25/12/2025
ثقافة و فن 17 قراءة
عام «الزبالة الرقمية»!

الاشراق
الاشراق | متابعة.
مثل كل عام، اختارت مؤسسات لغوية كلمات تعكس الاتجاهات الثقافية والاجتماعية والسياسية لعام 2025. وقع اختيار «أكسفورد» على «طُعم الغضب»، وكامبريدج على «شبه اجتماعي» في حين أعلن «ميريام ويبستر» اختياره كلمة «ركام رقمي» (Slope) وربما تصح ترجمتها بـ «زبالة رقمية». أما «كولينز»، فاختار مصطلح «برمجة المزاج». وفي فرنسا، أبرز قاموس «لو روبير» كلمة masculinisme، إلى جانب كلمة «وش» (اختصار للتحية المغاربية التي أصبحت دارجة في المحكية الفرنسية)، وكلمة «تحريضي».
يجري اختيار «كلمة العام» بعملية تمثل مزيجاً دقيقاً بين التحليل الرقمي وحكم المحررين المتخصصين، إذ تقوم القواميس بمسح مليارات الكلمات من الأخبار والكتب ووسائل التواصل الاجتماعي لرصد الارتفاعات المفاجئة في الاستخدام، والتحولات الدلالية، والأنماط التي تعكس صدى ثقافياً واجتماعياً. وتساعد أدوات مثلSketch Engine، إلى جانب قواعد البيانات الخاصة بكل قاموس، على استخراج الكلمات المرشّحة، بينما تكشف أدوات التحليل ارتفاع البحث عن الكلمات التي يبحث عنها الجمهور لمعرفة معناها.
ولكل قاموس منهجه الخاص: «أكسفورد» يركّز على التغيرات الدلالية، و«كامبريدج» على فضول المستخدمين، و«ميريام-ويبستر» على النقاش العام، و«كولينز» على اتجاهات الثقافة الرقمية. وما يجمع هذه التقاليد كلها هو استخدام اللغة كمرآة للحياة الاجتماعية. ومع ذلك، يحمل اختيار الكلمة طابعاً سياسياً أيضاً، من حيث أنّه يحدد مَن يملك سلطة تقرير الكلمات ولماذا، وما الذي يُصاغ في الذاكرة الثقافية الجمعية، ولا سيما أنّ الخوارزميات تقوم مقام حارس البوابة اليوم، فقد يتوقع المرء منا بسذاجة أن كلمة مثل «غزة» أو «إبادة» أو حتى «حرب» ستكون ضمن الكلمات التي ارتفع حضورها والنقاش حولها في 2025، ولكن...
بدأ تقليد اختيار «كلمة العام» في ألمانيا عام 1971، عندما اختارت «جمعية اللغة الألمانية» كلمة «المتمرد» (aufmüpfig)، التي جسدت روح الشباب وحركات الثقافة المضادة في ذلك الوقت، وانتقل التقليد إلى مؤسسات لغوية أوروبية بدءاً من 2003.
لنعد إلى كلمات 2025، فكلمة «طُعم الغضب» التي اختارها «أكسفورد»، تعني اقتصاداً خفياً يقوم على الإتجار بالكراهية خاصة العنصرية منها. ارتفع تداول هذا التعبير على إثر تحقيق لصحيفة «التايمز» عن شخصية وُصفت بـ«ملك إعلانات فايسبوك».
يقود الخيط إلى سريلانكا، حيث يقيم صانع محتوى يُدعى سوريابورا، يُنسب إليه تحقيق أرباح طائلة عبر بثّ أكاذيب مصمَّمة للاستفزاز، من قبيل الزعم بأن المساكن البلدية مخصّصة للمسلمين وحدهم، أو أنّ «حزب العمّال» خاضع لإدارة إسلامية. ولا يكتفي سوريابورا بإنتاج هذا المحتوى، بل يدير «أكاديمية» متكاملة لتدريب آخرين على استنساخ النموذج نفسه، شارحاً كيفية توجيه الصفحات واستهداف فئات بعينها. في هذا الاقتصاد القائم على النقرات، يتحوّل الغضب إلى وقود: كل تفاعل إضافي يرفع العائدات الإعلانية، وكل استفزاز محسوب يراكم الأرباح. ويذكر التحقيق أنّ سوريابورا حقق أكثر من 300 ألف دولار في عام واحد من هذه الصناعة التي تقوم على زراعة السخط.
