23/12/2025
أمن 15 قراءة
العقيدة الأمنية وتنظيم القوة: لماذا يُعدّ الحشد الشعبي الوريث الشرعي لسلاح الفصائل؟

الاشراق
الاشراق | متابعة.
على منصة "الترند" وتصفية الخصوم بتفعيل سياسة الضغط الأقصى؛ تعود إلى الواجهة مجدداً دعوات ما يسمى "حصر السلاح بيد الدولة" بوصفها عنواناَ سياسياً وإعلامياَ واسع التداول، أُعيد تفعيله كنتيجة غير مباشرة لمشهدية المتغيرات الجيوسياسية التي شهدتها المنطقة عقب أحداث 7 أكتوبر وحرب 12 يوماَ، لكنه في الواقع: عنوان تُلفّعه عن عمد التباسات متعددة الدلالات والغايات والنتائج، ويفتقر غالباً إلى التحديد الدقيق لمضمونه التنفيذي، وبخاصة أنّ الإشكالية لا تكمن في المبدأ النظري لحصرية السلاح، بل في السؤال الجوهري: أيّ دولة؟ وأيّ مؤسسة؟ وبأيّ فلسفة أمنية تُدار القوة العسكرية في العراق في المرحلة المقبلة؟
إنّ المتتبع الحصيف للحالة العراقية يجزم قاطعاً، بأنه لا يمكن التعامل مع هذا الملف بمعزل عن خصوصية التجربة الأمنية بعد عام 2003، ولا عن التحولات الكبرى التي شهدتها بنية القوة والسيادة في الجغرافيا التي تحيط بالعراق، ولا عن التهديدات الوجودية التي واجهت هذا البلد وما زالت. والأخطر من ذلك، لا يُمكن فصله عن طبيعة النظام السياسي القائم على التسويات والمساومات التي غالباً ما تُدار بمنطق كرسي الحكم لا بمنطق الدولة التي نسأل زعماءها، "حصر السلاح" مصطلح سياسي أم أداة ضغط؟
فحينما يطالب بعض قادة الحــشــد أو الفصائل بحصر السلاح في يد الدولة، فإن الإشكال يبدأ من تعريف "الدولة" نفسها. هل المقصود حصر السلاح بوزارتي الدفاع والداخلية وفق النموذج التقليدي للجيوش النظامية؟ أم المقصود حصره ضمن المؤسسات الرسمية التي ثُبتت بقانون وفي مقدمتها هيئة الــحشــد الشعبي؟ بوصفها جزءاً أصيلاً من المنظومة الأمنية العراقية؟ هذا التفريق ليس لغوياً أو منحنى تنظيرياً في إطار الاستهلاك؛ بل هو فارق استراتيجي، لأن تحويل النقاش من "تنظيم القوة" إلى "تفكيكها" يعني عملياً القبول بإضعاف أحد أهم عناصر الردع الوطني-الذي يمثل الحالة الجهادية الشعبية، وهو ما لا يمكن فصله عن ضغوط خارجية واضحة تسعى لإعادة صياغة المشهد الأمني العراقي بما يخدم توازنات إقليمية لا مصلحة للعراق فيها، إلا من قبضة التشبث بالتحاصص والمكاسب من بوابة المناصب، والوصاية التي جربوا وصفتها في دول معينة لن تنفع مع العراق وشعبه.
إنّ تحوّل الحـشـد الشعبي من ضرورة وجودية إلى ركيزة دولة لم يأتِ من فراغ، ولم يكن مشروعاً سياسياً لمجموعة تبحث عن نفوذ، بل جاء استجابة لانهيار الدولة نفسها عام 2014، وأنّ الفتوى المباركة التي أسسته؛ لم تكن بديلاً عن الدولة أيضاً، بل كانت الوسيلة الوحيدة لإنقاذها، وكنتيجة حتمية لتنظيم القوى وعلى رغم أنف الضغط الدولي تحوّل الــحشــد لاحقاً إلى مؤسسة رسمية بقانون نافذ، يخضع للقائد العام للقوات المسلحة، ويموّل من الموازنة العامة، وبذلك أصبح سلاحه سلاح دولة بحكم القانون والدستور، لا سلاح فصيل أو جماعة، وأي مقاربة تتجاوز هذه الحقيقة، أو تتعامل مع الحــشــد بوصفه عبئاً يجب التخلص منه، إنما تنطلق من حسابات سياسية ضيّقة، لا من قراءة واقعية للأمن الوطني- القومي.
أما إذا كانت (الفصائل) المقصود من جعجعة "حصر السلاح"؛ فإن الحــشــد الشعبي هو الوريث الشرعي لسلاحها، الذي يعتز به 45 مليون عراقي لأنه تحوّل من المقاومة إلى المؤسسة، وبخاصة أنّ الفصائل حملت السلاح بعد 2003 لا ترفاً أو رغبة في فرض أمر واقع، بل لأن الدولة كانت محتلة، ومؤسساتها منهارة، والتهديدات الوجودية كانت حاضرة فحملت شرف: مواجهة الاحتلال الأميركي حين كانت السيادة منزوعة، وقاتلت القاعدة عندما كانت الأجهزة مخترقة، وتصدت لــداعـــش حين سقط ثلثا العراق بيد الإرهـــاب الذي صنعته مطابخ ذلك الاحتلال باعترافه.
