13/11/2025
تقاریر 72 قراءة
«اللي باقي منك» لشيرين دعيبس… فيلم بمكانة الذاكرة الجمعية

الاشراق
الاشراق | متابعة.
في السينما الفلسطينية أفلام ممتازة، قليلة لكنها موجودة، تواضُع الإنتاج السينمائي الفلسطيني عموماً يُبرز، أكثر، امتياز هذا القليل. لكن، والحال هذه، بعض هذا القليل، الخاص، لا يحتاج إلى تواضع العام كي يُشهِر كامل امتيازه، ما يجعله متخطياً السقف الفلسطيني ومتأهلاً للتجاور مع امتيازات سينمائية أخرى في العالم. فيلم شيرين دعيبس الأخير، «اللي باقي منك»، يدخل هذه المقاربة بوصفه واحداً من بين الأفلام التي شهدها هذا العام ومن كل العالم، الجامعة بجودة عالية بين المتعة والوعي.
لا علاقة ضرورية لموضوعه الفلسطيني في هذا التوصيف، فلو كان، بعناصره كافة، استبدل بلداً آخر بفلسطين في قصته، لَما نَقصته الامتيازات السينمائية والسردية التي حملها. كتابته المحكَمة زادها التصويرُ والمونتاج قيمةً ليكون الفيلمُ بثلاثتها، علامةً بارزة أرجِّح علوَّ قيمتها مع الزمن في تاريخ السينما الفلسطينية، فنحن اليوم أمام الإدراك الأولي، وحسب، لفيلم هو، بمعزل عن فلسطينيته، أهلٌ ليكون علامة بارزة في راهن سينما الجنوب العالمي، وسينما المؤلف في أوروبا، والسينما المستقلة في الولايات المتحدة.
من بعد أول فيلمين روائيين طويلين لدعيبس، «أمريكا» (2009) و»مي في الصيف» (2013)، وكانا ضمن عدد كبير من الأمثلة المتواضعة في السينما الفلسطينية، صنعت المُخرجة لنفسها، من بعدهما، مساراً متصاعداً في إخراج المسلسلات الأمريكية، مبتعدة لأكثر من عشر سنوات تجاه فيلمها الروائي الطويل الثالث، الذي أتى ليكون علامة ضمن القليل على قمّة عناوين من السينما الفلسطينية. التمرُّس في الإخراج المسلسلاتي، وبعناوين لها حضورها ضمن مجالها في الولايات المتحدة («امبراطورية» و»أوزارك» و»رامي» و»فقط جرائم في المبنى» وغيرها)، جعل من هذه التجربة الاستثنائية فلسطينياً، طريقاً لا إلى امتياز تقني في الإخراج والمونتاج وحسب، بل إلى آخر في الحبكة السينمائية، ونحن هنا أمام فيلم بقصة جمعية، تحيط بتفصيل ثانوي فردي وعائلي سيصير هو الأساسي ليعطي للسياق الجمعي والتاريخي معنى ملموساً، تفصيل يكبر سريعاً خارجاً من هامشيته الأولية، ليتخذ مكانة المتن، مشكّلاً الحبكة السينمائية. هذا الانقطاع الطويل لدعيبس في صناعة الأفلام الفلسطينية، كان ضرورياً لتقطع مع فيلمَيها الأولين، وتأتي لهذه السينما بما هو أحد القليل الأفضل من ضمنها، على طول مسيرتها.