لا تكشف قصة «ملك إعلانات فايسبوك» عن انحراف فردي أو حالة شاذة في بيئة رقمية منفلتة، بقدر ما تفضح منطقاً بنيوياً يحكم اقتصاد المنصات ذاته. فالمسألة هنا ليست الكذب بحد ذاته، بل قابليته العالية للتداول ضمن منظومة خوارزمية تكافئ المحتوى القادر على إثارة الانفعال، وليس ذلك القادر على إنتاج المعرفة. في هذا السياق، يتحول الغضب إلى مورد اقتصادي، تُستخرج قيمته من زمن الانتباه، ويُعاد تدويره في دورة لا نهائية من النقرات والتفاعلات. استراتيجية إنتاج كاملة، تتلاشى فيها الحدود بين الإعلام، التسويق، والدعاية السياسية، ليظهر نموذج جديد من الفاعلين: ليسوا صحافيين ولا ناشطين، بل مقاولون للانفعال.
أما مفردة «شبه اجتماعي»، فتصف حالة التعلّق العاطفي مع كيانات لا تبادلك الشعور، نوع من الحميمية الوهمية التي يكوّنها الجمهور مع المؤثرين أو الشخصيات المولَّدة بالذكاء الاصطناعي. وهي الكلمة التي اختارها كامبريدج للعام، وعبرها يسلط القاموس الضوء على السلطة غير المتكافئة المتضمنة في تصميم المنصات، والقادرة على تحويل أشد العواطف خصوصية إلى عملة.
يشير مصطلح «برمجة المزاج» الذي صاغه المبرمج أندريه كارباثي من OpenAI، إلى إعطاء تعليمات للذكاء الاصطناعي بلغة عادية ليقوم بتشفيرها، متجاوزاً صرامة البرمجة التقليدية وصعوبتها وقواعدها الدقيقة. باختيار هذا المصطلح، يشير قاموس «كولينز» إلى تآكل الحواجز التقنية، وإلى عملية دمقرطة الإنتاج الرقمي، ويبرز التوترات الدقيقة بين الوكالة البشرية واستقلالية الآلة التي تعيد تعريف الحدود بين التأليف والعمل في العصر الرقمي. يذكر أن تقارير نشرت قبل أعوام تشير إلى أن مهنة المبرمج إلى زوال «بفضل» الـ AI.
اختيار قاموس «ميريام ــ ويبستر» «الركام الرقمي» أو «النفايات الرقمية»، ككلمة عام 2025 يجسد الفوضى والفيض المستمر في مشهد المعلومات الرقمي. تشير المفردة اليوم إلى ركام كبير من المحتوى الرديء، والمولد غالباً بواسطة الذكاء الاصطناعي، ويعكس عالماً تتفوق فيه الكمية على الجودة، ويتشرذم فيه انتباه الفرد إلى شظايا بينما يتنقل من محتوى رديء إلى آخر، ويعيش في منظومة معلوماتية مشبعة بتلفيقات وترهات ليس لها آخر.
أما في المجال الفرنسي، فقد شهد اهتمام الجمهور بـ «الذكورية» (masculinisme) في عام 2025 ارتفاعاً ملحوظاً، ليصبح مؤشراً لغوياً وثقافياً مميزاً، وليس مجرد إحصائية قاموسية. وفقاً لـ «لو رويبر»، ارتفعت عمليات البحث عن المصطلح بنسبة تقارب 800% هذا العام، ليصبح أكثر الكلمات استشارةً على موقع المعجم. يرتبط المصطلح بحركة متباينة تنتشر على وسائل التواصل الاجتماعي، غالباً عبر المؤثرين، وتتميّز بالدفاع عن الأدوار التقليدية للرجال ومعارضتها للتقدم النسوي، وهو تحول أثار جدلاً واسعاً على المنصات الرقمية والشاشات.
ووفقاً لتحليلات مختلفة، فإن بروز كلمة «الذكورية» لا تعكس الفضول اللغوي فقط، بل يشير إلى قلق ثقافي أعمق حول العلاقات بين الجنسين، والهوية، والتغير الاجتماعي في فرنسا المعاصرة، إذ تعود النقاشات اليوم حول المساواة وردود الفعل المناهضة لها، إلى النقاش العام والتفاعل الرقمي اليومي... أهلاً بالدمقرطة الرقمية والرجعية في آن!
بقلم وصال الوردي