23/12/2025
دولي 14 قراءة
"فورين بوليسي": كيف نمنع تعافي غزة من أن يتحوّل إلى مشروع يمتدّ لثمانية عقود؟
.jpg)
الاشراق
الاشراق | متابعة.
مجلة "فورين بوليسي" الأميركية تنشر مقالاً يتناول تحديات وآليات إعادة إعمار قطاع غزة بعد الحرب، مركّزاً على أنّ القضية ليست فقط عملية هندسية أو مادية، بل مشروع شامل يجمع البعد البشري والاجتماعي والسياسي مع التخطيط والتمويل والتنفيذ الواقعي.
أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية:
عندما تنتهي الحروب، ينبغي أن يتجه التركيز إلى ما يليها: العمل الشاقّ لإعادة الإعمار. في قطاع غزة، سيكون هذا الجهد على نطاق ما شهدته أوروبا عندما دُمِّرت مدنها خلال الحرب العالمية الثانية، وكذلك ما حدث في مدن عراقية وسورية سُوّيت بالأرض خلال الحرب ضدّ تنظيم "داعش".
يُثير وقف إطلاق النار الهشّ في غزة، وإطار السلام المُكوَّن من 20 بنداً، قدراً من الأمل، لكنّ التنفيذ يتطلّب واقعية صارمة. فالدمار في غزة هائل؛ إذ إنّ نحو 70% من المباني متضرّرة أو مدمَّرة، و90% من السكان نزحوا، والبنية التحتية الأساسية سُحقت، وسُوّيت أحياء كاملة بالأرض، وتعطّلت المستشفيات والمدارس، وانقطعت الخدمات الأساسية بشكل شبه كامل. وتُقدَّر كلفة إعادة الإعمار الشاملة بأكثر من 70 مليار دولار.
ولا يمكن البدء بإعادة الإعمار، بطبيعة الحال، إلا بعد تذليل العقبات السياسية والأمنية، إذ لم تُبدِ "إسرائيل" ولا "حماس" التزاماً حقيقياً بإعادة بناء غزة أو بتمكين ترتيبات الحكم اللازمة لمثل هذا الجهد. ومع ذلك، وحتى مع بقاء هذه القضايا عالقة، فقد حان الوقت للتفكير مليّاً في التدابير المطلوبة لتحقيق تعافٍ فعلي. وإذا تعامل المجتمع الدولي والجهات الفاعلة الإقليمية مع إعادة إعمار غزة من دون رؤية مشتركة، وجداول زمنية واقعية، وتخطيط كافٍ، فإنّ المشروع محكوم عليه بالفشل.
وإذا تمكَّن المخطِّطون والمموِّلون والحكومات من التنسيق منذ البداية، فإنّ إعادة إعمار قطاع غزة ستكون عنصراً حيوياً في تهيئة الظروف اللازمة لتحقيق استقرار دائم. وستُحدِّد طريقة إعادة بناء غزة في السنوات القليلة المقبلة ما إذا كانت هذه اللحظة ستُكسِّر حلقة العنف الطويلة في المنطقة، أم ستكون مجرّد فجرٍ زائفٍ آخر.
لقد دمَّرت الحرب في غزة التراث الفلسطيني، كما تضرَّرت البيئة الطبيعية إلى حدٍّ قد يجعل كثيراً من الفلسطينيين غير قادرين على التعرُّف إلى منازلهم وحقولهم. وبينما يُعدّ إدراك حجم الخسارة والاعتراف باستحالة استعادة ما كان بالكامل أمراً ضرورياً، فإنّ المضي قدماً قد يتطلّب النظر إلى هذه اللحظة بوصفها فرصةً للبدء مُجدَّداً، وإعادة تخطيط البنية التحتية للقطاع برمّتها.
وقد طوَّرت مؤسسة "راند" رؤيةً موثَّقة لغزة والضفة الغربية، ويُظهر هذا العمل أنّ غزة قابلة لإعادة البناء، ليس فقط لاستعادة ما فُقد، بل لتصبح منطقة عصرية مستدامة تخدم سكّانها، وتُسهم في الاقتصاد الإقليمي، وربما تجذب السياح مستقبلاً. ويمكن لمدن قطاع غزة أن تنضمّ إلى مدن اقتصادية كبرى أخرى في الشرق الأوسط، مثل عمّان ودبي ومسقط و"تل أبيب". وتكفل هذه الرؤية تحويل غزة من رمزٍ للخراب إلى نموذجٍ للتجديد الإقليمي.
