار الذي تفرضه عليهما دولة «حزب الله» وسلاحها الذي لا يُمسّ، والحصار الآخر الذي تمثّله الاقتصادات الموازية وجزر الفساد المتعاظمة الاتّساع في الاقتصاد الوطنيّ. وليس مفيداً ولا أخلاقيّاً تعريض الدولة لحصار آخر هو المحفل الغرائزيّ للجماعات الطائفيّة. والمحفل هذا ضخم وشعبيّ بالتأكيد، وهو، في لبنان كما في غيره من البلدان، يجلب الشعبيّة على من يدعو إلى حكم الموت. وقد يستطيع السياسيّ اللبنانيّ المؤيّد للإعدام أن يجعل موقفه خميرة لـ «وحدة وطنيّة» جديدة، تنضوي فيها أكثريّة اللبنانيّين قبل أن تعاود الطوائف تفجير هذه «الوحدة» في نزاع على قضايا أخرى. يعزّز هذا الافتراض أنّ القتل في هذه الحالة متّفَـقٌ عليه بين غرائز الطوائف، ضدّاً على القتل الطائفيّ والسياسيّ الذي تتخاصم حوله تلك الغرائز. لكنّ «وحدة وطنيّة» تكون الغريزة لُحمتها، والدم صمغها، لا تثير إلاّ الخجل والقرف. إنّها تحمل ما اختزنته من عنف إلى الصراعات الطائفيّة المقبلة. إنّها تسير بنفسها وبنا إلى أقرب مقبرة.
وبالمناسبة، وعلى عكس ما يقوله بعض الرسميّين من أنّ للدول خصوصيّاتها، فمعظم شعوب العالم عرفت هذا السجال بين مؤيّدي حكم الموت ومناهضيه. ودائماً كانت تصطفّ الفئات الأشدّ تنوّراً ضدّ هذا الحكم، فيما تنتفخ جبهة مؤيّديه بقُساة يتذرّعون بالخصوصيّة وبنسبيّة القيم. لكنْ خلف الواجهة، يتبدّى كم أنّ شعباً ارتكب حرباً أهليّة، ولا يزال مستعدّاً لارتكاب مثلها، بحاجة إلى فعل تطهّريّ يوفّره حكم الموت بحقّ غريب أو لاجئ، أو ربّما بحقّ شرّير صغير، أي كبش محرقة نرقص جميعاً فوق جثّته.
وأيضاً يتبدّى أنّ الجمهور الأشدّ حماسة لإنزال حكم الموت هو الجمهور الأشدّ حماسة لخوض الحروب الأهليّة، أي لارتكاب القتل المعمّم. حاملو رُخص السلاح الرسميّ وأزلام الزعماء المحصّنين ومطلقو الرصاص العشوائيّ وأصحاب «السلاح المتفلّت» عيّنات صغرى على واقع كهذا. أم أنّ مناهضي حكم الموت على «فايسبوك» هم هؤلاء المجرمون!؟