04/03/2020
تقاریر 796 قراءة
الخوف من الوباء.. أخطر من كورونا
رهسم له ئهرشيف
الاشراق | وكالات.
لا يعدّ وباء فيروس كورونا (Disease: Coronavirus, COVID-19; Virus: SARS-CoV-2) الزائر الكارثيّ الأول على وجه الكوكب، فقد مرّت على البشرية العشرات من الكوارث الوبائية وغيرها من أشكال الكوارث، كالأمراض والحوادث الطبيعية الفاجعة ومصائبها.
إنَّ تفشّي فيروس كورونا الوبائي اليوم كمرض يسبّب الالتهابات الرئوية الحادّة- وخصوصاً لدى من يعانون أمراضاً صحّية مُزمنة، ممّا يضعف نظامهم المناعي، وهم في العادة من المتقدمين في السنّ- ليس الحالة الأولى التي تمرّ على الناس، بل سبق أن أُصيبت الشعوب بهذا النوع من الوباء، وكانت تلك الحالات متقاربة جدّاً، ولكنّها غير مطابقة للموجة التي اكتسحت عالمنا اليوم.
هذه الموجة إنْ تحوّلت إلى وباء شامل، وعلى نطاقٍ واسعٍ، فالخطر سيكون مضاعفاً مرّاتٍ عديدة، وسيكون التوجّس العالمي منه متوقّعاً بشكل كبير ومتصاعد. وقد سبق أن أطلّ "كورونا" على الناس بأنماطه المتعدّدة، بعد اكتشافه في ستينيّات القرن العشرين، في كلٍّ من الأعوام 2003 (SARS-CoV)، و2012/2015/2018 (MERS-CoV)، حتى انتشاره المعاصر 2019-2020 (SARS-CoV-2).
إنَّ استشعار الخوف نعمة في حياة الإنسان والحيوان عامّة، والخالق الحكيم أوجد الخوف كعنصر إبقاء على حياة الكائن الحيّ، لكنَّ الخوف منه صنف إيجابيّ يبعث على الحذر، والرويّة، والحيطة، والتأمّل، والتخطيط، والاستعداد، والوقاية، ونَفَس التحدّي للقادم المجهول، ومنه ما هو سلبي يؤدي بصاحبه إلى التقوقع، والانزواء، والعزلة، والتجمّد، واللاأدريّة، واليأس، وموت روح المثابرة في التمسّك بالحياة، وتحدّي الصّعاب.
وعلى العاقل المتعلّم أن يزن الأمور، حتى لا يقع في شباك الإفراط في الخوف المُشلّ للحركة إلى حد التجمّد وتعطيل الحياة، وأن لا يقع في فخاخ التفريط في الخوف إلى حد اللامبالاة والتهوّر وعدم احترام العلم وتحذيرات الخبراء وأهل الاختصاص. هذا التوازن ضروري وصعب في آن، وخصوصاً على نطاق الشّعوب بطولها وعرضها في أرجاء البلاد المترامية.
في العام 1918، ومع انتهاء كابوس الحرب العالمية الأولى (1914-1918) التي حصدت عشرات الملايين من المدنيين الأبرياء في المعارك الدولية الطاحنة في البلدان المشتركة والمحيطة، البالغة أكثر من 30 دولة، أصبحت قارّة أوروبا أمام كابوسٍ كارثي آخر سُمّي "الإنفلونزا الإسبانية".
لقد حصد هذا الوباء الخطير بعد أن طاف ربوع البلاد على امتداد المعمورة، بحسب التَّسجيلات التقريبيَّة، بين 25 و50 مليون شخص! فكان كارثة بكلِّ ما للكلمة من معنى في العصر الحديث في مرحلة ما قبل اختراع السلاح الذرّي النووي والطفرة العلمية التي تحقّقت في القرن العشرين.
لم تأتِ الإنفلونزا الإسبانية (Influenza A "H1N1") بلونٍ أو رائحةٍ أو طعمٍ، بل اكتسحت مُخترِقةً أجواء الشعوب كالشَبَح الخاطف، وأثخنت الناس بمأساويةٍ وتراجيديةٍ تأريخيةٍ بالغةٍ، من خلال انتشار المرض والموت المؤلم البطيء.
وكانت عوارض هذا المرض المنتشر معتادةً، كارتفاع حرارة الجسد، والصداع، والتعب الشديد حتى الإرهاق، وفي أغلب الحالات الإصابة بالالتهاب الرئوي الحادّ (النيومونيا، Pneumonia). ومما لا شكَّ فيه أنَّ الشعوب، ومع تزايد حالات الإصابة والوفيات بهذا الوباء، كانت مرعوبة، يملؤها الخوف المتزايد من الغموض القائم والمجهول القادم.
إنَّ الإنفلونزا الإسبانية مرض ضرب المستشفيات العسكرية في أوروبا في أولى موجاته الكاسحة، إذ كانت تكتظّ بالجنود وضحايا الحرب العالمية. وعند عودة موجات متزايدة من الجنود وتوافدها إلى هذه المستشفيات، تجدّدت موجات الأوبئة، وتفشّى المرض بصورة أوسع، وكان ممّن أُصيب به الفئة غير المسنّة أيضاً.
وقد أخفت الحكومات في أكثر البلدان، حفاظاً على معنويّات شعوبها، الأخبار عن شدّة هذا الوباء وعمق فتكه بالأنفس وتفاصيل عواقبه الكارثية، لئلّا يُصاب الناس باليأس والفشل والإحباط في وقت الحرب والمواجهة مع العدو.
