أدبُ ما بعد النكبة الفلسطينية: فعلُ مقاومةٍ!

ishraq

الاشراق

الاشراق | متابعة.

قبل النكبة، كان الأدبُ الفلسطيني يتشابه كثيراً مع الأدب في أجزاء أخرى من العالم الناطق بالعربية من حيث الموضوعات التي ركز عليها، والتي عكست عناصر الثقافة والدين واللغة المشتركة. وحسب الروائي الفلسطيني غسان كنفاني: «إن الأدبَ الفلسطيني، وصولاً إلى هذه النكسة المأساوية كان جزءاً من التيار الرئيس للحركة الأدبية العربية، التي ازدهرت إبان النصف الأول من القرن. لقد حصل على مصادره من الكتاب المصريين والسوريين واللبنانيين، الذين قادوا الحركة الأدبية آنذاك، بالإضافة إلى تأثره بهم». إنما، بعد عام 1948، ولدت حركة جديدة في الأدب العربي تأثرت بشدة بالكتاب الفلسطينيين وغيرهم.

 يسلط كنفاني الضوء أيضاً على المسألة الشائكة المتمثلة في المركز مقابل الهامش في الأدب العربي، إذ يُنظر إلى الكتاب الذين ينتمون إلى ثقافات معينة، ولاسيما مصرَ ولبنانَ، بأنهم متفوقون من الناحية الأدبية.

الموسوعة التفاعلية للقضية الفلسطينية | غسان كنفاني

غسان كنفاني | ارشيف

يقدم خالد مطاوع، الأسباب الداعية إلى حسبان الأدب الفلسطيني أدباً ثانوياً بالمعنى الإيجابي الذي يتبناه الفيلسوفان الفرنسيان دولوز وغوتاري Deleuze and Guattari. إنهما يجادلان في أن أدبَ الأقليات المكتوب من الهوامش، سياسي، بل هو ثوري حتى، ويتحدث مؤلفوه باسم الوعي القومي، وهم أفراد يتحدثون بصوت جماعي، أو حسب تعبيرهما: «يصبح الاهتمام الفردي نتيجةً لذلك ضرورياً للغاية، لا غنى عنه، مضخماً، بسبب وجود قصة كاملة أخرى تتذبذب فيه».
ضمن هذا السياق، من المهم تسليط الضوء على إسهامة إدوارد سعيد القيمة في هذا المجال، بعنوان «النثر والرواية النثرية العربية بعد عام 1948» Arabic Prose and Prose Fiction After 1948. كان سعيد مهتماً في الأصل بتأثير كل من النكبة والنكسة في النثر العربي، نظراً لأن الحدثين كليهما، حفزا رد فعل يتمثل في المقاومة الثقافية، والبحث عن هوية جماعية جديدة، ونهج جديد للتاريخ العربي. يلاحظ سعيد أنه بعد النكبة أصبحت غالبية الكتَاب العرب منخرطين في استكشاف التأثيرين السياسي والتاريخي للنكبة في مشاريعهم الفكرية، على الرغم من وجود نسبة صغيرة لا يمكن إنكارها من العرب، الذين أنتجوا أدباً رديء الجودة. يشير سعيد أيضاً إلى كيفية امتداد تأثير النكبة إلى ما هو أبعد من الكتاب الفلسطينيين، وصولاً إلى العرب الآخرين، على الرغم من أنهم ربما كانوا بعيدين أيديولوجياً عن الأحداث السياسية في فلسطين. إنه يناقش وجودَ ارتباطات ثقافية وعرقية ولغوية راسخة تربط العرب الآخرين بفلسطينَ، وقد تأثر هؤلاء بما عدوه نجاحاً للصهيونيَة، وهزيمةً لإخوانهم العرب. يجادل سعيد في أن النخبة الثقافية كان لها دور رئيس تلعبه في أعقاب النكبة، وهو: «الإعراب عن الحاضر باستخدام المصطلحات التاريخية والواقعية الدقيقة، التي هددت الكارثة بالقضاء عليها» ويشير إلى كتاب المفكر السوري قسطنطين زريق «معنى الكارثة» (1948) بأنه أنموذجٌ محوري لهذه الممارسة.
الموسوعة التفاعلية للقضية الفلسطينية | محمود درويش