وبالإفادة من تشريع قانون الــحشــد، انتقل هذا السلاح من حالة "المقاومة الاضطرارية" إلى حالة "المؤسسة القانونية"، وبذلك تنظم قوة السلاح بتسليمه للــحــشد، لا بوصفه امتداداً للفصائل، بل بوصفه إطاراً للدولة التي أعاد فيها تعريف القوة ضمن الشرعية الشعبية، ومنها هنا تنبع خطورة التفريط حين تُباع القوة مقابل صفقة، فضلاً عن أنّ أخطر ما يواجه ملف السلاح في العراق اليوم؛ ليس الضغط الخارجي فحسب، بل الاستعداد الداخلي للمساومة. فكيف لسياسي يدّعي الوطنية ويرفع شعار المقاومة والدفاع عن القيم الإسلامية والعربية؛ يُحوّل القوة العسكرية إلى ورقة تفاوض من أجل منصب، أو تسوية سياسية، أو ضمان بقاء في السلطة، فإننا نكون أمام خلل بنيوي في مفهوم بناء الدولة.
التاريخ القريب في المنطقة يعلّمنا درساً بليغاً بأن الدول لا تسقط فقط تحت ضربات العدو، بل حين تفرّط بنقاط قوتها مقابل مكاسب آنية، وبالتالي فإن سلبية خطاب "نزع السلاح" في ظل تهديدات قائمة، لا يمكن فصله عن الذاكرة المؤلمة للانكشاف، وفي كل مرة جرى فيها تفكيك قوة من دون بديل ردعي حقيقي، كانت النتيجة فراغاً ملأته التنظيمات الإرهــابية، وإذا التفتنا صوب سوريا الجريحة نلاحظ تصاعد التهديد التكفيري من تلك الجغرافيا، وبذلك يُصبح الحديث عن نزع السلاح أو تذويب الــحشــد مقامرة غير محسوبة ودعوة صريحة للخطر أن يدخل حدودنا.
فسوريا اليوم درس حيّ لمن يريد أن يتابع إعادة تشكّل التنظيمات الإرهابية، وانتقالها بين المساحات الرخوة، وتقدّم أنموذجاً صارخاً لما يَحدث؛ جعلها تدفع ثمناً باهظاً حين تحوّلت أبرز ملفاتها الأمنية إلى أوراق تفاوضية، حين تُدار القوة بمنطق التسويات الدولية لا بمنطق حماية المجتمعات ومصالحها.
العراق ليس معزولاً عن هذا المشهد أو ذاك، وأي تفريط بقوة الردع اليوم قد يعني استنساخ السيناريو نفسه، مع اختلاف التفاصيل.
وهنا يلعب العامل العقائدي دوراً بوصفه جوهر القوة لا عبئها، وبخاصة أنه صناعة الإسلام المحمدي الأصيل لا نتاج فقهاء البلاط ووعاظ السلاطين. فالعقيدة الدينية الدفاعية ليست نقيض الدولة، بل ركيزتها حين تكون موجهة لحمايتها، والــحشــد الشعبي أنموذج امتلك عاملاً عقائدياً منضبطاً، موجهاً نحو الدفاع عن الأرض والمجتمع، لا نحو الفوضى أو الانقسام.
وتفريغ الــحشــد أو الفصائل من هذا العامل، أو محاولة صهرهاً قسرياً داخل أطر بيروقراطية تقليدية، يعني عملياً؛ تحويل قوة منتصرة إلى جهاز هشّ، وهو خطأ استراتيجي لا تتحمله دولة بحجم التحديات التي يواجهها العراق.
وهنا نسأل لتتنبّه القاعدة الجماهيرية، لماذا يخشى المحور الأميركي- الإسرائيلي هذا السلاح وبخاصة أنه ليس موجّهاً ضد الشعب؟ ولماذا يحرّك أدواته الداخلية والخارجية لممارسة سياسية الضغط الأقسى لما يُعرف "إسرائيلياً" قطع الأذرع؟ ولماذا هذا التهكم لحلحلة هذا الملف في المنصات الإعلامية والرقمية؟ ماذا يريدون؟ منذ سنوات يدعون بهذه الدعوة واليوم مع تنظيمها يشيطنونها بمصطلح "نزع".
إنّ الخوف الحقيقي للعدو ليس من "فوضى السلاح" التي لا يرتضيها أي وطني مخلص؛ بل من سلاح منظم، شرعي، يمتلك عقيدة ردعية مستقلة. فسواء كان سلاح الحشد أم الفصائل المنضبطة العقدية، قد كسر احتكار القوة، وأسس لمعادلة ردع داخلية وإقليمية، وجعل العراق رقماً صعباً لا يمكن تجاوزه. ومن هنا، فإن الدعوات المتكررة لتفكيكها أو تحييدها؛ تتقاطع بوضوح مع مصالح قوى لا تريد للعراق أن يكون قوياً، بل أن يبقى ساحة مفتوحة.
خلاصة القول: إنّ الدولة التي تحمي نفسها لا تفاوض على قوتها، والنقاش حول "حصر السلاح" يجب أن يُدار بعقل الدولة، لا بعقل الصفقة. والمطلوب من القادة الوطنيين: عدم التضحية بقوة وطنية مقابل مناصب زائلة، بل تحصين هذه القوة ضمن رؤية سيادية واضحة تعتمد استراتيجيات وطنية. فالتاريخ لن يرحم من يفرّط بعناصر القوة، ولن يسمح للمساومات السياسية أن تترك ظهر العراق مكشوفا أمام عدو، ينتظر الضعف ليرسم "إسرائيل الكبرى" ويقدم وصفة "الديانة الإبراهيمية" طبق مكافأة؛ لمن كسر رأس الرمح وباع درّة التاج.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الاشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً
محمد الخزاعي - كاتب ومحلل سياسي عراقي