طوفان الأقصى… من غزة إلى غراسنوسورك وحلب

ishraq

الاشراق|متابعة 

على الرغم من ازدياد تهديدات الانكفاء الأميركي لأسباب ذاتية خاصة بآليات انهيار الإمبراطوريات، فإن واشنطن التي تقود النظام الغربي أثبتت قدرتها على رسم سيناريوهات متعددة للصراعات القادرة على تفجيرها في أكثر من منطقة في العالم.

لم تفاجئ العملية الإجرامية الواسعة التي قامت بها مجموعة عسكرية مسلحة في غراسنوسورك بالقرب من موسكو الكثيرين ممن ينظرون إلى لوحة الصراع العالمية، ويدركون بأن مجمل العمليات الإجرامية التي تتم في العالم لا تخرج عن اتهام المهندس الأول لها في العالم العائدة للبّ النظام الغربي وهي الولايات المتحدة في هذه المرحلة من التاريخ المعاصر، التي اصطنعت الجماعات الإرهابية المسلحة لصالح مصالحها الاستراتيجية الكبرى.

وهي لا تنفصل عن الهجوم المزدوج الأوسع الذي تمّ بالطيران الحربي "الإسرائيلي" على مناطق متعددة في محيط حلب، والذي ترافق مع هجوم بري واسع في ريف حلب الشمالي، قامت به أعداد كبيرة من أفراد هيئة تحرير الشام "جبهة النصرة" واستخدامها للطيران المسيّر في ضرب مواقع ومراكز في مدينة حلب ومحيطها، والتسبّب بأكبر نسبة من التدمير والإصابات والشهداء منذ توقّف العمليات العسكرية الكبرى عام 2019.

وهاتان العمليتان تؤكّدان أنّ ساحات الحرب في سوريا وأوكرانيا وغزة هي ساحة واحدة للمواجهة بين القوى التي تعمل على تحقيق استقلالها الاستراتيجي وفقاً للتعبير الصيني، وبين قوى النظام الغربي الذي يخوض حروب الدفاع عن استمرار هيمنته على مسارات السياسة العالمية، وهما تأتيان في سياق التصعيد الكبير بعد الحرب المستمرة في غزة، وإدراك النظام الغربي بمخاطر المرحلة الزمنية الممتدة منذ بدء ما يسمّى "الربيع العربي" حتى الآن. 


على الرغم من ازدياد تهديدات الانكفاء الأميركي لأسباب ذاتية خاصة بآليات انهيار الإمبراطوريات، وبفعل صعود القوى الآسيوية الصاعدة وتمدّدها إلى أفريقيا وأميركا اللاتينية ضمن إطار مجموعة "بريكس"، فإن الولايات المتحدة التي تقود النظام الغربي أثبتت  قدرتها حتى الآن على رسم سيناريوهات متعددة للصراعات القادرة على تفجيرها في أكثر من منطقة في العالم، اعتماداً على المكوّنات الاجتماعية المتنوعة في كل منطقة من مناطق العالم، وهي في طور التحضير لتفجير قلب آسيا، وخاصةً في القوقاز حيث تتهيّأ الأرضية من خلال الصراع الأرميني الآذربيجاني، ومن بعدها في كازاخستان التي تؤدي دوراً خطيراً بجغرافيّتها السياسية المتاخمة لروسيا شمالاً والصين شرقاً. 

وهي من خلال تفجير هاتين المنطقتين يمكنها أن تهدّد الأمنين القوميين لكلّ من روسيا وإيران عبر القوقاز، والأمنين القوميين لكلّ من روسيا والصين باستخدام العاملين الديني المذهبي والقومي التركي في تحريك الاضطرابات في جنوب روسيا حيث توجد أقليات تركية مسلمة، وفي إقليم شينجيانغ حيث توجد أيضاً أقليات تركية مسلمة، وفي كلا المنطقتين يتم التعويل على دور تركي متقدّم بما لتركيا من حظوة عاطفية وعقائدية لدى هذه الأقليات.

هذه المشاريع الأميركية المستقبلية لا تنفصل عن مشروعها الحالي في شمال سوريا والعراق، خاصةً بعد زيارة واشنطن التي قام بها وزير الخارجية التركي حقان ڤيدان، وهو المسؤول المتمرس السابق عن الاستخبارات التركية خلال الحرب على سوريا والمستمرة حتى الآن، إضافة إلى رئيس الاستخبارات الجديد إبراهيم قالن الأكاديمي الذي كان متحدثاً رسمياً باسم الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، والعارف جيداً بما يجول برأسه من طموحات إمبراطورية ذات جذور جغرافية وتاريخية.

