أي صورة لغزة وأهلها في كتاب ألكسي سوفورين؟

ishraq

الاشراق

الاشراق | متابعة.

زار الكاتب الروسي ألكسي ألكسيفيتش سوفورين (1862-1937) فلسطين في ثمانينيات القرن التاسع عشر، ودوّن في أثناء سفره نحو القدس معلومات عن الإقامة وتكاليفها، وذكر عادات أهل البلاد وأعرافهم، إلى جانب ما وصله من الملحوظات التاريخية.

بعد عودته إلى روسيا، شرع سوفورين في إعداد ما دوّنه للنشر، لكنه تأخّر في ذلك نحو عقد من الزمن، إذ صدر كتابه "فلسطين" في العاصمة سان بطرسبورغ سنة 1898. 

ولعل ما دفعه إلى إصدار الكتاب هو التطوّر الذي طرأ على مسار الحج إلى الديار المقدّسة، يقول: "آخر مرة زرت فيها فلسطين كانت عام 1889. منذ ذلك الحين، حدث تغيّر كبير بالنسبة للانطباعات الخارجية للحاج، إذ افتتح خط السكك الحديدية من يافا إلى القدس. بالنسبة للحاج، إن بلد الأناجيل هو بلد الحياة البسيطة، لم يعد يبدأ من يافا، بل من القدس". 

بشكل عام، يختلف ما دوّنه سوفورين عن مذكرات الحجّاج، فهو لم يكن حاجّاً بالمعنى الاصطلاحي للكلمة. كان ابن الناشر الروسي ألكسي سيرغينفيتش سوفورين (1834-1912)، والتحق بعد المدرسة الثانوية بمعهد بلغراد الطبي وتخرّج منه. مارس مهنة الطب، وطوّر تقنيات الصوم العلاجي، وتسمّى باسمه إحدى طرق علاج الأمراض بالصوم.

دخل إلى مهنة الصحافة عبر منصب محرّر مسؤول في صحيفة "نوفويه فريميا" (الزمن الجديد)، وبات كاتباً وناشراً.  يمكننا القول إنه أتى إلى فلسطين مستكشفاً، فهو وإن أعاد تدوين ما ذكره الرحّالة الآخرون عن فلسطين بغثه وسمينه، وهذا يؤخذ عليه، إلا أنه يمكن الركون إلى ما شاهده بأمّ عينه عن البلاد وأهلها. 

كتاب "فلسطين" اليوم من الكتب النادرة جداً، وكان ألكسي سوفورين قد أصدره بطبعة فاخرة من مطبعة والده، في 352 صفحة، وقد تضمّن رسوماً لفنانَين اثنين من ممثّلي المدرسة الواقعية الروسية البارزين، وهما فاسيلي إيفانوفيتش نافوزوف (1862-1912) وألكسي دانيلوفيتش كيفشينكو (1851-1895). يحكي الكتاب عن الرحلة والتنقّل من مدينة إلى أخرى في فلسطين، ومما لفتنا فيه زيارته مدينة غزة، ووصفه الشيّق لشعب فلسطين، إذ يقول: 

مثل سجادة خضراء ملقاة بين الرمال
... للوصول إلى غزة علينا الذهاب إلى جبل المنطار. إذ تقع المدينة على بعد نصف ساعة منه. من هذا التل ينفتح مشهد واسع في جميع الاتجاهات، ويمكننا رؤية غزة بأكملها. تبدو صغيرة جداً للوهلة الأولى، فمن المستحيل حتى أن نفهم أين ذهب سكانها البالغ عددهم 16 - 18 ألف نسمة. إنها ترقد مثل سجادة خضراء طويلة ملقاة بين الرمال.

إلى اليمين، مبنى من طبقتين فوق تلّ يسكن فيه القائمقام. يوجد أيضاً مكتب تلغراف وخان للمسافرين. وخلفه ترتفع مئذنة المسجد الرئيس الضخمة والجميلة ذات الزوايا الثماني. إلى اليسار، على السجادة الخضراء، توجد بقعة صفراء كبيرة، تبدو للوهلة الأولى كثباناً رملية، ولكن إذا ما دقّقنا النظر نجدها أكواماً من المنازل الترابية. هذا هو قلب غزة. لا تخضع المدينة لحراسة المآذن ورؤوس أشجار النخيل الخضر فحسب، بل ترتفع فوقها مدخنة مصنع للصابون كذلك.

في المدينة نفسها، يثير اهتمامنا المسجد الرئيس الذي يضم قبر هاشم، جد محمد النبي، الذي كان تاجراً عربياً توفي هنا. بُني المسجد على أنقاض كنيسة مسيحية. يظهر ذلك من أعمدته الرخامية الرمادية الرقيقة مع العروق الزرق، المغطاة بتيجان كورنثية أنيقة.

تبدو الأعمدة أسيرة أقبية الجير الأبيض الثقيلة التي تدعمها... لا شك أن الجير الذي يغطي الأقبية والجدران بكثافة يخفي اللوحات والفسيفساء المسيحية. قد يأتي يوم يشكر فيه أهل الفن المسيحي هذه البساطة الإسلامية لأنها حافظت على أعمال الفنانين القدماء سليمة.

