16/03/2020
تقاریر 554 قراءة
من القوة الناعمة إلى القوة الخشنة.. إردوغان وحيداً
رهسم له ئهرشيف
الاشراق | متابعة.
بدأت مظاهر التحول في تركيا مع تسلّم توركوت أوزال مقاليد الحكم في تركيا في عام 1983 بعد أن استشعر القياديون الأتراك استحالة دخولهم إلى الكيانية الأوروبية الجامعة، فبدأوا برسم معالم استراتيجية تركية جديدة تستند إلى إعادة تعريفها وفقاً لانتمائها الإسلامي من جهة، ولتعريف المصالح التركية وفقاً للمسألة القومية.
في هذا الجو استطاع حزب "الرفاه الإسلامي" بقيادة نجم الدين أربكان أن يحدث اختراقات واسعة في الانتخابات البرلمانية، ويصبح رقماً صعباً في الحياة السياسية التركية، ما أتاح ظهور اسم رجب طيب إردوغان للمرة الأولى، بعد أن نجح في انتخابات بلدية إسطنبول، وتسلم رئاستها بين عامي 1994- 1999، والتي أثبت فيها جدارة كبيرة بنقل المدينة المكتظة بالسكان المتميزة باختزالها التنوع الثقافي التركي بحكم احتوائها على نماذج سكانية من كل المناطق، ما رفع من أسهمه في كل تركيا، بسبب تداول أخبار نجاحاته في كل المناطق، ودفع بالدولة العميقة إلى سجنه مدة أربعة أشهر، ومنعه من العمل السياسي بعد أن ردّد أبياتاً شعرية في الحملة الانتخابية لحزب الفضيلة تناقض مبدأ الدولة العلمانية التي أسسها مصطفى كمال أتاتورك: "المآذن حرابنا، والمساجد قلاعنا، وقبب المساجد خوذات جنودنا".
وما إن خرج من السجن عام 2000 حتى انشق مع رفيقه عبدالله غول عن حزب الفضيلة وريث حزب الرفاه الإسلامي، وأسسا حزباً جديداً باسم العدالة والتنمية، لينطلق بأطروحة سياسية تؤكد علمانية الدولة التركية، ما دفع بالأب الروحي لهما نجم الدين أربكان إلى اتهامهما بالعمالة للصهيونية العالمية في ما بعد.
استطاع حزب العدالة والتنمية أن يصل إلى الحكم في عام 2002 مستفيداً من التجربة السابقة في حزب الرفاه، ومن بعدها في حزب الفضيلة، إضافة إلى احتياج الغرب لنموذج إسلامي ليبرالي يقبل بتبادل السلطة بعيداً عن الشريعة الإسلامية، وقابلاً للاقتداء والتعميم في كل العالم الإسلامي، ما دفع بتدفق الاستثمارات الغربية بشكل كثيف إلى تركيا وتمت الاستفادة منها بإطلاق العجلة الاقتصادية التركية المتخلّفة، وجعلها في المركز السابع عشر على مستوى اقتصاديات العالم، خلال سنوات معدودة، وبلغ معدل النمو الاقتصادي بين عامي 2002 و2013 نسبة 5.1 %، وارتفع مستوى دخل الفرد من 3300 دولار إلى 10800 دولار سنويّاً.
وعلى المستوى الداخلي توجّه إلى كل مكونات الشعب التركي متقرباً من الجميع، مع وعود بحل القضية الكردية ضمن إطار الدولة التركية، إضافة إلى الوعود التي أطلقها للعلويين البكتاشيين بالاعتراف بهم كمكوّن ثقافي له خصوصيته، وتمويل مراكز "الجُمع" وهي أماكن خاصة بهم للعبادة، ما ترك آمالاً كبيرة لدى عموم الشعب التركي بالحصول على المشاركة الفاعلة في الحياة السياسة والاقتصادية والاجتماعية، وانتهاء سياسة الإقصاء والتتريك.
هذه التحولات الداخلية المتسارعة أتاحت لتركيا بأن تظهر كقوة إقليمية مستقطبة لكل شعوب العالم الإسلامي، ولا سيما بعد أن عمل أحمد داوود أوغلو مستشاراً للسياسات الخارجية من عام 2003 وحتى عام 2009 لكل من الرئيس عبدالله غول ورئيس الوزراء حينها رجب طيب إردوغان، وهي سياسة اعتمدت على المصالحة مع كل دول الجوار واستراتيجية "صفر مشاكل" ورفض البرلمان التركي استخدام القوات الأميركية الأراضي التركية في غزو العراق، ما جعل الأسهم التركية ترتفع عالياً كمؤشر لعودتها إلى الشرق وقضاياه وأزماته، وبدأت التحولات الإيجابية بين المنطقة بشكل عام وتركيا بعد الزيارة الأولى للرئيس السوري بشار الأسد لتركيا في مطلع عام 2004، والإعلان عن بدء نمط جديد من العلاقات بين البلدين، بعد ما يقارب تسعة عقود من سيطرة ثقافة الكراهية المتبادلة، بحكم سياسات التعليم التي استندت إلى مفاعيل التدخل الغربي وتمزيق المنطقة في مطلع القرن العشرين وانهيار الإمبراطورية العثمانية الجديدة.
