فخ "كيندلبيرجر" .. الصدام المرتقب بين الصين وأميركا

ishraq

الاشراق

الاشراق | متابعة.

في عام 1973، أصدر تشارلز كيندلبيرجر كتابه الشهير "العالم في حالة كساد 1929-1939". في هذا الكتاب اهتم كندلبيرجر بتحليل الأسباب الجذرية للكساد الكبير الذي شهده العالم في أعقاب الحرب العالمية الأولى، مستعرضاً حجته الأساسية أن الأزمة العالمية تفاقمت وتحوّلت إلى كارثة لأن بريطانيا لم تعد قادرة على القيادة، بينما كانت الولايات المتحدة مترددة أو غير راغبة في تولي الدور القيادي وتوفير "السلع العامة العالمية" (كالأسواق المفتوحة والسيولة النقدية).

 وعلى الرغم من أن كندلبيرجر لم يستخدم مصطلح "فخ كندلبيرجر" نفسه، فإن تحليله للعواقب المدمرة لـ فراغ القيادة بين القوة المنهارة والقوة الصاعدة هو الذي أطلق عليه الباحثون لاحقاً، ولا سيما جوزيف ناي في مقالته المعنونة "فخ كيندلبيرجر" المنشورة بصحيفة "project syndicate" سنة 2017، هذا الاسم لوصف السيناريو الحالي (أميركا-الصين).

 لكن، هل يمكن أن نتفق مع جوزيف ناي بالفعل حول فراغ القيادة؟! ينطلق جوزيف ناي من العقلية الرأسمالية التي تؤمن بضرورة وجود قوة مسيطرة يمكنها أن تدير العالم عبر تقسيم العمل والمصالح، وهو المنطلق ذاته الذي صاغ من خلاله تشارلز كيندلبيرجر رؤيته التي تطلق عليها الأوساط الأكاديمية " نظرية الاستقرار المهيمن "، وكلّ منهما في حقيقة الأمر يوجه تحذيراً إلى الولايات المتحدة من طرف خفي لتجنب السقوط وعدم السماح بالصعود الصيني، والحجة التي يعتمدان عليها أن الصين ليست مستعدة لممارسة دور القوة المهيمنة، كما أن جيران الصين الأقوياء لن يقبلوا بهذا الصعود، وهي رؤية سبق أن أشار إليها زيبغينيو بريجنسكي مستشار الأمن القومي الأميركي السابق في كتابه " رؤية إستراتيجية..

أميركا وأزمة السلطة العالمية "، وفي تحليله لاحتمال صعود الصين كقوة بديلة عن الولايات المتحدة الأميركية: " فأي صين عالية النبرة القومية وجازمة – متباهية بقوتها الصاعدة – قد تدفع، دونما قصد، باتجاه استنفار تحالف قوي بين الجيران ضدها. والحقيقة هي أن أياً من جارات الصين المهمة – اليابان، والهند، وروسيا – ليست مستعدة للتسليم بحق الصين في الحلول محل الولايات المتحدة على العرش العالمي إذا بات شاغراً. قد تجد جارات الصين نفسها مضطرة في آخر المطاف، ولكنها ستبادر، على نحو شبه مؤكد، إلى المناورة ضد مثل هذا التنصيب. بل وقد تكون ميّالة إلى طلب التأييد من أميركا المتضائلة البريق من أجل قطع الطريق على صين متغطرسة".

وبناءً على رؤية المفكرين السياسيين الأميركيين، فإن بقاء الولايات المتحدة كقوة مهيمنة هو الحل الأمثل، ومطلب بالنسبة إلى هذه الشعوب بصورة عامة في مواجهة صعود الصين.