«اللي باقي منك» (سندانس وكارلو فيفاري ومهرجانات أخرى) الذي رشحته الأردن لتمثيلها في جوائز الأوسكار، هو بمثابة الملحمة الفلسطينية الممتدة لثلاثة أجيال، من النكبة (يافا 1948) إلى ما قبل الإبادة (يافا – تل أبيب 2022)، مروراً بمراحل زمانية متقطعة لسيرة عائلة واحدة، (مخيم في الضفة، 1978 و1988). من الدقائق الخمس الأولى نرى الجدة حنان تخاطب الكاميرا قائلة، إنها تريد أن تحكي قصة ابنها الشهيد، لكن قبلها وكي يفهم سامعُها، لا بد أن تحكي القصة من أولها، قصة الجد الذي تهجّر من يافا. السامع هنا بدا أولاً المُشاهد، لنعود لاحقاً، في نهايات الفيلم، ضمن واحد من أقوى الحوارات في السينما الفلسطينية، لندرك أن السامع هو إسرائيلي تبرعت العائلة له، ولغيره، بأعضاء ابنها الشهيد. وكان هذا الافتتاح للفيلم، بالقول صراحة ومواجَهة إلى المُشاهد، إنّ أيّ قصة فردية من فلسطين، كي تفهمها جيداً لا بد من إدراك الحكاية الجمعية، المأساة، الملحمة.
هذه المقدمة تبرر، سردياً، إدخال القصة العائلية، الفردية، ضمن سياق أوسع هو السياق الجمعي للشعب الفلسطيني، فإن كان الفيلم، الطويل نسبياً بقرابة ساعتين ونصف الساعة، يصور عائلة تهجّرت من بيتها في يافا إلى مخيم في الضفة، بيوميات هذه العائلة ومخاوفها وقلقها، فإن ذلك كله كان سياقاً تاريخياً لا بد منه لفهم القصة التفصيلية التي انتقلت من الهامش إلى المتن في الفيلم، وهي مقتل الابن في مظاهرة برصاص الاحتلال، ثم محاولات الأهل لنقله إلى مستشفى للعلاج سيكون فقط في تل أبيب، وهناك يواجهان معضلة أخلاقية في سؤال التبرع بأعضائه، بعد تجربة عائلية قاسية سابقة، احتاجوا فيها أعضاء متبرعين لم يجدوهم. سيكون التبرع بأعضاء الشهيد أخيراً، لفلسطينيين في معظمه، ثم كانت المواجهة بعد سنوات، في ذلك الحوار مع إسرائيلي يحمل قلب الابن الفلسطيني.
نرى في السينما الفلسطينية بين وقت وآخر إنسانوية مجانية، تجعل من الشخصية الفلسطينية كائناً مثيراً للشفقة، مبالغاً في إنسانيته المفعتَلة والمبتذلَة في موقف ما، أمام إسرائيلي، ليستعطف هذا الأخير مستجدياً استجابة لإنسانية مفرِطة وغير مقنعة. ولتردّد هذه الصورة في أفلام فلسطينية، كادت هذه الانعطافة في القصة أن توحي بذلك الاستجداء. لكن الفيلم الذي استخدم الإنسانية المفرطة منطلَقاً، أو السلوك الإنسانوي في تبرع عائلة فلسطينية استشهد ابنها برصاص جندي، إلى مرضى في مستشفى إسرائيلي، انتهى بها، الفيلم، إلى عبثية هذه الإنسانوية الاستجدائية مع المستعمر في مثال التبرع بالأعضاء. فإن أصرّ الأب، سليم، على أن يعرف المتبرَّع لهم أن الأعضاءَ هذه لفلسطيني قُتل برصاص جندي، لعل ذلك يمنعهم من أن يصيروا جنوداً، لعله بذلك يحمي أرواحاً فلسطينية، ثم حقيقة أن معظم المستفيدين كانوا أصلاً مرضى فلسطينيين، فإن الإسرائيلي الذي يحمل قلب الابن، وفي الحوار الذكي ذاته، أجاب حين قالت له، محاولةً إفهامه قصةَ العائلة ومن خلفها حكايةَ الشعب، قائلةً إن للقلب نبضات فلسطينية، أجاب هو بأن القلب الآن في جسد إسرائيلي، ليضيف من بعدها بأن عدم خدمته في الجيش كان، وحسب، لسبب طبي.
