07/03/2018
ثقافة و فن 935 قراءة
عهد التميمي.. حكاية فتاة لديها أحلام كثيرة سلبها منها الاحتلال
عهد التميمي
"لو لم يكن هناك احتلال لاحترفت كرة القدم" صرخة الأحلام الكبرى التي لفتت العالم نحو فتاة، شقراء عيونها، نافذة حدقاتها، خارقة أسوار القبة الحديدية، قالعة جذور الغرقد، ومحطمة أحجار الحائط وجدار الفصل العنصري، فلسطينية قلبها وقالبها، أبيّة في روحها وموقفها، فتاة في زهرة شبابها وروعة جمالها، من بلدة النبي صالح عليه السلام، النبي الذي لا يزال يقف على وجه الباطل رغم الوقار والسكينة.
وقد احتلت جوانح قلبي تلك الصفعة التي قضت على وجه الاحتلال الإسرائيلي، صفعة مثلت نوايا الأمة المكتومة في صدرها، بل لأجلها بكت الأجيال وتنهدت ملتصقة بوسادتها في جنح الليل، ورسمت في الجدران بفراشات الحرية وألوانها إرهاصات العودة والرجوع إلى مسقط الرؤوس، وكانت صفعة توحي معنيات المجد والكرامة التي ظنها البعض أنها في حالة من الخمول والانقراض، فقالوا إن القدس مجرد قضية للنقاش والحوار، صفعة فيها تغريدات الحنين إلى بلد الأنبياء ومسرى النبي وبلد التين والزيتون، صفعة أثلجت الصدور بعد النكبة الكبرى والنكسة النكراء، صفعة على جبين المحتل، والتي سلت قليلاً من مرارة الذل المستطيلة السارية من وعد بلفور إلى عهد ترامب.
لحظة سجّلت في قلبي ولادة خنساء من جديد، وتجسيد كرامة الوطنية خلال مخالب نشبت في الحرية والعدالة لزمن بعيد، عهد التميمي إنها لهي الفتاة، التي صورتها لكم، طالما تمنى الزمان ولادة آلاف أمثالها، لا سيما في زمان قلّ فيه الرجال، ورتعت فيه المخنثات، حتى تستعر العروق الجامدة التي تحنّ إلى جسد جديد، فتهفو الأفئدة إلى الانتفاضات التي تدك معاقل الاحتلال وتهز كراسي الصهاينة، وتسخن القلوب الباردة التي ظلت تشكو وطأة الاغتصاب ونزع الكرامة، فتغني القلوب بشوقها وحنينها، نشيد: موطني موطني الجلال والبهاء، وتخفق له الرايات في رام الله والجنين، وترقص له البنات والبنون، جزاك الله يا زينة النساء وزيتونة السناء، فالكوفية هوية والعقال كمال، فنحن الجزر وأنت المد.
صفعة أصبحت صفحة وأعادت للأمة هيبتها
وُلدت عهد التميمي سنة 2001 غربي رام الله، ونشأت نشأة البطلة التي تحرك وشائجها وتهيج هواجسها آلاف من القصص الأليمة، وتؤرق ليلتها همهمات الحوامات وزمجرات القاصفات والقذائف الممطرة، وتصبح وسط عويلات وآهات، وأشلاء مبعثرة وأحلام منكسرة، هي تسمع من رفقائها وجيرانها أحدث الأخبار من غزة والضفة الغربية، كلام عن شهيد في قماط أو حوار في بلاط، وقد تعودت رؤية الدبابات الجارحة الفاغرة أفواهها نحو المنازل ومنابت الجذور والبيارات، فلم تتريث في الخوض في مسارات النضال ومسيرات الاحتجاجات حتى أصبحت نبضة حية تتحرك في تلك المصفات الصامدة، وقد أشعلها قرار ترامب بنقل السفارة إلى القدس ونتنياهو يستغل الفرصة لتشريع القتل والدمار، على المحتجين بهدوء، ولكنها القائلة: "إن لي رغبة أن أسافر إلى واشنطن وأصدع بالحق أمام جبروت ترامب وحلفائه"، كلمات تخرق حدود القارات وتمخر موجات البحار الهائجة.
وبثت القنوات صورتها وهي تدفع الجندي الاحتلالي بشدة وترد صفعتها عليه، والتقطت الكاميرات عدسات صمودها وسط المسدسات والرصاصات الموجهة، وحرصت منذ نعومة أظافرها على المشاركة في المسيرات الأسبوعية المناهضة للاستيطان وجدار الفصل العنصري، وتحدي الجيش الإسرائيلي، وقد تناقلت الأنباء العالمية تلك الصور المؤثرة الحاسمة، وكانت المصدر الرئيسي لإزعاج خلايا الصهاينة، فإنها فتاة فعلت ما عجز عنه الفتيان طوال السنين، فعلت جميعها بجسدها النحيف وقلبها المنيف، وهمتها التي ورثتها من صلب الأجداد، امرأة في قلبها لوعة الفراق ولهفة من تراكم الأزمات حولها، لكنها ظلت رمزاً شامخاً، رافعة هامتها وناصبة قامتها، جزاك الله يا خنساء الأجيال، ننتظر المزيد ونباركك رغم أنف الاحتلال.