ولأنّ إسبانيا لم تكن فعليّاً من الدول المُنخرطة في الحرب، بل كانت على الحياد، التزم الإعلام الإسباني الحريّة في الكشف عن حقيقة الوباء وآثاره المدمّرة. ولذلك، اكتسب الوباء اسمه المُقترِن باسم الدولة، على الرغم من أنّه عمّ الجميع، وحصد الناس من عشرات البلدان، ولم يكن حبيس الجغرافيا الإسبانيَّة، فما أشبه اليوم بالبارحة!
إنَّ ما يجري في عالمنا اليوم مع وباء كورونا شبيه إلى حدٍ بعيدٍ بما واجهناه مع الإنفلونزا الإسبانية من حيث الغموض والتشويش والخوف والرهبة من المجهول القادم. وكما كان الأمر في العام 1918، فاليوم كذلك يُذاع رسميّاً أن "لا لُقاح ولا عِلاج" لهذا المرض حتى الآن، فكان ممّا كان، وكما هو حاصل الآن، اتخاذ السُلطات المعنيّة بعض الإجراءات كحلول عمليّة متلخّصة بالعزل (Isolation)، والحَجْر الصحّي (Quarantine)، وإغلاق الأماكن العامة، والتثقيف بالنظافة الشخصية (Personal Hygiene).
وفي مدينة نيويورك-سيتي الأميركية (NYC)، على سبيل المثال، كان يُجَرَّم بدفع الغرامة أو الحبس مَنْ كان يَسعل أو يَكح أو يعطسُ من دون أن يلتزم بحجب أنفه وفمه في المناطق العامَّة، إذ وصلت الوفيات في أميركا بسبب ذلك الوباء إلى أكثر من نصف مليون شخص.
بقيت الإنفلونزا الإسبانية تظهر هنا وهناك لثلاثة عقودٍ بعدها بشكلٍ موسميٍ محدود، وفي دولٍ مختلفةٍ، حتى العام 2005، إذ تمكّن العلماء من تحديد التركيبة البنيويّة للفيروس الَّذي سبَّب الوباء، ليطرحوا الحلول والتوصيات لتطويقه والحدّ من انتشاره على نطاقٍ واسعٍ مجدداً.
إنَّ الخوف السّلبي أخطر على الأفراد والشعوب من الوباء نفسه، لأنَّه بمثابة الاستسلام وعدم السعي لمواجهة التحدّي الذي يفرضه على الناس. ولا يجوز بحالٍ من الأحوال أن تتحوّل الأزمة من كارثة على البشرية جمعاء تستهدف الجميع، إلى حالةٍ من التراشق بين الأمم وتبادل التهم، أو أن ينطلق البعض لاستغلال الظروف للتشفّي، أو الشماتة، أو ممارسة شكلٍ من الكيديّة الأيديولوجية أو السياسية بين الشعوب على خلفيّة نشوء المرض، لتصفية حسابات أو تعبير عن آراءٍ مُغرضة مشبوهة.
فكما أنَّ الأزمات تصنع الشّعوب، فإنها تدفعها في الوقت ذاته إلى الابتكارات والإبداعات والتطوّر التجريبي والمعرفي والاستراتيجي بصورة مهمّة تعلو على مرحلة الأزمات، وتعبر بالشّعوب إلى برّ الأمان والازدهار، فلا ينبغي أن تنحصر الرؤية بالسلبيّة القاتمة.
وينبغي للشّعوب الحيّة التي انتهجت ثقافة المقاومة والصمود في الأزمات والمواجهة لكلِّ ما هو وبائيّ ودخيل على عافية أفرادها، سواء بالنسبة إلى الصحّة أو الثقافة أو الأمن أو الاقتصاد أو السياسة أو ما إلى ذلك، التكاتف بواقعيةٍ وشجاعةٍ وأمانةٍ، لاتخاذ كل إجراءٍ لازمٍ وفقاً لما يقرّره الخبراء المتخصّصون المعنيّون.
المُراد والمأمول هو أن تحوّل الشعوب الأزمات والاختبارات التأريخيَّة إلى فرص للبناء، وتجدّد الهمّة، والتعافي من الكسل والخنوع والجمود، وأن لا يكون ذلك مدعاةً للتراجع والإحباط، بل التقدّم الواثق.
إنّ التقاعس في هذا المسعى واللامبالاة يُعدان تجاوزاً دينيّاً وإنسانيّاً وأخلاقياً وقانونيّاً، فعدم الجدّية في أخذ الحيطة، واتّباع التعليمات القانونية والإرشادات المتخصّصة، والعمل المسؤول، هو شكل من أشكال الاستخفاف بحرمة الناس والإنسانيّة، وتوهين لما يمكن أن تؤول إليه المصائر الخطيرة للأمور.
ففي الوقت الَّذي يُنتظر من الشّعوب الناهضة أن تكون على قدر الصمود العالي عند التحديات الجسام، وعدم الخوف ممّا سيأتي من الأقدار، والتسليم للأمر الواقع الَّذي لا يمكن دفعه بعد إنجاز ما يمكن من الواجبات، كذلك عليها المضيّ بالتعلّم والتثقيف والوعي والبناء الذاتي، لتحصين عُرَى المواطنة الصالحة، وحماية النسيج الاجتماعي من الاهتراء، من خلال الخوف الإيجابيّ المسؤول الباعث على الحركة، واجتناب الخوف السّلبي الكابح للصّمود، فما يفوق الوباء خطورةً، هو الخوف المُعطِّل في مواجهته.