 لكن المشكلة حالياً، أن نتائج العولمة تمكّنت من ضرب الصميم الأميركي والغربي ذاته، في وقت استطاعت الثقافات المسيحية الشرقية والإسلامية والشرق آسيوية الصمود إلى حدّ ما أمام سياسات إسقاط الحدود، وتنحية الثقافات وحتى الديانات في مقابل ثقافة الاستهلاك الزائد التي سعت سياسات العولمة لترويجها تحت مسمّى الحريات وحقوق الإنسان وحقوق المرأة، وهي لافتات مثالية لكن تستخدم كمظلة لخدمة أغراض تفكيك الثقافات التقليدية ومنظومات الأديان والأخلاق والعادات والتقاليد المتبعة في المجتمعات التي عدّها الغرب معادية (بحسب صمويل هنتنجتون)، بمعنى مسخ المجتمعات الشرقية (إسلامية أو مسيحية شرقية أو غيرها من الثقافات العريقة حضارياً كالهندية والصينية)، بل وحتى تفكيك وحدات سياسية كاملة، يمكن أن تتعارض مع مصالح حركة رأس المال.

وبالتالي، فقد انقلب السحر على الساحر، وأصبحت الولايات المتحدة حالياً أو الاتجاه اليميني الذي يتزعمه ترامب، بدعم من بعض الشرائح المتضررة من الرأسمالية الصناعية الأميركية، ناقمة على العولمة وتسعى للتقليل من آثارها والانقلاب عليها، ومن هنا يمكننا قراءة الواقع الحقيقي فالولايات المتحدة لا تستطيع تحمّل تكاليف قيادة العالم، والصين لا تريد تحمّل مسؤولية قيادة العالم.

 إن هذه المفارقة تعني أنه لن يكون هناك صدام حقيقي ومباشر بين قوتين نوويتين كل منهما قادرة على تدمير مناطق واسعة من أراضي الطرف الآخر، لكنه بدقة أكثر صراع (وليس صداماً) بين قوة تريد أن تبقى عظمى من دون أعباء، وقوة أخرى تريد أن تصبح عظمى من دون قيادة.

 من جهة الولايات المتحدة، لا يمكنها أن تدخل مواجهة مباشرة مع الصين تعرّض فيها قواعدها في شرق وجنوب شرق آسيا والمحيطين الهندي والهادئ عموماً للخطر، والأهم أنها تدرك تماماً قدرة الصين على ضرب العمق الأميركي ما سيمثل سابقة لا يمكن لأي رئيس أميركي أن يتحمّلها.

كما لن يخاطر الأميركيون بالدخول في مواجهة تكلفهم خسارة سوق واسعة كالسوق الصيني يستثمر فيه العديد من رجال الأعمال الأميركيين الذين لن يقبلوا بوصول الأمور إلى هذه المرحلة من المواجهة ما سيؤدي إلى زيادة الصدع بين المجامع العسكرية من جهة والتقنية والمالية من جهة أخرى، وليس سراً أن هناك لوبياً قوياً يعمل لمصلحة إيقاف أو إضعاف المواجهة مع الصين وعدم وصولها إلى حدود الصدام المباشر، ومؤخراً نجح هذا اللوبي في إقناع ترامب بالسماح لشركة إنفيديا بتصدير الرقائق المتقدمة للذكاء الاصطناعي (منتجات إتش 200) إلى الصين، وإلغاء قرار الرئيس الأميركي السابق جو بايدن بمنع تصديرها إلى الصين خشية استخدامها في تطبيقات عسكرية، وإن كان ترامب قد أشار إلى أن الرقائق الأكثر تطوّراً من "انفيديا"، مثل سلسلة "بلاكويل" ومعالجات "روبن" المقبلة، غير مشمولة في الاتفاق وهي تبقى محصورة بالزبائن الأميركيين، ما يعني أن اللوبي الكابح لجماح الصدام مع الصين قوي للغاية في الولايات المتحدة.

