05/11/2025
ثقافة و فن 19 قراءة
لا مكان للهزيمة في روح المقاومة .. قراءة فلسفية

الاشراق
الاشراق | متابعة.
"ما دمت تقاوم، فلست مهزومًا."
تشي جيفارا
تُظلم حركات المقاومة حين تُقيّم ويُحلل نشاطها بمنطق الجيوش، ذلك لأن المقاومة فعل دفاع، لا فعل استعمار، وفعل حياة وإحياء، لا فعل موت وقتل. المقاومة احترافٌ في قول "لا"، وفي إظهار معنى "أكون"، وتجلٍّ لـ "أنا أقاوم إذاً أنا موجود"، لأن وجود المقاوم واستمرار نشاطه الرافض يحتّم هزيمة وفناء المعتدي والمحتلّ.
ولذلك، حين نقيّم جهد المقاومين وأثر عملهم على اعتبار أنهم تشكيل نظامي أو صورة لجيش، فإننا نخضعهم لتقييم الزمان والمكان والأطماع والغايات، ونجعل منهم كيانًا ذا أهداف وضعيّة ورؤى وخطط استراتيجية ثابتة أو متبدّلة بفعل عوامل مباغتة. في الطرف الآخر من المشهد، نجد أن المقاومة لا يمكن لها أن تتخطى حقيقة أنها ردة فعل على اعتداء أو احتلال، ومن هنا بالتحديد تستمدّ شرعيتها الدائمة، ووجوب حدوثها، بل إنها بحد ذاتها ذلك الفعل المباغت الذي يقحم الجيوش النظامية في أزمات لا مخرج منها. لماذا؟
لأنها ليست إسقاطًا فكريًا أو نفسيًا، بل حالة نابعة من الفطرة، فطرة قول "لا" وفق ما تقتضيه الكرامة الإنسانية وموجبات حرّيتها وتحرّرها. ومتى ما لمعت فكرة العزّ في عقل إنسان، واستيقظ فيه شعور الحرّيّة، سهل عليه التحرّك في سبيل إثبات إرادته، حتى لو كانت نهاية الطريق موته/ شهادته.
لذلك، أرفض قول إنّ المقاومة "حق" فحسب، إذ قد يجتهد البعض لإقناع الناس بحقوقهم، وقد يتطلب الأمر عمليات تثقيف وتوعية، أو تشريعًا لهذا الفعل. بل أقول إن المقاومة واجب على كل حرّ موجود، بل إن هذا الواجب إثبات لوجوده ولحياته وفرض لإدارته، وأن النقاشات حول شرعية حركات المقاومة وأنشطتها تحمل في جوهرها صبغة استعماريّة، وجهداً ضائعاً في الثرثرة على حساب العمل، ومضلِلات نفسيّة تضع المقاوم في موضع المتهم فينشغل بالتبرير وتقديم الحجج.
غير أن هذه الحركات، وعلى الرغم من ثبات جذورها في الأرض، ورسوخ فكرتها في الإنسان، قد تأفل أو تموت، ويحدث ذلك حين تموت الفكرة نفسها. لذلك، نلاحظ أن المحتل يتوحش ويوغل في القتل والتعذيب والإيذاء، فهو لا يريد الإخضاع فحسب، بل يسعى إلى قتل الفكرة. يريد أن يقتلع بذرة كل فعل مقاوم، مهما بدا صغيراً أو تافهاً. يريد أن ينفذ إلى لبّ العقل والروح لينتزع منهما ما يجعل الإنسان إنسانًا: حرّيته. سيجتهد لجعل الإنسان آلة وعبدًا وبهيمة!
تموت حركات المقاومة أيضاً حين تتحوّل إلى شبه جيش أو جيش، وحين تتغيّر وجهتها من دفاع إلى تهديد واستعمار مقنّع. لذلك، وبعيدًا عن كل ما قيل حول جبهة الإسناد لغزة في لبنان، اعتقد أن ما جرى يعبّر عن فهم عميق لماهية المقاومة وأشكالها وغاياتها، فقد تساند حركات المقاومة بعضها، وقد تتحوّل إلى محور متناغم في مجابهة العدو الواحد، وقد يحقق أحد هدفًا هناك فيستفيد منه آخر هنا، وقد تتظافر الجهود والخبرات في سبيل إضعاف العدو وفي سبيل التحرر، لكنّ المحال أن تكون إحداها بديلًا من الأخرى. هناك حقيقة واحدة واضحة كوضوح الشمس: أهل الأرض يحررون أرضهم، ومن معهم يسانِدونهم!
تموت حركات المقاومة أيضاً حين يتغلغل فيها الفساد، ويعشعش فيها حبّ المال والسلطة ونمط الحياة الفاحشة، فيصبح بعض أفرادها متسلّقين ومنتفعين، فينسون القضيّة ويميلون نحو السلام والهدوء والاستقرار، وهو ما يتناقض مع جوهر المقاومة بوصفها فعل مباغتة وعملاً متواصلاً وجهوزية عالية، وترابية متجذّرة في الأرض التي نحيا ونموت من أجل صونها. ولعل التاريخ شاهد عادل على كثير من حركات المقاومة التي انتهى بها الأمر إلى أيدي الفاسدين، فماتت هي، ونبت غيرها غضًا نقيًا لا تشوبه شائبة.
وتموت أيضاً حين تتوقف عن التعلّم، ويكثر فيها الجهل، فتضعف وتصبح لقمة سائغة، وحين تتوقف عن كونها جماعة متناغمة قلبها واحد وعقلها واحد، فتتفكك إلى جماعات وقلوب وعقول متناحرة ومتناقضة، كلّ يريد تحقيق مآربه بمعزل عن الآخر.
وتموت حين تتوقف عن الزراعة، أي عن الاتصال المباشر بالأرض والشعور بها والأكل منها، فينبت لحم وعظم أهلها منها، كالأم. فيصبح الوطن مجرد مسكن يتكسب فيه الإنسان منتفعاً من خيراتٍ يمكن الحصول عليها في أي مكان وزمان. حين تتوقف الزراعة، يضعف الانتماء، ويتحوّل الى انتماء للقبيلة أو الجماعة أو المنفعة...
يكثر اليوم تكرار قوى الاستعمار مقولات من قبيل: سنزيل، سنمحو، سنقضي، قد قضينا... ويكثر حديثهم عن "إسرائيل الكبرى"، والتقسيم الجديد للمنطقة، ومساعيهم في ترحيل الأمم والشعوب ودثر تاريخها وحضارتها باعتبار أننا شعوب لا تستحق الحياة، لكنّ نظرة فاحصة للمشهد العام يظهر هشاشة هذا الكيان وهزيمته المتكررة أينما قامت مقاومة حقيقيّة.
سيقتل ويهدم ويجرف ويهدد ويخيف وسيساعده في ذلك الكثير من المتخاذلين والخونة والجبناء والرماديّين، لكن في لحظة ما، في وقت ما، في مكان ما، سيخرج رجل، أو امرأة، أو طفل، ويقول: "هذه الأرض أرضنا، ولا مكان لك هنا!" في هذه اللحظة، سيشعر المحتلّ بأنّ جهوده قد ضاعت، وأنّه فشل في تطويع هؤلاء الناس، فتسري فيه روح الهزيمة، وسيدرك ذلك، ثم سيُهزم، وسيظل يُهزم، حتى يحين وقت فنائه.
بقلم فاطمة فنيش - باحثة، مترجمة، كاتبة وخبيرة تربوية.