بيّنت الهجمات الجوية "الإسرائيلية" الأعنف على حلب، المترافقة مع الهجوم البري لهيئة تحرير الشام "جبهة النصرة" على ريف حلب الشمالي، حجم التنسيق الواسع والعميق بين الطرفين ضمن الاستراتيجية الأميركية الجديدة، وأعادت إلى الأذهان خطورة منطقة إدلب بالذات ليس على سوريا فقط، وإنما على الأمن القومي لكلّ من إيران روسيا والصين، إذا ما تم الربط مع العملية الإرهابية الكبيرة "كروكوس" في روسيا، التي قامت بها مجموعة من الإرهابيين الطاجيكستانيين الذين لم تكشف الأجهزة الأمنية الروسية عن تاريخهم وارتباطهم بمنطقة إدلب بعد. 

هذا مع العلم أنّ جهاز الاستخبارات البريطاني MI6 لم يخفِ دوره بتجميع فلول الإرهابيين الذين نجوا في سوريا عام 2018 ضمن إطار "التحالف الوطني الطاجيكستاني"، إضافة إلى اعتراف مسؤول الاستخبارات البريطاني السابق "السير أليكس يونغر" باختراق جهاز استخباراته لقيادات تنظيم "داعش" قبل عام 2020، عدا عن العلاقة الحميمة التي تربط بين الرئيس التركي رجب طيب إردوغان برئيس جهاز الاستخبارات البريطاني الحالي ريتشارد مور عندما كان سفيراً لبلاده في تركيا.

على الرغم من الموقف السياسي المهم لكلّ من روسيا والصين في مجلس الأمن باستخدامهما لحق النقض "الڤيتو" ضد المشروع الأميركي الأخير، الذي حاول فيه تمييع استمرار حرب الإبادة ضد أهل غزة، فإن ذلك الموقف لا يرقى إلى حجم التهديدات الاستراتيجية لكلا البلدين من قبل الولايات المتحدة، وما زالا في موقع الدفاع عن نفسيهما، حتى في حالة الحرب في أوكرانيا على الرغم من مبادرة الجيش الروسي في بدء الحرب فإنها من حيث المضمون هي حرب دفاعية متقدمة عن الأمن القومي الروسي.

 كذلك الأمر في سوريا فعلى الرغم من التهديدات العالية للوجود الروسي في سوريا، وخاصةً ما يتعلق بالتحركات العسكرية للمجموعات الإرهابية في إدلب والتنف تجاه مناطق وجود الجيش السوري وحلفائه، على الرغم من مخاطر إدلب التي تُعتبر بمثابة خرّاج متقيّح ثبت دوره العالمي في تهديد الأمن القومي لكل من روسيا والصين وإيران، بإيوائه للمجموعات الإرهابية العالمية التي تخدم الاستراتيجية الأميركية، ومع ذلك فإن طبيعة الموقف الروسي لم تتجاوز سياسة "عدم الإزعاج" التي يسعى لتحقيقها لنفسه في سوريا، وتحرّكه العسكري مرتبط بطبيعة التهديدات المباشرة والاستعداد للمرحلة المقبلة.

تُعتبر هذه المرحلة حرجة جداً بالنسبة للأمن القومي الروسي المرتبط بالحروب الثلاث المستمرة بمستويات مختلفة في سوريا وأوكرانيا وفلسطين المحتلة، ولا يمكن لروسيا أن تستمر بتفكيك هذه الملفات عن بعضها، فهي واحدة من حيث المحرك الأساسي لها، وهي الدولة العميقة في الولايات المتحدة المتمثلة بالشركات الكبرى والشخصيات الأوليغارشية المتموّلة التي لا يمكنها أن تتخلى عن الكيان الصهيوني الذي يعتبر صاحب الدور الأساس في النظام الغربي عامةً، وهي تحتاج لخطوة متقدّمة بإسقاط الرهان على علاقة طبيعية مع الكيان، والتقدّم نحو ربط الساحات الثلاث بشكل أوسع، والربط الأهم هو التحرّك في سوريا وفلسطين ومنع إسقاط نتائج عملية "طوفان الأقصى" بمرحلتها الثانية والمستمرة إلى أجل غير واضح المعالم حتى الآن.

Copyright © 2017 Al Eshraq TV all rights reserved Created by AVESTA GROUP