 على الجانب الصيني، يدرك قادتها مخاطر الاضطلاع بمسؤولية قيادة العالم، على الأقل في هذا التوقيت، بالرغم من التطور الاقتصادي والعسكري، لكن الصين في حاجة إلى صياغة نظرية ورؤية ثقافية تقدمها للعالم تبرر هذا الانتشار والتمدد من دون تحمّل مسؤولية القيادة المهيمنة، ويبدو بالفعل أنها تبذل الجهد في هذا الشأن مستخدمة شعار عالم متعدد الأقطاب ضد تسلط وهيمنة القوى الغربية، وهو شعار يلقى الكثير من الدعم لدى الكثير من الدول في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، بل وحتى أوروبا الشرقية.

يضاف إلى ذلك أنها (أي الصين)، حتى الآن، لم تصل إلى التطور التكنولوجي الذي يمكنها فيه تجاوز الولايات المتحدة، والصدام المباشر بينها وبين الأميركيين الآن سيؤدي إلى تهديد مشروعها وتعطيل التطور الذي تسعى إليه، والتمدد الاقتصادي عبر مبادرة "الحزام والطريق".

 وبصورة عامة، لا يوجد في العالم من يرغب في رؤية مواجهة بين الولايات المتحدة والصين في المحيطين الهندي والهادئ، فهذه المنطقة هي الأهم في العالم تجارياً، إذ بلغت واردات الاتحاد الأوروبي (على سبيل المثال) منها 844 مليار يورو عام 2021، كما بلغت قيمة الصادرات إليها من الاتحاد الأوروبي 583 مليار يورو أي ما يقرب من 90% من التجارة الخارجية للاتحاد الأوروبي في السلع التي يتم نقلها بحراً، ويمر عبر بحر الصين الجنوبي ما يقدر بنحو 40% من التجارة الخارجية للاتحاد الأوروبي، ومن المؤكد أن أي صراع ينشب بين قوتين مهولتين في الإمكانيات يمكن أن يهدد سلاسل التوريد التي تحتاجها أوروبا[2].

 ما الشكل الذي سيتخذه الصدام بين الصين وأميركا؟
 حتى الآن، لا يتجاوز الأمر المواجهات الحمائية التي يقوم بها الرئيس الأميركي في محاولة لإعادة إنعاش اقتصاده، لكن ما يثير القلق عند الأميركيين بالفعل هو السعي الصيني لاستعادة السيطرة على جزيرة تايوان، وقد عبّر عنه بوضوح وزير الدفاع الأميركي، بيت هيغسيث، في شهر أيار/مايو الماضي، محذّراً من أن الصين تخطط لغزو تايوان في عام 2027. وهو احتمال يزداد قوة بعد الفشل الأميركي والأوروبي في إيقاف التوغل الروسي في أوكرانيا.

 يرجع سر القلق الأميركي إلى أن جزيرة تايوان تمتلك الريادة العالمية في صناعة أشباه الموصلات وخصوصاً الرقائق: تنتج تايوان، وتحديداً شركة TSMC (شركة تايوان لصناعة أشباه الموصلات)، نسبة ضخمة من الشرائح الدقيقة في العالم (نحو 60%)، وتصل هذه النسبة إلى أكثر من 90% من الرقائق الأكثر تطوراً (تلك التي تُقاس بالنانومتر الأقل)، والتي تُعدّ ضرورية للحوسبة، والذكاء الاصطناعي، والهواتف الذكية، والسيارات الكهربائية، وأنظمة الأسلحة المتقدمة.

وتعتمد شركات التكنولوجيا الأميركية العملاقة مثل أبل (Apple) وإنفيديا (Nvidia) إلى حد كبير على TSMC في توريد الرقائق المتقدمة. هذا الاعتماد جعل البعض يطلق على أهمية تايوان في هذا المجال اسم "درع السيليكون". وفي حال سيطرت الصين على تايوان ومرافق إنتاج الرقائق المتقدمة (TSMC)، فإن هذا سيمنحها دفعة هائلة في سعيها لتجاوز الفجوة التكنولوجية مع الولايات المتحدة، عبر اكتساب القدرة التصنيعية المتقدمة كنتيجة للحصول على تكنولوجيا التصنيع الأكثر تقدماً في العالم، ما يمكنها من إنتاج أحدث الرقائق التي تكافح حالياً لتطويرها داخلياً.