مع ذلك، وحتى مع وجود رؤية واضحة، ستستغرق جهود إعادة الإعمار في غزة وقتاً أطول من إعادة الإعمار في العراق بعد تنظيم "داعش"، أو من التعافي من آثار إعصار كاترينا في الولايات المتحدة، وهو زمن أطول بكثير مما يتوقّعه العديد من القادة والجهات المانحة. كما أنّ الخطط التي تتصوّر إعادة إعمار غزة بالكامل في غضون خمس سنوات لا تأخذ هذا الواقع في الحسبان. وعلى الرغم من أهمية تسريع وتيرة إعادة الإعمار على المدى القصير، فإنّه حتى الدول المزدهرة وجدت أنّ التعافي من الكوارث الكبرى غالباً ما يستغرق عقداً أو أكثر، وفي السياقات غير المستقرّة والمُعرَّضة للصراعات قد يمتد الأمر إلى أجيال.
تُعدّ ألمانيا، على سبيل المثال، بعد الحرب العالمية الثانية نموذجاً واضحاً على ذلك؛ فحتى بعد مرور عشر سنوات، أُشيد بألمانيا الغربية باعتبارها معجزة اقتصادية، في حين كانت عملية إعادة الإعمار في ألمانيا الشرقية لا تزال غير مكتملة. ومن دون نهج دقيق، قد يمتد الجدول الزمني لإعادة إعمار غزة لعقود. ولا ينبغي أن يكون ذلك مدعاةً لليأس، بل للاستعداد. إذ تتناول خطة إعادة الإعمار العملية تحدّيات حتمية قبل إطلاقها، تتمحور حول عدم وضوح حقوق الملكيات العقارية، والأنقاض، والحاجة إلى السكن الفوري، والقيود المفروضة على المواد، وضعف الإدارة، ونقص العمالة. وكلّ واحد من هذه التحدّيات كفيل بعرقلة مسار تعافي غزة قبل أن يبدأ. ومع ذلك، يمكن التخفيف من آثار هذه العقبات عبر الرؤية والتخطيط المسبق.
تُعدّ مسألة ملكية العقارات عنصراً أساسياً في إعادة إعمار غزة. فكلّ قطعة أرض مملوكة لشخص ما، غير أنّ ملكيّتها غالباً ما تكون غير واضحة. وحتى قبل الحرب، كان نظام الملكية مزيجاً معقّداً من القوانين المحلية والإسرائيلية والعثمانية والبريطانية والمصرية، متداخلاً مع مطالبات بالحقوق في ظل فقدان السجلات، ما أدّى إلى استمرار النزاعات. ومن الضروري وضع إطار عمل واضح للملكية والتعويضات وحلّ النزاعات قبل الشروع في العمران الجديد واستعادة المجتمعات.
ويُعدّ التعامل مع الأنقاض التحدّي التالي، إذ تواجه غزة ما يُقدَّر بنحو 68 مليون طنّ من الأنقاض، وهو رقم يفوق بكثير ما شهدته مدن مثل الموصل، التي تراوحت كمية الأنقاض فيها بين 7 و8 ملايين طنّ متري بعد الحرب مع تنظيم "الدولة الإسلامية". وتحت أنقاض غزة، توجد رفات بشرية، إضافة إلى نحو 7500 طنّ متري من الذخائر الإسرائيلية غير المنفجرة. وقدّرت الأمم المتحدة أنّ إزالة الأنقاض وحدها قد تستغرق 20 عاماً. وفي الموصل، حيث بلغت نسبة الأنقاض نحو 15% فقط من مستواها في غزة، لا تزال عملية التنظيف غير مكتملة بعد مرور ثماني سنوات على نهاية الحرب.
وسيكون من الضروري تحديد أولويات المناطق التي يمكن تطهيرها وإعادة بنائها أولاً، وتطويق المناطق الخطرة، وتوفير المعدات الكافية، وإزالة الذخائر غير المنفجرة، وتأمين مواقع التجميع لمعالجة الأنقاض المُزالة، والتعامل بعناية مع رفات الضحايا. وتتطلّب عملية إزالة الأنقاض تعاوناً دولياً فعّالاً، وربما اعتماد تقنيات جديدة، مثل رسم خرائط المخاطر باستخدام الذكاء الاصطناعي، لتسريع وتيرة العمل.