السوق في غزة ليس كبيراً، لكن من الواضح أنه يكفي أبناء المدينة على كثرتهم. هناك أشياء كثيرة في غزة تذكّرنا بمصر. مناخها نفسه يشبه مناخ دلتا النيل سواء في شمسه أو في أشجار النخيل التي تنمو هنا بحرية. المباني، على الرغم من كل الزخارف التصويرية، إلا أنها تكتسي إلى حد ما بطريقة البناء القاهرية، على سبيل المثال، مئذنة المسجد المثمّنة.

كما أن طريقة تغطية النساء وجوههن هنا أقرب إلى الطريقة القاهرية منها إلى الفلسطينية، ففي القدس، تغطي النساء وجوههن بالشاش الملوّن. لدى النساء في غزة شريط من الكتان يتدلى من عصابة الرأس وينقسم إلى قسمين أدنى الأنف... تتطلّب الأعراف أن تتجنّب النساء مقابلة الإفرنج. لا يمكننا التعرّف إلى أعمارهن إلا من رؤيتنا أيديهن، فإذا لم تكن ذابلتين ومتجعدتين، فعمر المرأة أقل من 20 عاماً، ولكن فوق هذا السن، وفق العرف المحلي، يعتبرن نساء كبيرات. التقينا بطفلة مغطاة الوجه. وعندما رأتنا توقّفت ثم ابتعدت قليلاً. كانت تبدو فقيرة تحمل جرة فخارية على كتفها. كان بإمكاننا رؤية وجهها الشاحب والمرهق.

حقول غزّة مليئة بالخصب ومعظم الناس يزرعون الحنطة والذرة البيضاء. تحيط بالمدينة أشجار الزيتون والتين، إلى جانب أشجار أخرى كبيرة وجميلة، أما أشجار النخيل فتسود على كل شيء. 

البحر يقع على مسافة ساعة مشياً من غزة تقريباً، والميناء هناك صغير... من غزة على طول البحر إلى يافا، كثبان رملية لا نهاية لها.

إن سرت في هذا الطريق ونظرت إلى يمينك لثلاثة أو أربعة أميال، قد لا تشك في وجود البحر إلى يسارك، متخيّلاً نفسك في صحراء رملية. تحرّك الرياح شيئاً فشيئاً هذه الضفة الرملية بعيداً من البحر إلى داخل البلاد، وتغطي الحقول بالرمال.

قبل الوصول إلى يافا، هناك أماكن وصلت فيها هذه الرمال إلى 8 أميال من البحر... بعد قرابة ساعتين من مغادرة غزة، يتحوّل المسار يساراً من الطريق الرئيس المؤدي إلى البساتين التي تغطي الآن أنقاض عسقلان. تحيط نباتات الصبار القديمة بالطريق بجدار أخضر، وتتشابك أيديها فوقه، فتشكّل قبواً. الأزقة المقبّبة تتجه يميناً ويساراً. يمكن رؤية اللون الأخضر الداكن اللامع لليمون والأوراق العريضة لأشجار التين والدلب من خلف نبات الصبار.

هكذا ينتصر السكان الأصليون، نصف المدمّرين، على الغزاة
تسكن في فلسطين قبيلتان مختلفتان تماماً من حيث أسلوب الحياة: الفلاحون المستقرون والبدو المتجوّلون بين قراها.

الفلاحون هنا هم المزارعون. ولكن إذا ما أعطي هؤلاء القرويون في فلسطين اسماً ليس بسبب نمط عيشهم، بل بسبب الأصل، فينبغي بالطبع أن يطلق عليهم اسم الكنعانيين، وهو اسم تلك القبيلة القديمة.. أرضهم دمّرها الغزاة، ولكن لم يستطع أحد أن يدمّرهم في النهاية، تحوّلوا إلى حطّابين وسقاة ورعاة. استقبلوا خليطاً كبيراً من الدم الغريب من الإغريق والفرنجة والعرب، ولكن في لغتهم وعاداتهم ودينهم، لا يزال فلاحو فلسطين الحاليون قريبين جداً من الكنعانيين. 

مصيرهم يؤكد أن الحروب، حتى حروب ذلك الزمن القديم التي كانت تؤدي إلى إبادة ثلث السكان واستعباد من تبقّى منهم، هي غير قادرة على إزالة شعب جذوره التي ترسخت في الأرض واعترف بنفسه كشعب، وأنه المالك الأصلي للبلاد. إن دماء ولغة ومعتقدات الشعوب الغريبة تترك آثارها هنا، لكن لا يمكن لأي من الغزاة أن يطمس وجه هذه البلاد المكسو بطبقة قديمة من الطين، تبدو مرنة جداً.

يمكن للعاصفة أن تبعثر غابة من القصب في اتجاه الرياح الأربع، ولكن يأتي طقس هادئ، فتنتصب مرة أخرى على جذورها، تقف كفرشاة ذات شعر كثيف متناسق. التاريخ يقود من دون وعي قانون الأخلاق العليا، حيث الأخير سيغدو الأول في الوقت المناسب.

ويتحقّق ذلك بطريقة طبيعية وبسيطة بشكل مدهش. إذا استعبدت جحافل أجنبية البلاد وشعبها الأصلي، فإن الأجنبي المنتصر يبذل دائماً عملاً شاقاً ويُهزم في الميدان. قوّة العمل نفسها تكيّف جسد ابن البلاد مع المناخ، وتمنعه من الضعف والخمول. وهكذا ينتصر السكان الأصليون، نصف المدمّرين، على الغزاة.

Copyright © 2017 Al Eshraq TV all rights reserved Created by AVESTA GROUP