كما ستتمكن من تعطيل سلسلة الإمداد الأميركية نتيجة فقدان الولايات المتحدة والشركات الغربية لإمدادات TSMC ما سيؤدي إلى شلل فوري في العديد من الصناعات الحيوية (الأجهزة الإلكترونية، والاتصالات، والأسلحة المتقدمة)، الأمر الذي قد يمنح الصين ميزة كبيرة. وأخيراً، سيسمح استحواذ الصين على تايوان بتسريع برامجها للذكاء الاصطناعي وتقليص الفارق مع الولايات المتحدة، الذي يُقدر حالياً بالسنوات في بعض التقنيات.

 لكن الأمر هنا يتعلق بتقليص الفارق فقط، فحتى شركة (TSMC) تعتمد في إنتاجها على معدات وتقنيات حاسمة مصدرها الولايات المتحدة وأوروبا، لا سيما هولندا (مثل آلات الطباعة الضوئية الشديدة التعقيد EUV من شركة ASML)، وبالتالي فالأمر لن يخرج من يد الأميركيين بشكل كامل، بل أن الأميركيين يسعون لاستغلال التهديد الصيني من أجل نقل جزء من نشاط شركة TSMC إلى ولاية أريزونا الأميركية بهدف توطين جزء من صناعة الرقائق المتقدمة في أراضيها وتقليل الاعتماد على تايوان، ومن خلال قانون الرقائق والعلوم ترغب في زيادة الإنتاج المحلي من الرقائق، ونقل ما يصل إلى 20% من صناعة الرقائق المتقدمة عالمياً إلى الأراضي الأميركية بحلول عام 2030.

 بدورها، وبالرغم من كونها شركة تايوانية، فإن النسبة الأكبر من المساهمين فيها هم من المستثمرين الأجانب وخصوصاً الأميركيين (مثل Capital Research و Vanguard Group و BlackRock)، ولذلك قامت بإنشاء مجمع تصنيع ضخم في فينيكس، أريزونا، والذي يُعدّ من أضخم الاستثمارات الأجنبية المباشرة في تاريخ قطاع التصنيع بالولايات المتحدة، ورفعت إجمالي استثماراتها المخطط لها في الولايات المتحدة إلى 165 مليار دولار أميركي، لبناء ما يُعرف باسم "مجمع جيجافاب" (Gigafab).

ومن المخطط أن يضم هذا المجمع ما يصل إلى ستة مصانع (Fabs) لتصنيع الرقائق، ومنشأتين للتغليف المتقدم، ومركزًا للبحث والتطوير، وستقوم هذه المصانع بإنتاج أكثر الرقائق تطوراً في العالم، حيث بدأ بالفعل إنتاج شرائح بتقنية 4 نانومتر، ويستهدف إنتاج رقائق 3 نانومتر بحلول عام 2028، وتقنيات 2 نانومتر وA16 بحلول عام 2030، وذلك بالرغم من اعتراف الشركة أن تكلفة الإنتاج في أريزونا الأميركية تزيد بنسبة 50% على تكلفة الإنتاج في تايوان، لكنها تعتمد على الدعم الحكومي الأميركي المقدم لها والذي يبلغ 6.6 مليار دولار في صورة منح وما يبلغ 5 مليار دولار في صورة قروض.

 ومن الضروري هنا الإشارة إلى التعاون التكنولوجي الضخم بين تايوان والكيان الصهيوني في مجال صناعة أشباه الموصلات والرقائق، حيث تعمل الشركات التايوانية والصهيونية معاً في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي، الأمن السيبراني، شبكات الجيل الخامس (5G)، تكنولوجيا المياه، وتكنولوجيا الدفاع.