كذلك، يمكن تحويل أنقاض غزة إلى مورد قيّم إذا أُعيد تدويرها في بناء الطرق والموانئ، أو حتى الجزر البحرية، كجزء من مشاريع إعادة إعمار مبتكرة. ويمكن لهذه الكمية الهائلة من المواد أن تُسهم في بناء غزة المستقبل. وفي المقابل، سيشكّل توفير السكن لجميع الفلسطينيين النازحين خلال فترة إعادة الإعمار تحدّياً كبيراً. فمع تضرّر أو تدمير معظم المساكن، يعيش سكّان غزة حالياً في ملاجئ مؤقتة على الشاطئ، وفي مدارس شبه مدمّرة، وفي خيم قرب أطلال منازلهم المدمّرة.
وقد يحتاج ما يصل إلى 1.5 مليون فلسطيني إلى مأوى مؤقّت في مبانٍ آمنة ومقاومة للعوامل الجوية، إضافة إلى الحاجة إلى المياه والكهرباء، ريثما يُعاد بناء منازلهم الدائمة. وغالباً ما يكون الخيار المعتاد في مناطق ما بعد النزاعات هو إنشاء مخيّمات يُفترض أن تدوم لأشهر، لكنها في الواقع تتحوّل إلى مدن دائمة. ولا يزال نحو ثلث اللاجئين الفلسطينيين المسجّلين يعيشون في مخيّمات في الشرق الأوسط أُنشئت بعد عامي 1948 و1967، وهو واقع يتجدّد اليوم مع اندلاع الحرب في تشرين الأول/أكتوبر 2023.
ويتمثّل النهج الأمثل في تطوير مساكن مؤقتة مُصمَّمة لتجنّب التخييم طويل الأمد. ونظراً لعدد المتضرّرين، فإنّ المخيّمات تصبح أمراً لا مفرّ منه. لذلك، تقترح خطة مؤسسة "راند" إنشاء مخيّمات مخصّصة لهذا الغرض، "مستقبلية التوجّه"، تكون قابلة للتطوّر لاحقاً إلى أحياء سكنية دائمة. وستضمّ هذه المخيّمات خياماً ومساكن متنقّلة ضمن أطر تخطيطية تسمح ببناء منازل دائمة في ما بعد، مع توفير وسائل النقل والخدمات الأساسية المرتبطة بالمدن المجاورة. كما يشمل ذلك إعادة تأهيل الأحياء الصالحة للسكن جزئياً، لتمكين العائلات من البقاء فيها أثناء عملية إعادة الإعمار التدريجية. أمّا في المناطق التي يكون فيها الدمار شاملاً، فيتعيّن هدم كلّ شيء وإعادة بنائه بالكامل، غالباً عبر عقود تُبرم مع شركات إنشاءات دولية كبرى.
وتُشكّل مواد إعادة الإعمار تحدّياً آخر. فمنذ سنوات، يعاني اقتصاد غزة من قيود صارمة على المواد ذات الاستخدام المزدوج، إذ منعت "إسرائيل" دخولها، ما يفرض اليوم إعادة نظر جادّة في هذه السياسة التي دمّرت قطاع البناء في غزة، من دون أن تمنع "حماس" من بناء شبكة أنفاقها. كما أنّ استمرار منع مواد البناء الأساسية لن يؤدّي إلّا إلى تعميق فقر غزة، وبالتالي إلى جولة جديدة من العنف في المستقبل. وفي المقابل، يمكن تلبية المخاوف الأمنية الإسرائيلية عبر آليات رقابة فعّالة وسلاسل إمداد شفّافة. وقد يكون تحمّل بعض المخاطر المحسوبة في ما يتعلّق بالمواد اللازمة لتعزيز التعافي هو المسار الأكثر أماناً للمضي قدماً.