محمود درويش | ارشيف

وبتحليل تأثير النكبة في الأدب، يلاحظ أن: «الموضوع الكبير لمعظم الروايات المصرية بعد عام 1948 كان، كما لاحظ شكري، يتمثل في الصراع شبه المأساوي بين الشخصية الرئيسة وقوة خارجية من نوع ما». علاوة على ذلك، يستشهد سعيد برسالة رجاء النقاش إلى الشاعرة العراقية المعروفة نازك الملائكة، «لم تكن الكتابة مجانية ولا يمكن لها أن تكون على هذا النحو: كان يتعين عليها أن تضعَ نفسها في خدمة الحياة» بغية عكس مفهوم دور الكتابة في ذلك الوقت. وحسب الناقد المصري غالي شكري، فقد أُقر بأن الكتابة في حد ذاتها هي بمنزلة عمل مقاومة، ولاسيما بعد نكسة 1967. من خلال التركيز على تقنيات السرد التي اعتمدها الكتاب العرب، يرى سعيد أن الوضع الوجودي للعرب قد انعكس في الفصل بين المشاهد التي شُكلت على نحو متحفظ لرواية جبرا القصيرة، «صراخ في ليل طويل» مناقشاً أن كل مدخل وظهور لشخصيَة في العمل يؤدي دوراً إيجابياً ومهماً من الناحية الوجودية، في حين أن الوجود في حد ذاته يعني الموت أو الانقراض. ووفقاً لتحليله لرواية جبرا القصيرة، فإن فعل الكلام، أو سرد الروايات في حد ذاتها، هو دليل على الوجود، ويستعرض مثالاً آخرَ على النثر الأدبي العربي، أقصوصة «رجال في الشمس» لغسان كنفاني، بحثاً عن دليل على تحول المشاهد الأدبية من كونها محدودة في تصوير المشكلة، أو إثبات الوجود التاريخي إلى تحقيق المعاصرة في أكثر بُناها إشكاليةً. ويشير سعيد إلى أنه، ومن سخرية القدر، بينما سعى الرجال الثلاثة إلى مغادرة فلسطين للعيش في الكويت، فقد تُركوا في نهاية الرواية القصيرة ليموتوا. يمكن قراءة المشهد، في هذه الحالة، كعمل تحريضي:
«إن المشهد بالنسبة إلى كنفاني، على نحو أساس، هو المواءمة التي يتم منحها للكاتب من قِبل التقليد الروائي العام، إن ما يستخدمه هو من أجل تقديم هذا الفعل، كنتيجة لذلك، هو أداة، بمعزل عن التقليد الذي يمكن أن يعدها من المسلمات، تعلق على نحو ساخر على النضال البدائي الذي يواجه الفلسطيني». من خلال تتبع التغيرات المختلفة في موضوعات النثر العربي من خلال تحليله النصي الدقيق للعديد من الأمثلة من أدب الفترة، يخلص سعيد إلى أن ما يميز كتابات ما بعد نكسة عام 1967 هو شعور عميق بخيبة الأمل والإحباط. عبر التركيز على أدب المقاومة، أصبح مصطلح أدب المقاومة مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالإنتاج الأدبي الفلسطيني بعد النكبة، لأن المقاومة أصبحت هي الشكل الأساس للوجود لدى الفلسطينيين ككل، إذ يسعى جميع المواطنين في المجتمع إلى الدفاع عن وطنهم بأي طريقة هي في استطاعتهم، بينما من الشائع أن تصوِرَ وسائلُ الإعلام المقاومة من زاوية الصور الدرامية للكفاح المسلح، فإن المقاومة في الحالة الفلسطينية يُنظَر إليها بأنها شيءٌ يشمل الأمة بأسرها، من الناشطين السياسيين إلى الأكاديميين والكتاب الأدبيين. على الرغم من أن الفلسطينيين العاديين قاوموا تقليدياً من خلال إلقاء الحجارة (ما أدى إلى تسميتهم الشائعة بـ«أمة الحجارة») إلا أن فعل المقاومة، لدى الشعراء والعلماء، مثل درويش وسعيد، ينطوي على الكتابة كأداة تُستخدم للدفاع عن وطنهم. يشير حمدي إلى أنه، وفقاً للشاعر الأيرلندي شيموس هيني Seamus Heaney، كل قصيدة هي عمل مقاومة، «بيان تضامن مع المنكوبين والمحرومين والضحايا والمهمشين» بينما، في هذا السياق، فإن الشاهد هو «أي شخصية تصبح فيها الرغبة في قول الحقيقة، والإكراه على التماهي مع المظلوم، بالضرورة جزءاً لا يتجزأ من فن الكتابة في حد ذاته».