وقد شهدت الفترة الماضية قيام تايوان والكيان الصهيوني بعقد مؤتمرات مشتركة للتعاون الاقتصادي والتكنولوجي، ووقّعتا اتفاقيات لتعزيز التبادل في مجال الملكية الفكرية، وتسهيل مشاريع البحث والتطوير المشتركة في تصميم أشباه الموصلات. وهناك استثمار تايواني في قطاع التكنولوجيا الصهيوني، فعلى سبيل المثال، أنشأت شركات تايوانية كبرى مثل Winbond وNuvoton مراكز بحث وتطوير في الكيان الصهيوني منذ وقت مبكر، وقد أدت ضربات المقاومة إلى تأثر هذه الاستثمارات. ومؤخراً، رد الكيان الصهيوني على المناورات التي جرت بين مصر والصين بعقد صفقة القبة الحديدية مع تايوان.

 ما تسعى إليه الولايات المتحدة في الواقع ليس الدفاع عن تايوان، وإنما تأخير الخطوة الصينية باستعادتها حتى تتمكن من تركيز هذه الصناعة المتطورة وغيرها من الصناعات على أراضيها، وربما لهذا السبب يسعى الرئيس الأميركي إلى محاولة ضم جزيرة غرينلاند والتي تحتوي على ثروات معدنية تدعمها.

 إن السياسة الأميركية الجديدة تتبع استراتيجية القيادة من الخلف (Offshore Balancing) فلا تستهدف الصدام العسكري المباشر في مواجهة القوى المعادية لها، بقدر ما تقوم بخلق معادل لها في المنطقة. ضمن سياسة تقاسم الأعباء (Burden Sharing)، وبناء جدار دفاعي غير أميركي، فتسعى لدعم التطور العسكري البولندي كمعادل معاد لروسيا ومنافس لكل من ألمانيا وفرنسا، كما تدعم تركيا (سابقاً السعودية) كمعادل معاد لإيران، وبالنسبة إلى الصين فقد بدأت الولايات المتحدة إعادة تنشيط الدور الياباني مرة أخرى، متخلية عن القيود التاريخية التي فرضتها على اليابان عقب الحرب العالمية الثانية عبر معاهدة التعاون المتبادل والأمن بين الولايات المتحدة واليابان 1960، والدستور الياباني الذي قامت بفرضه والذي تنص مادته التاسعة على أن الشعب الياباني يتخلى إلى الأبد عن الحرب كحق سيادي للأمة وعن التهديد بالقوة أو استخدامها كوسيلة لتسوية النزاعات الدولية.

 فمنذ تولي دونالد ترامب منصب رئاسة الجمهورية، يسعى إلى تشجيع اليابان، وحتى كوريا الجنوبية، على زيادة إنفاقهما الدفاعي وشراء المزيد من الأسلحة الأميركية لمواجهة النفوذ الصيني وخصوصاً في ما يتعلق بتايوان، ومن الواضح أن اليابان قد استجابت لهذه المطالب، فقامت بزيادة إنفاقها العسكري، وتم تعديل التفسير الدستوري للمادة التاسعة للسماح بقدرات "هجوم مضاد"، وهي في الواقع أسلحة هجومية بعيدة المدى، وغالباً ما يتم شراؤها من الولايات المتحدة (مثل صواريخ كروز توماهوك). وقد تم تبرير هذا التوجه بأنه ضروري لردع الصين وكوريا الشمالية.