الفيلم بذلك يفرِّغ الإنسانوية من معناها، يجعلها عبثاً لا جدوى منه، وإن كانت محاولات إظهار التفوّق الأخلاقي للمستعمَر أمام مستعمِره، في أقصى حالاتها، وهي هنا التبرع بقلب الابن المقتول، ليردّ المستولي على القلب ردَّ مستعمِر يثبّت من عبثيةَ أي إفراط إنساني للمستعمَر. لذلك، هو من بين أكثر الحوارات في السينما الفلسطينية جرأة، وإن كان بكلمات قليلة، لكن سياقاً ملحمياً هو الفيلم بأكمله، كان محيطاً به، كان ممهداً له.
الفيلم ملحمة فلسطينية ممتدة من النكبة إلى الراهن، تنقل حكاية شعب كامل من خلال قصة عائلية بثلاثة أجيال، تتكثف في حدث واحد ومحوري تلتحم فيه المأساة الجمعية بأخرى فردية. هي أسلوب سينمائي في القول إن النكبة مستمرة، هو كذلك تقنياً إضافة إلى كونه كذلك سردياً، فالتنقل بين الأزمنة هنا انسيابي، بالكاد ينتبه أحدنا إليه. كان مباغتة، ينغلق باب فينفتح آخر، صورة على الوجه تنقلب إلى صورة للوجه ذاته بعد عقود، وذلك مع استمرارية للصوت توحي بأن الحالة هي ذاتها وأن الحدث واحد لكنه ممتد. الصوت ماهى الصورَ ببعضها، وماهى بالتالي الأزمنة ببعضها، وبالتالي المآسي التفصيلية، الهامشية على طول تاريخ هذا الشعب، بالمأساة الكبرى المتنيّة.
«اللي باقي منك» هو أفضل تمثيل سينمائي لمقولة إلياس خوري، التي نظّر لها أدباً ونقداً وفكراً، بأن النكبة مستمرة. هي ليست حدثاً منتهيا، بل سياق مستمر بأحداث تفصيلية، تماماً كما كان استشهاد الابن، وما تلاه من استمرارية للمأساة، فحتى هذا التفصيل، الاستشهاد، كان استهلالاً لسلسلة من المآسي العائلية، التي لم تنتهِ حتى بعد عقود، مع زيارة الأبوين، كسائحين، إلى يافا بجواز سفر كندي.
تكثر المشاهد التي تتخذ الكاميرا فيها مكانة الناظر من بعيد، المترقّب، القلِق، مَشاهد من خلف ستائر أو نوافذ، من آخر الصالة أو من صالة أخرى. كأنها، المَشاهد، لقطات واسعة من الذاكرة، متقطعة، مبتعدة كأنّها تحاول الإلمام بالمحيط، تحاول جمع التفاصيل قدر الإمكان.
الفيلم، بذلك وبغيره، أقرب ليكون ذاكرة جمعية مصوَّرة، للفلسطينيين. مشهد بسيط ورائع للعرس في ساحة في المخيم يشي بذلك، مشاركة الولد في المظاهرة كذلك، جدالات الأجيال الثلاثة، إهانة الجنود للأب أمام ابنه، الوالدان في مستشفى إسرائيلي، وغيرها من المشاهد التي ثبتتها السينما الفلسطينية أكثر في ذاكرة هذا الشعب، لكنها هنا، كانت بتفوق تقني وفني. هذا ما جعلني أشير إلى مجالات مختلفة يقع الفيلم في تقاطعاتها: سينما الجنوب العالمي، وسينما المؤلف الأوروبية والسينما المستقلة الأمريكية. هذا الفيلم حاضر باستحقاق في كل من هذه المسارات الثلاثة، وهو، لطبيعته الإنسانية بوعيها السردي وجودتها التقنية، له مكانة خاصة وعالية في كل من هذه المسارات، في السينما المعاصرة. وهذا امتياز فلسطيني.
سليم البيك - كاتب سوري فلسطيني