في ما يتعلق بالقومية، استخدم جميع الكتاب الفلسطينيين، أمثال فدوى طوقان، راشد حسين، سميح القاسم، وبالطبع درويش نفسه، كتاباتهم الإبداعية من أجل التعبير علانيةً عن شعورهم بالخسارة تجاه وطنهم، وبغية التأكيد على هويتهم الفلسطينية.

كما توضح نجد، في السياق الفلسطيني، فإن المقاومة هي نوع من ردِ الفعل ضدَ الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي السائد للأمة التي ترى نفسها تحت الهجوم. إن عنصراً أساساً من فعل المقاومة الفلسطينية هذا ينطوي على البحث في السياقين الثقافي والتاريخي من أجل الكشف عن الواقع الخفي، من خلال الإشارة إلى تاريخ فلسطين وثقافتها غير المعلَنَين والمهمَلَين. يمكن عد هذا النوع من الإبداع الأدبي بمنزلة «إعادة كتابة في التاريخ لما تم محوه عمداً». وعليه، فقد أوضح الأكاديميون والكتاب المبدعون أن أدب المقاومة الفلسطيني يرفض المحاولات الصهيونية لمحو وجود فلسطين وثقافتها الإسلامية من التاريخ. نظر كتاب المقاومة الفلسطينيون مرة أخرى إلى كيفية تمثيل وتفكيك تاريخهم الخاص كشعب من أجل إثبات وجودهم في فلسطينَ قبل وجود المحتلين، مطالبين بحق أجدادهم في الانتماء إلى الأراضي الفلسطينيَة. وفي هذا السياق، فإن الإشارة إلى انتشار سوء التمثيل الإسرائيلي للفلسطينيين بوصفهم إرهابيين في وسائل الإعلام العالمية هو أمرٌ ذو صلة أيضاً، في حين يحاول الكتاب الفلسطينيون الكشفَ عن حقيقة الاحتلال الإسرائيلي. طور سعيد القراءة الطِباقية كأسلوب لإعادة التفكير في ما هو غير معلَن، وما لم يُقَل في ما يتعلق بالسرد المهيمن للمستشرقين والمستعمرين الغربيين، وقد قدم أمثلةً كثيرة على ذلك في تحليله للنصوص المختلفة التي كتبها المستشرقون الأدبيون، التي تظهر في «الاستشراق» (1978) وفي «الثقافة والإمبريالية» (1994).