 لا يقتصر الأمر على اليابان فقط، فالتعامل مع القوة الصينية يقتضي تحالفاً بين كل محيطها الموالي للولايات المتحدة، وهنا قامت الولايات المتحدة بدعم صعود حزب بهارتيا جناتا الهندوسي إلى السلطة، والذي يتبنى القومية الهندوسية كعقيدة، ويرى أن الهندوس يشكلون أمة وجنساً متميزاً، ويستهدف إعادة تشكيل الهند الكبرى والتي تبدأ من حدود إيران وحتى الصين، وتشمل الهند الكبرى مناطق من شبه جزيرة الهند الصينية، هذه المتغيرات في الهند تلتقي مع الرغبة اليابانية في التحرر من قيود الحرب العالمية الثانية وإعادة اليابان القوية، ما يعد إشارة إلى عودة النهج العسكري الياباني السابق ولو بشكل تدريجي، عبر زيادة الإنفاق الدفاعي ليصل إلى 2% من الناتج المحلي الإجمالي، ما يجعل ميزانية الدفاع اليابانية ثالث أكبر ميزانية دفاع في العالم، والتركيز العسكري من الدفاع عن الشمال ضد روسيا، إلى الجزر الجنوبية في مواجهة الصين.

وبناء على الاستراتيجية الجديدة للأمن القومي التي أصدرتها إدارة الرئيس الأميركي، وتضمنت رؤيتها لدور الجيش الياباني في الفترة القادمة وهو الدفاع عن سلسلة الجزر الواقعة بين جنوب غرب اليابان والفلبيبن، فإن الولايات المتحدة ستدعم بناء جيش يمكنه صد أي عدوان ضمن سلسلة هذه الجزر، وهو ما يداعب أحلام اليمين القومي الياباني.

 لقد برزت هذه النزعة العسكرية القومية في الفترة الأخيرة مع تولي تاكايتشي ساناي رئاسة الحزب الليبرالي الديمقراطي، ومن ثم رئاسة الحكومة اليابانية بعد تحالفها مع حزب نيبونا يشين نوكاي اليميني، وهي المعروفة بآرائها القومية المتشددة بخصوص الصين وكوريا الشمالية، وبالتالي فقد بدأت سريعاً محاولات استفزاز الصين في أعقاب لقائها مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب، محذرة من أن أي غزو صيني لجزيرة تايوان سيعدّ تهديداً وجودياً لليابان يستوجب مواجهته عسكرياً. وعلى الرغم من الرد الصيني القوي لهذا التجاوز والتهديد بهزيمة ساحقة لليابان في حال فكرت بالتدخل العسكري، لكن الأمر لن يتجاوز التصريحات بأي حال، على الأقل من الجانب الياباني، إذ يوجد لوبي قوي داعم للشراكة الاقتصادية مع الصين وهي الشريك التجاري الأول لليابان بحجم تبادل يصل إلى 308.3 مليار دولار أميركي في عام 2024، وهناك 31 ألف كيان تجاري ياباني يعمل في الصين بحسب تقديرات عام 2023.

 ومع هذا الصعود لحالة العسكرة المعادية للصين في منطقتها من ناحيتي الشرق والجنوب، فقد قامت الولايات المتحدة الأميركية بتأسيس تحالف QUAD والذي يضمها بالإضافة إلى اليابان والهند وأستراليا (كلهم يعتمدون على تايوان في استيراد أشباه الموصلات والرقائق المتطورة) والذي وصفته الصين بأنه "ناتو آسيوي" في مواجهتها، في مقابل تحالفها الواقعي، غير المعلن، مع كل من روسيا وباكستان وإيران وكوريا الشمالية.

 وفي مواجهة مبادرة "الحزام والطريق" الصينية، سعى الأميركيون في قمة العشرين G20 المنعقدة بالهند في أيلول/سبتمبر 2023 إلى الإعلان عن توقيع اتفاقية ممر الهند – أوروبا، والذي كان من المفترض أن ينطلق من موانئ الهند إلى موانئ الإمارات ومنها عبر السكك الحديدية إلى ميناء حيفا الصهيوني، ومنه إلى أوروبا، لكن الاعتراضات التركية وقيام عملية "طوفان الأقصى" أدت إلى تعطيله ثم تغيير مساراته لتصل إلى أوروبا عبر قناة السويس في مصر من الناحية البحرية، أو عبر تركيا برياً.