ومع انفتاح سوريا الكامل على تركيا بدأنا نشهد انقلاباً ثقافياً واقتصادياً في العلاقات بينهما، وحلّت ثقافة المودة بعد إزالة حواجز الانتقال بين البلدين وإلغاء تأشيرات الدخول المسبقة، والانتقال السلس للبضائع بين البلدين، وإن كان على حساب الاقتصاد السوري، وكل ذلك دفع الجميع إلى مراجعة ثقافة الكراهية، وإحلال ثقافة التعاون والشراكة، ونقل الخبرات التركية إلى سوريا، وهو ما جعل من سوريا التي تعتبر البوابة الجنوبية لتركيا مدخلاً لها إلى كل العالم العربي، واستطاعت من خلال جملة السياسات المتبعة أن تتحول إلى قوة ناعمة شديدة التأثير في كل المناطق الممتدة من سوريا والعراق إلى الخليج وشمال أفريقيا، بحيث رأت شعوبها بأن النموذج التركي قابل للتعميم، وأنه يمثل الخلاص من حالة التخلف وغياب بنية الدولة الحديثة.
مع بدء ما يُسمى "الربيع العربي" في تونس أواخر عام 2010، بدأت تظهر تحولات الموقف التركي الحقيقي مع وزير الخارجية التركي أحمد داوود أوغلو الذي خرج بتصريح لافت للنظر قال فيه "انتظروا تركيا عام 2023" والبدء بتبني هذا الحراك الذي أطلقت عليه الولايات المتحدة مصطلح الربيع العربي بما يشير إلى أن خطاب القاهرة للرئيس الأميركي باراك أوباما عام 2009، لم يكن سوى بداية الإعلان عن التحولات المرتقبة في المنطقة العربية بشكل أساسي، وسيطرة الإسلام السياسي على مقاليد السلطات في كل من مصر وليبيا وسوريا واليمن عنوةً، وفي المغرب والأردن توافقاً، مع إخفاء ما يخطط للخليج.
بدأت الضغوط التركية على دمشق لإجراء تغيير في بنية السلطة السياسية، وإدخال حركة الإخوان المسلمين فيها وبحصة 50 % وهذا ما رفضته دمشق بشدة، بحكم التجربة الدموية المُرة مع الحركة في نهاية سبعينيات القرن الماضي وبداية الثمانينيات.
ساد الجو العربي الضاغط بعد استلام الإخوان المسلمين السلطة في مصر والأردن وليبيا والمغرب واليمن، ما دفع الرئيس التركي -الذي ظهرت أحلامه بعودة الدولة العثمانية إلى الحياة كاستراتيجية ستتحقق وفق رؤيته في عام 2023- للتدخل بشكل كبير في سوريا بالذات، التي اعتبرها البوابة الوحيدة لتحقيق حلمه، فاندفع بعيداً في دعم كل الجماعات الإسلامية التي تشكلت في سوريا إثر الحرب عليها، مستفيداً من الموقف الأميركي صاحب التأثير الأول في كل ما يحصل في سوريا وغيرها من البلدان، وازداد شراسةً في التدخل بعد إسقاط حكم الإخوان في مصر على أيدي الشعب والجيش المصريين، واصطفاف دول الخليج إلى جانب مصر بعد إدراكها مخاطر المشروع الأميركي المُدار تركياً لاستبدال كل أنظمة الحكم في المنطقة.
كان للدخول الإيراني والروسي بطلب من دمشق لمواجهة المشروع الغربي التركي الأثر البارز في تحولات المشهد العسكري الميداني على الأرض السورية، والذي أدى إلى استعادة دمشق جزءاً واسعاً من سيادتها على الأراضي السورية، وبالتالي إلى تحجيم الدور التركي الواسع فيها، وفرضت عليه الانتقال إلى خطة "الميثاق المِلّي" والسيطرة على المناطق الشمالية في سوريا، برضا روسي بغية إيجاد حل سياسي إقليمي بعيداً عن الولايات المتحدة.
لم يبتعد الداخل التركي عن التأثيرات السلبية للتدخل التركي المباشر وغير المباشر في الحرب السورية، فانعكس ذلك على الوضع الاقتصادي التركي وانخفاض قيمة الليرة التركية، مترافقاً مع تحولات سياسية كبيرة بعد التحول إلى النظام الرئاسي، والإمساك بمفاصل مجلس الأمن القومي التركي، ولا سيما بعد فشل المحاولة الانقلابية، واستثماره الإمساك بمفاصل الجيش والقضاء والاقتصاد والإعلام، ووضع آلاف الضباط والقضاة والإعلاميين في السجون بحجة مساهمتهم أو تأييدهم للانقلاب، ما جعله حاكماً أوحدَ لتركيا، ودفع إلى تشكل جبهة واسعة من الخصوم السياسيين، بمن فيهم المقربون منه، ولا سيما عبدالله غول وأحمد داوود أوغلو وعلي باباجان، وسقوطه السياسي المدوّي مرتين متتاليتين في انتخابات بلدية إسطنبول بالذات، التي تصنع الرؤساء، ونجاح إمام عمران أوغلو ممثل حزب الشعب الجمهوري فيها.
فقدت تركيا معظم إنجازاتها السياسية بفعل أوهام العثمانية الجديدة التي اتبعها الرئيس التركي، وأعادت سياسة الكراهية بين شعوب الدول المحيطة بها بعد تحولها من سياسة القوة الناعمة الناجحة، إلى سياسات القوة الخشنة التي اتبعتها بشكل مباشر في كل من سوريا وليبيا، ودفعت بإردوغان إلى أن يكون وحيداً في مواجهة عواصف الداخل والخارج، ولا سيما بعد أن تعرّض لنكسة عسكرية كبيرة في منطقة إدلب السورية، ولَم يبقَ له سوى إيران وروسيا لإنزاله عن الشجرة السورية، وأن يقبل بإطار التعاون مع سوريا لمحاربة التنظيمات الإرهابية، والعودة إلى اتفاق أضنة عام 2010 المعدل، وهو ما عبّر عنه علي باباجان بعد أن أطلق حزبه الجديد، فهل يستطيع أن يفعل ذلك؟