يتمثل الهدف الرئيس الثاني لأدب المقاومة الفلسطيني في توثيق الحياة اليومية للفلسطينيين وأن يكون بمنزلة شاهد على المعاناة التي سببها فقدان منازلهم، وتجربة نفيهم المطوَل. كما توضح تحرير حمدي، يمكن عد «أن تكونَ شاهداً» نوعاً فرعياً أدبياً، ما يوفر انعكاساً لما تم قمعه من قِبل السرد السائد للمجموعة الأكثر قوة.
ثالثاً، يُحيي هذا النمط من الكتابة تاريخ المأساة وينبه القرَاء إلى أصول النضال. وفي إشارة خاصة إلى صفات شعر المقاومة الفلسطيني، يؤكد كنفاني أنه يمتلك «روحاً ثورية مذهلة خالية تماماً من النزعة الحزينة والبكاءة». وعليه، يؤكد أن هذا النوع من الكتابة ليس تعبيراً عن الشفقة على الذات في مواجهة المحنة والبلية، بل هو بالأحرى دليل على القوة والعزيمة في الشدائد. يشير الناقدان الأدبيان الفلسطيني، عادل الأسطة واللبناني حسين مروة، إلى أن الأعمال المبكرة لشعر المقاومة ما بعد النكبة، تشترك في مجموعة من الخصائص المشتركة، إذ يلاحظان أنه: «يمكن تمييز علاقة خاصة مع الوطن، وكذلك شعور بالتضامن مع شعبهم في هذا الشعر على نحو خاص. وعلى الرغم من ذلك، فإنه لا يُظهر دليلاً على وجود أي توجهات معادية للسامية تجاه الإسرائيليين ودينهم». بالإضافة إلى ذلك، فقد لاحظا أن الأعمالَ التي أنتجها شعراء المقاومة تميل إلى الارتباط ارتباطاً وثيقاً بالحياة الخاصة لمؤلفيها. إن الاتجاه الثالث هو أنهم أيضاً دليلٌ على التأثيرات السياسية الخارجية، ولاسيما القومية العربية والناصرية: «تبنى معظم شعراء المقاومة الفلسطينيين المبادئ الماركسية التي غذت حماسهم وأثارت مشاعرهم تجاه الإجراءات الإمبريالية الإسرائيلية».
في ما يتعلق بالقومية، استخدم جميع الكتاب الفلسطينيين، أمثال فدوى طوقان، راشد حسين، سميح القاسم، وبالطبع درويش نفسه، كتاباتهم الإبداعية من أجل التعبير علانيةً عن شعورهم بالخسارة تجاه وطنهم، وبغية التأكيد على هويتهم الفلسطينية. إن طوقان، على سبيل المثال، التي كانت تنتمي إلى الحركة الأولى لشعراء المقاومة، هي شخصية رئيسة في الشعر الفلسطيني، وتثير في عملها قضايا مثل بيع الأراضي الفلسطينية لليهود، قلة الوعي في أماكن أخرى من العالم العربي بشأن التهديدات التي تشكلها الصهيونية، القلق من صراعات الفصائل بين الفلسطينيين أنفسهم، والرجال الفلسطينيين المتآخين مع النساء اليهوديات. كما أنها تصف أفراح المناسبات الاحتفالية بين الفلسطينيين.

في مذكراته شديدة الوضوح، «رأيتُ رام الله» (1997) ينقل مريد البرغوثي مرارة وألم كونه فلسطينياً في المنفى من خلال الكشف عن تفاصيل الحيوات السياسية والاجتماعية والنفسية والاقتصادية لأبناء وطنه، في أثناء كتابته عن تجاربه الخاصة من وجهة نظره الشخصية. كما يسلط الضوء على مشكلات أخرى نتجت عن أن تكون فلسطينياً، بما في ذلك الإزاحة، ونفي الشتات، والانفصال عن أحبائهم. يشير العنوان إلى رغبة البرغوثي السابقة في زيارة رام الله، قبل زيارته لرام الله بعد ثلاثين عاماً، وهو ما يمثل رمزاً لـ «تحقيق المستحيل» لأن هذا في الواقع لن يحدث نظراً لكون منح الإذن من قِبل السلطات الإسرائيلية أمراً نادرَ الحدوث. ويوضح هذا أيضاً خصوصية الوضع الفلسطيني الذي تتخذ فيه زيارة مدينة تقع على مسافة جغرافية قصيرة فقط أهمية رمزية لرحلة ملحمية إلى موقع أسطوري ممتلئ بالرغبة والتوق.

تقرير للكاتبة سعاد العنزي

Copyright © 2017 Al Eshraq TV all rights reserved Created by AVESTA GROUP