 لكن هناك مشروع آخر يربط بين الهند واليابان وأستراليا تم تأسيسه في مواجهة مشروع "الحزام والطريق" الصيني، وهو مبادرة مرونة سلاسل التوريد (SCRI) والتي تأسست في 2021، وتستهدف بناء شبكة إمداد قوية ومستدامة وموثوقة، خصوصاً في قطاعات حيوية مثل السيارات والآلات الطبية، وذلك عبر تنويع مصادر الإمداد، بنقل بعض التصنيع بعيداً عن الصين إلى دول أخرى مثل الهند، وتعزيز تبادل المعلومات بين الدول الثلاث لتحسين إدارة المخاطر. أي أنه طريق هندي آخر لكن يتحرك باتجاه الشرق الآسيوي وأستراليا.

 أما من الناحية الصينية، فمن الواضح أن الأخيرة لم تستسلم لهذه المحاولات وتعيد تقوية تحالفاتها كذلك حتى في الحديقة الخلفية للأميركيين بداية من المكسيك وحتى البرازيل. بل أن الصين تلتف على التحالفات الموجهة ضدها في محاولة لتفكيكها من الداخل، ما يجعل التحالف الأميركي معها هشاً للغاية.

فهي تمتلك شراكة تجارية ضخمة مع أستراليا وكذلك اليابان وكوريا الجنوبية والفلبين، والواقع أن الصين تستخدم قدراتها الاقتصادية لتعزيز العلاقات الثنائية المربحة مع كل دولة من حلفاء أميركا على حدة، ومؤخراً امتد هذا التبادل التجاري للهند ذاتها حيث بلغ حجم التبادل التجاري بين الدولتين 136 مليار دولار، وفي كل هذه الدول هناك قوى اقتصادية وسياسية ضخمة (مصنعو السيارات، شركات التكنولوجيا، قطاع التعدين) تضغط ضد أي تصعيد يهدد العلاقات التجارية المربحة مع الصين. كما تعد الصين محركاً رئيسياً للاتفاقيات التجارية الإقليمية الكبرى مثل الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة (RCEP)، والتي تضم اليابان وأستراليا وكوريا الجنوبية. هذه الاتفاقيات تزيد من التكامل الاقتصادي الإلزامي للدول المشاركة مع الصين. 

 وبالإضافة إلى مبادرة "الحزام والطريق"، والتي ستربط معظم دول العالم بشبكة مواصلات واتصالات وسلاسل توريد مع الصين، أطلق الرئيس الصيني شي جين بينغ مبادرة التنمية العالمية في عام 2021 لتعزيز التعاون في مجالات التنمية ومكافحة الفقر والأمن الغذائي، بهدف تقديم الصين كقائد للتنمية العالمية، وتقديم بديل شامل ومربح للجانبين للمبادرات الغربية والأميركية التي تُركز على المنافسة الجيوسياسية.

 إذاً، من الواضح أن الأمور حتى الآن، وعلى عكس تصورات منظّري نظرية "فخ كندلبيرجر" ليست متجهة ناحية صدام مباشر بين الولايات المتحدة الأميركية والصين، ويبدو أن خيارات الولايات المتحدة متجهة فقط لمحاولة إجبار الصين على تأجيل خطوتها تجاه تايوان، وحتى في حالة قيام الصين باللجوء إلى حلول وسط مثل فرض الحصار البحري والجوي على تايوان، فإن عبء المواجهة، إذا كان هناك ثمة مواجهة، فلن يكون على كاهل أميركا بكل تأكيد وإنما على كاهل الحلفاء.

أحمد صبري السيد علي - باحث تاريخي.

Copyright © 2017 Al Eshraq TV all rights reserved Created by AVESTA GROUP