ولا تقلّ أهمية عن ذلك مسألة تمويل وإدارة إعادة الإعمار. فمن المتوقّع أن تتدفّق مليارات الدولارات من أموال المانحين والاستثمارات الخاصة إلى غزة في المستقبل القريب. غير أنّ المال وحده لا يضمن النجاح، إذ لا تستطيع غزة تحمّل تدفّق التمويل بوتيرة أسرع من قدرة آليات الإدارة على استيعابه. ففي تجارب سابقة، كثيراً ما أعاقت الإدارة غير الكافية عمليات التعافي بعد النزاعات. وقد أشار تقرير عسكري حديث إلى عوامل عدّة وراء فشل الاستثمار الأميركي البالغ 145 مليار دولار في أفغانستان، من بينها هياكل رقابية لم تنجح في منع تفشّي الفساد.
ومن هنا، تبرز الحاجة إلى حوكمة وهياكل إدارية قادرة على تحديد أولويات المشاريع، ودمج صنع القرار المحلي مع الخبرات الدولية، والإشراف على المشاريع الرأسمالية الكبرى، وتنسيق جهود المانحين، وضمان شفافية تدفّقات الأموال. كما ستحتاج غزة إلى أنظمة تقنية أثبتت فعّاليتها، بما في ذلك منصّات موحّدة لتنسيق جهود المانحين، على غرار تلك التي طوّرها الاتحاد الأوروبي لأوكرانيا.
وأخيراً، ستتطلّب إعادة إعمار غزة قوّة عاملة ماهرة وواسعة النطاق، تشمل المهندسين والبنّائين، والمحاسبين، والمخطّطين، والإداريين. فقد استُنزفت القدرة العمالية في غزة بفعل الحرب، إذ قُتل أو أُصيب آلاف الرجال في سنّ العمل، فيما لا تزال مشاركة المرأة في سوق العمل منخفضة. وتُظهر تجارب التعافي الأخرى خطورة الاستهانة بهذه المسألة؛ فقد تباطأت إعادة إعمار جزر فيرجن الأميركية بعد الأعاصير لسنوات، بسبب نقص العمالة الماهرة وعدم توفّر مساكن كافية للعاملين الوافدين. ولتفادي شلل مماثل، ستحتاج غزة إلى برامج تدريب مهني لتأهيل الفلسطينيين لأعمال إعادة الإعمار، إضافة إلى استقدام عمالة دولية تُدار عبر عقود واسعة النطاق، مع توفير أماكن إقامة قريبة، مثل مصر عبر الحدود.
غير أنّ إعادة البناء المادي ليست سوى جزء واحد من عملية التعافي؛ إذ لا بدّ أن تترافق مع إعادة تأهيل اجتماعي ومؤسسي. فلن يتقدّم الإعمار من دون أمن مستدام واستقرار سياسي. وقد ينهار وقف إطلاق النار، أو تتراجع شهية المانحين، أو تتجدّد التوتّرات الإقليمية. كما لا ينبغي للمخطّطين الاستهانة بالبعد الإنساني، إذ إنّ الصدمات النفسية الواسعة، والإعاقات الجسدية الناجمة عن الإصابات، وفقدان التماسك الاجتماعي، وانعدام الثقة بين الفلسطينيين بعد سنوات من الحرب، تشكّل جميعها عوائق جدّية أمام التعافي.
ومع ذلك، يُظهر التاريخ أنّ الدول والمدن التي دمّرتها الحروب، من برلين إلى مدينة هو تشي منه وصولاً إلى بيروت، قادرة على إعادة البناء، بل والازدهار، إذا ما توفّر لها الوقت والنهج الصحيح. وسيُحدّد العام المقبل ما إذا كان تعافي غزة سيبدأ على أسس واقعية أم سيظلّ عالقاً في مستنقع الانتظار. ويكمن الفارق في التفاصيل، من خطط القوى العاملة إلى آليات التنسيق المؤسسي. وقد تبدو هذه التفاصيل تقنية، لكنها في الواقع أساس السلام والازدهار. فإهمالها كفيل بإجهاض حتى أكثر الجهود الدولية سخاءً، في حين أنّ إتقانها قد يمنح الفلسطينيين ما افتقدوه لعقود: ليس مجرّد إغاثة مؤقتة، بل فرصة حقيقية لإعادة البناء والبقاء في وطنهم.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الاشراق وإنما تعبّر عن رأي الصحيفة حصراً