عائلتها منسوجة من البطولات، التي لا تريد المساومة ولا تهوى الخضوع والانكسار، وتعد واحدة من أكبر العائلات الفلسطينية الأصيلة في الضفة الغربية، وهي تعلم جيداً أن العيون الحاقدة تتربص حولها وتحبك الأوهام لإجهاض ثورتها ونقض غزلها ووأد بنات أفكارها، لكنها تأبى الانحناء أمام المغريات الموصولة من تل أبيب ومن حاضنتها الكبرى أميركا، ويلوح مدى ثباتها وصمودها من قول أبيها: "لن يمنعنا ليبرمان ولا عماله، وأما يفعله أطفال بلدتي وطفلتي عهد هو المشهد الطبيعي، الذي جُبلوا عليه منذ عشرات السنين، والمشهد غير الطبيعي أن تعاني من جيش الاحتلال ولا تقاوم وتقف مكتوفة الأيدي".
وفي فجر الثلاثاء 19 ديسمبر/كانون الأول 2017 داهمت قوة عسكرية إسرائيلية منزل عائلتها، واعتقلت عهد بعد الاعتداء على كافة أفراد العائلة، ولم يكتفِ "الجيش العادل" من التدمير والتخريب بل اعتقل في وقت لاحق والدتها ناريمان التي زارت ابنتها خلف أسلاك الاعتقال.
وإضافة لذلك تعرضت أمها الحنون لعدة إصابات وجروح كان آخرها بالرصاص في الفخذ، بل استشهد شقيقها في مسيرة النبي صالح الأسبوعية.
وكان والد عهد نفسه قد اعتقل 11 مرة من قِبل جيش الاحتلال، وتعرض للمعاناة والتعذيب، لكنه لم يتراجع عن موقفه الصامد وبقي يبث الصمود للأجيال المتصاعدة.
وفي العام 2012 تسلمت عهد التميمي جائزة "حنظلة للشجاعة" من قِبل بلدية "باشاك شهير" في إسطنبول في تركيا لشجاعتها في تحدي الجيش الإسرائيلي، ولقيت في حينه رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان وعقيلته، وتلقت فيها قبولاً واسعاً، ما زاد همّتها للتحدي والصمود.
رمز الانتفاضة وأيقونة المقاومة
نشأت عهد التميمي ونشأت معها أحلامها وطموحاتها، ولا تزال تداعبها وتقويها في حين بعد حين، وهي أيقونة الانتفاضة ورمز التحدي بقلب صبور؛ لأنها لم تيأس من شمس الحرية التي ستطل عليها وعلى أشقائها من قريب، ولم تبرح في تروية عروق أحلامها وإشادة وطنها بروحها، فإنها تسمح للأمة التي تناست عن ماضيها الفاخر، وتغافلت عن استراتيجية البطل صلاح الدين الأيوبي في استعادة القدس من الصليبيين.
رسالة فحواها عميقة الجذور ومعناها يبقى إلى آخر الدهور، إنها رسالة الصمود والانتصار، والصبر والانتظار، وتحفز زعماء العالم الإسلامي لتوجيه بوصلتهم نحو هذه القضية، بل تذكرهم بأن القدس لم تنقطع أبداً من ذاكرة التاريخ وخيوط الأمل، بل هي تصرح بأن هناك شعباً تولى حماية القدس وأن للبيت رباً يحميه، وأن لديه أبابيل وحجارة من سجيل، تجعل القباب الحديدية مدعوسة في الأرض، وأن العودة حق، نعم إنها الفتاة، خلّوا سبيلها.. إنها مأمورة.
رسالتها ستؤرق الأمة، وتورق الهمة، وعضلاتها تشيد الصرح من نبض الزمان، وعينها الشقراء تكمن فيها الحضارة وتشعل في القلوب ألف شرارة وشرارة، والعالم يشهد أن شرارة القلب لن تنطفئ بالغازات المدمعة والمياه العادمة، بل هي تتطاير وتستثير الشعب وتفجر الغضب.
ففي نهاية المطاف، كيف تختتم هذه القضية، وهل تقضي البطلة حياتها خلف الأسلاك الشائكة أو تتعرض لتعذيبات من المحتل فتفارق روحها، والجبان لا يعرف إلا الهروب من أصل القضية والفرار من عمق الحقيقة.
فلم يخَف المحتل جرأة الفتاة أكثر من الشاب الفتي، ولم يطيّر نومه لو رأى النساء محتشدات في واجهة الدبابات، وسترون الزمان ينطق بعمق الصدق بكل وضوح وصراحة، بأن أشباه الرجال لا تطيق شيئاً ولا تبعث حياً، وتموت الرجال وتبقى الأعلام.
لا تأسفن على غدر الزمان لطالما ** رقصت على جثث الأسود كلاب
لا تحسبن برقصها تعلو على أسيادها ** تبقى الأسود أسوداً والكلاب كلاب
وتبقى الصفعة صفحة مفردة في طيات الأزمان، عنوانها عهد التميمي وناشرها فلسطين.